أولوية العمل الاجتماعي في الإسلام
أحمد أبورتيمة
أرسل الله الإسلام لهداية الناس وإسعادهم في الدنيا والآخرة "فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"،وقد خاطب القرآن نبينا عليه الصلاة والسلام فقال:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، بل إن الغاية الكبرى لإرسال الرسل عبر التاريخ كانت هي إقامة العدل والقسط في حياة الناس كما أفاد بذلك قول الله تعالى في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) .
وما يعنيه هذا هو أن الإنسان سواءً كان فرداً أو جماعة هو محور الاهتمام في الإسلام ،فالإسلام لم يأت للرهبانية والانقطاع عن الناس وهجر الحياة،وفي نفس سورة الحديد ذم ربنا عز وجل فريقاً من النصارى في رهبانيتهم واعتزالهم الحياة فقال:"ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها"، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرهبانية فقال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه الذي كان يصوم النهار لا يفطر ويقوم الليل لا يفتر ويهجر امرأته فقال له نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام:" يَا عُثْمَانُ لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ ، ولَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ ".
لذا فقد أفرد الإسلام اهتماماً خاصاً بالعمل الاجتماعي الذي يعود بالخير على الناس ورفع من شأن كل عمل فيه تحقيق لمصالح العباد وقضاء لحوائجهم،وتفريج لكرباتهم وتهوين لمصائبهم ،والشواهد على ذلك لا يتسع المقام لحصرها، ففي القرآن الكريم تجد مثلاً الحث على المسارعة في فعل الخيرات،والتعاون على البر والتقوى،والتواصي بالحق والتواصي بالصبر،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والإنفاق على الفقراء والمحتاجين،وصلة الأرحام، وبر الوالدين والدفع بالتي هي أحسن وكظم الغيظ والعفو عن الناس ،كما تجد آيات أخرى تنهى عن البغي و الظلم والقتل وأكل أموال الناس بالباطل،والاعتداء،وغمط حقوق النساء واليتامى والضعفاء،وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وغيرها.
وكل هذه الأوامر والمنهيات القرآنية هي في حقيقتها أعمال اجتماعية لا يقتصر تأثيرها على فاعلها بل يتعداه لمنفعة الغير،وهذا يدلل على طبيعة الرسالة التي جاء بها الإسلام وهي إقامة القسط بين الناس، وإنشاء مجتمع قائم على العدل والتكافل والتراحم.
أما الأحاديث النبوية التي تؤكد هذه الحقيقة فنذكر منها هذا الحديث الوافي الكافي الذي يبرز بصورة جلية أهمية العمل الاجتماعي في الإسلام وأدعو إلى تأمل كل جملة فيه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دَيناً ، أو تطرد عنه جوعا ، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحبّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً - في مسجد المدينة - ومن كفّ غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبّت الله قدمه يوم تزول الأقدام.)
وهذا الحديث يقرر حقيقة مهمة وهي أن القرب من الله يمر عبر إعانة الناس ومنفعتهم،وهذا ما يضفي على الإسلام تميزه فهو ليس كالعقائد المنحرفة التي زعمت أن الدين علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه وأنه يجب أن يظل محصوراً بين جدران أربع وألا يتدخل في شئون الحياة، ففي الإسلام لا معنى للعبادة بدون العمل الاجتماعي،بل إن العبادة إن لم تقترن بحسن الخلق والمعاملة مع الناس فإنها تجلب الوزر لا الأجر، وهو المعنى الذي يتضح في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن امرأة تصوم النهار وتقوم الليل لكنها تؤذي جيرانها،فقال عليه الصلاة والسلام:هي في النار.
بل إن الشعائر التعبدية المحضة في الإسلام لا تخلو من أبعاد اجتماعية،وإذا تأملنا أركان الإسلام الخمسة نجد أن لكل منها آثاره الاجتماعية،فالصلاة مثلاً تجدد شحن المسلم بطاقة روحية تعينه على مواصلة دوره الاجتماعي وتهون عليه العقبات التي يواجهها في حياته، و الصوم يزكي النفس ويجعلها أكثر إحساساً بالفقراء والمساكين،أما الزكاة فأثرها الاجتماعي لا يحتاج إلى برهان فهي التي تحقق التكافل وتنشئ مجتمعاً متراحماً متحاباً لا يبغض فقراؤه أغنياءه ولا يحسدونهم ،والحج فيه اجتماع للمسلمين وتحقيق للمساواة بينهم لا فضل لغني على فقير ولا لأسود على أبيض كلهم بلباس واحد وفي صعيد واحد يدعون رباً واحداً..
وهكذا يستبين أمامنا أن الإسلام في جملته هو رسالة إصلاحية تهدف إلى إسعاد الناس في الدنيا والآخرة،وليس الانزواء بعيداً عنهم في المساجد والصوامع.
غير أن فريقاً من المسلمين قد ظلموا أنفسهم وظنوا بالله غير الحق ظن الجاهلية،تعرفهم بسيماهم يجتهد أحدهم في الصلاة والصيام وهو مانع للزكاة ظاناً أن صلاته وصيامه يشفعان له ويعفيانه من مسئوليته تجاه الفقراء والمساكين،وآخر يحرص على أداء العمرة والحج في كل عام وهو قاطع لرحمه مغتصب لحقوق الناس،وما علم هذا المسكين أن الله لم يفترض عليه إلا حجة واحدة إن استطاع،أما حقوق الناس فهي معلقة في رقبته لا تسقط إلا بأدائها أو مسامحة أصحابها،حتى لو قضى شهيداً في سبيل الله ،بل إنه لو لم يكن مديناً لأحد فإن هناك أوجهاً من عمل الخير أولى من العمرة وحج النافلة،ويروى أن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه كان في طريقه إلى الحج فوجد امرأةً تبحث في القمامة حتى وجدت طائراً ميتاً فأخذته لتأكله من شدة الفقر فلما رأى حالها أعطاها كل ما لديه من أموال ولم يبق معه إلا ما يبلغه طريق الإياب ولم يحج بل قال لمن معه: هذا أفضل من حجنا لهذا العام ، وهذا هو فقه مراتب الأعمال أن يقدم الفاضل من الأعمال على المفضول وإن كان خيراً ،وهو الفقه الذي وصفه الإمام ابن تيمية بأنه حقيقة الدين،وحاجتنا إلى هذا الفقه في هذا الزمان كحاجة الظمآن في فصل الصيف إلى الماء البارد.
فليس من الدين أن نقابل الأزمات الطاحنة التي نعيشها من فقر وبطالة وفساد وظلم بالانسحاب من المجتمع والاعتكاف في الزوايا، لأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
وليس من الفقه في شيء أن ينفق الغني أمواله في الحج والعمرة كل عام،أو في زخرفة المساجد إلى حد الإسراف والترف،ويترك المجتمع غارقاً أزماته،لكن مقتضى الفقه في الدين أن ينفق هذه الأموال في الأوجه الأكثر نفعاً للمجتمع،فيساعد فقيراً أو يقضي ديناً أو يفرج كرباً،أو يزوج شاباً أو ينشئ مستشفى أو مدرسة أو جامعةً،ولسان حاله كحال عبد الله بن المبارك إذ قال: (هذا أفضل من حجنا هذا العام).
والله تعالى أعلم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق