لن يخلو زمان من قائمين لله بالحجة يستمسكون بدينهم مهما اشتدت المحن وعظمت الخطوب ويجاهدون في الله حق جهاده ويجودون بأرواحهم ودمائهم راضين في سبيل الله. زماننا هذا كغيره من الأزمنة لم يخل من هذه النماذج المشرقة التي بددت الظلمات ونشرت النور. لكن كثيراً من هؤلاء المجاهدين قد خفت ذكرهم بين الناس رغم ما قدموه من نماذج رائعة في البذل والعطاء..لذا فإن من حق الكلمة علينا أن نحيي ذكر هؤلاء الأبرار بين الناس حتى نعزز معاني الخير في نفوسهم ونقدم لهم النماذج التي تصوغ حياتهم فهم الأجدر بالتأسي من ساقطين وساقطات اتخذهم البعض مثلاً أعلى.. صاحبنا هذه المرة ليس رجلاً ولكنها امرأة ضعيفة أحالت ضعفها الأنثوي إلى قوة روحية ومصدر إلهام للآخرين، تفوقت بهمتها على كثير من الرجال وأقامت الحجة على النساء بأن المرأة يمكنها أن تزاحم الرجال وأن تسبقهم في ميدان العطاء.. لم تعش هذه المرأة طويلاً فقد قضت وهي في السابعة والثلاثين من عمرها، ولكن ليس المهم كم عاش الإنسان، بل كيف عاش.. إنها شهيدة الإسلام السورية بنان الطنطاوي ابنة العالم الفقيه علي الطنطاوي وزوجة المفكر عصام العطار والتي اغتالتها مخابرات الطاغوت في بلاد الغربة ألمانيا سنة 1981. لقد تعالت هذه المرأة عن التوافه والدنايا، فلم يكن همها الوحيد الزينة والمظهر بل عاشت من أجل دعوتها فسخرت حياتها لخدمة الدين . ذاقت مر الابتلاء حين سجن زوجها ولكنها تجرعت المرارة وكتبت إليه تواسيه:(لا تفكر فيَّ وفي أولادك وأهلك ولكن فكر في دعوتك وواجبك وإخوانك) وحين هاجر زوجها إلى ألمانيا فراراً بدعوته من الاضطهاد لم تطب نفس الزوجة المجاهدة بالبقاء وسط الأهل وزوجها وحيد مطارد في دينه، فلحقت به مهاجرةً إلى ألمانيا، وهنالك واصلت نشاطها الدعوي، فأنشأت مركزاً نسائياً للمسلمات، وكانت تقول «لا يكفي أن يسمعَ الناسُ منّا عن الإسلام؛ بلْ يجب أن يَرَوْهُ فينا ويُحِسّوه ويَلْمسوه لَمْسَ الأيدي.. يجب أن يَرَوْه دَمْعَةً لاهِبَةً في أعيننا لآلام المصابين، ويداً حانيةً تمسح جراحاتِ المعذّبين، وصَرْخَةً مُدَوِّيةً في وجه الظلم والظالمين، وعَوْناً خالصاً على الهداية والحق والخير في متاهات الحياة ونوازل الحياة وأن يُحِسّوهُ حُبّاً دافِقاً يَنْسَرِبُ من القلوب إلى القلوب ومشاركةً وجدانيّةً صادقة في السرّاء والضرّاء ، ورحمةً واسعة تَسَع الإنسانيّةَ كلَّها، وتَبْلُغُ الإنسانَ حيثما كان، وتتجاوزه إلى كلّ مخلوق.. كانت هذه المرأة تستمد العون والمدد من الله في مواجهة الشدائد والمحن التي صبغت حياتها وحياة زوجها وأهلها، حيث تقول ابنتها هادية عصام العطار عنها : (كانت أمي رحمها الله تعالى تُكْثِر من قراءة القرآن، وتكثر من الدعاء بفهمٍ وتدبّر، وخشوعٍ وتأثّر ؛ وكنّا نراها أحياناً وهي مستغرقة في تلاوة القرآن، فنرى الدموع تفيض من عينيها على خَدّيها وصدرها) من ثمارهم تعرفونهم وحين تتأمل ما كتبته هذه المرأة من خواطر تجدها كلمات نابعةً من قلب حي متصل بالله فهي كلمات تنبض صدقاً وحباً وتسامحاً حتى مع من أساء إليها..لا تسمع في حديثها ثأراً ولا انتقاماً إلا قيلاً سلاماًً سلاماً.. هذه الكلمات التي جمعت في كتيب اسمه (كلمات صغيرة) هي قليلة في حروفها لكنها عظيمة في معانيها تهز القلوب في عمقها. أترككم مع بعض هذه الكلمات كما هي دون تعليق فهي تتحدث عن نفسها دون حاجة إلى ترجمان. *********** تقول الشهيدة بنان الطنطاوي رحمها الله: **إن ما تفرضه على الناس بالقوة يزول إن ذهبت من يدك القوة وينقلب الناس بعده إلى نقيضه برد الفعل.. أما ما تغرسه في القلوب بالإقناع والحب فهو الذي يبقى ويرسخ ويثمر أطيب الثمار، ولا يمكن أن يقتلعه الطاغوت من القلوب التي رسخ فيها حتى لو اقتلع الحياة.. **إن البسمة الصادقة والكلمة الطيبة ربما انتزعت من القلوب أشواكاً من اليأس والشر وأنبتت في بعض القلوب أزهاراً من الأمل والخير وأنت لا تدري ولا تتكلف في ذلك أي جهد **لا تقابل الإساءة بالإساءة ولكن قابلها وأنت في موضع القدرة بالغفران والإحسان فنحن نريد أن نهدي لا أن ننتقم وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجزاؤنا كله إن شاء الله عند الله وحسبنا حسبنا ذلك من جزاء. **ما ندمنا قط على أننا وفينا لمن غدروا بنا من بعد وأحسنا لمن أساءوا إلينا من بعد ولو رجع الزمن إلى الوراء وبدأنا حياتنا من جديد لما فعلنا غير الذي فعلناه من قبل. **أسوة حسنة مؤثرة خير في بعض الأحيان من ألف خطاب وكتاب. **الحب راحة وسعادة وسمو والبغض عذاب وشقاء وانحطاط، فاختر لنفسك هذا أو ذاك. **إنني أنسى بسرعة إساءات الآخرين إلي، وأسامحهم بالقلب قبل اللسان، ولكنني لا أنسى أبداً إساءةً أسأتها لغيري ولا أغفرها لنفسي مهما تطاول عليها الدهر. **ما أصابني سراء سررت بها وشكرت الله عليها إلا تمنيت مثلها لكل أخ وأخت في الله ولسائر الناس وما أصابتني ضراء حزنت عليها وصبرت عليها إلا دعوت الله عز وجل أن يجنبها لكل أخت وأخ وأن يدفعها عن سائر الناس. **ما أزال أهفو إلى الكمال منذ وعيت بأجنحة المحبة والشوق والعلم والفكر والعمل الدائب بلا انقطاع، ولكن الكمال شئ لا يبلغه الإنسان على هذه الأرض وإن كان يقترب منه بمقدار إخلاصه ومثابرته ومجاهدته واستعداده وتوفيق الله عز وجل. **ما أعرفه قطرة صغيرة من بحر المعرفة البشرية، وما عرفته البشرية قطرة صغيرة من بحر المعرفة الشاملة التي لا تعرف الحدود فما أجدرني بالتواضع والخجل من جهلي وما أفسح مجال المعرفة وأمل التقدم أمامي وأمام كل البشر لو صدق العزم. **قد يكون ما نخفيه أدل على حقيقتنا مما نبديه..وما أكثر ما يكون المظهر مغايراً للمخبر أو أجمل منه..متى يستوي عندنا السر والعلن جمالاً ونبلاً؟ بل متى يزيد عندنا السر على العلن في الجمال والنبل؟ **إن للأمل والثقة بالله أجنحةً عجيبةً تحلق بالإنسان المؤمن الصادق في عوالم الحرية والنور، مهما كبله الطاغوت بالأغلال، وحاول حبسه في أقبية اليأس والظلام..فالحمد لله على نعمة الإيمان الصادق والأمل الواثق, فبهذه النعمة العظيمة كنا أقوى من القيود والقنوط والطاغوت في سائر الأيام والأحوال، وأقوى من الموت ونحن نواجه الموت كل يوم، فالشهادة في سبيل الله إن كتبت لنا الشهادة أنبل طريق وأقرب طريق إلى الجنة والخلود ومرضاة الله عز وجل. **هناك ألوان من السعادة لا يعرفها إلا من خبرها، سعادة لا تقاس إليها سائر مباهج الدنيا، ولا يمكن أن تشترى بكل مال الأرض. وكم غمرت قلبي هذه السعادة الذاتية السماوية ونحن نعيش بعضاً من أشد أيام حياتنا بين أطباق الظلم والظلام، وبراثن الغربة والوحشة والخطر والاضطهاد. **يا إلهي!كيف يستطيع إنسان أن يقتل إنساناً آخر بغير حق؟!وكيف يستطيع إنسان أن يعذب إنساناً مهما كانت الأسباب؟!! *********** هذا القلب الذي يفيض محبةً وتسامحاً لم يجد الطاغوت ما يكافئه به سوى القتل، فكانت الجريمة النكراء في السابع عشر من مارس سنة1981 حين اقتحم ثلاثة من عناصر المخابرات الطاغوتية بيتها الواقع في مدينة آخن الألمانية بحثاً عن زوجها عصام، ولما لم يجدوه أفرغوا رصاص حقدهم في جسدها الضعيف، ولم يكتف أشقى القوم بإطلاق خمس رصاصات على صدرها ورأسها بل أخذ يدوس على جسدها بقدميه دوساً شديداً حتى أسلمت روحها الطاهرة لبارئها ونالت ما تمنت.وصدقها الله وعده إذ ما كان لهذه الروح المحلِّقة في سماء المجد أن تموت في فراشها مخلدةً إلى الأرض. كأن هذه المرأة الطاهرة حين صفت روحها قد فتح لها باب من سجف الغيب فإذا هي تستشرف القدر المرسوم لها كما سيأتي، فهي تعبر لزوجها عن حنينها للعودة إلى وطنها سوريا فتقول: (كم أتمنى يا عصام –وهذا جزء من ضعفي البشري وشعوري الإنساني لم أستطع التخلص منه بعد-أن نعود قبل موتنا إلى دمشق وأن ندفن عندما يحم أجلنا بجوار من سبقنا من أهلنا وأحبابنا في تربة الدحداح..ولكن يبدو لي والموت يتعقبنا في كل وقت وفي كل مكان أننا سندفن في الغربة كما عشنا في الغربة..بعيداً عن الأهل والوطن.) وهذا ما كان فقد سجي جسدها الممزق في مقبرة هلس الألمانية . كما أنها كانت متأثرةً تأثراً خاصاً بقصة اغتيال الإمام حسن البنا رحمه الله وتحس أن نهايةً مشابهةً في انتظارها فتقول: (قصة اغتيال الإمام حسن البنا رحمه الله تهز ضمير الإنسان وكيانه..لا أدري لماذا تعادوني هذه القصة كما سمعتها من بنت الإمام الشهيد قبل سنوات وسنوات، وإن كنت أحس بأننا نعيش في ظروف مشابهة بعض الشبه لتلك الظروف، وأننا ندفع دفعاً بأيد متآمرة وظاهرة وخفية إلى مثل هذه النهاية المرسومة..وما أفجعها وما أجلها وأروعها في نفس الوقت من نهاية في سبيل الله.) ويكون لها ما تمنت فتأتي ظروف اغتيالها مشابهةً لظروف اغتيال الإمام حسن البنا فما أجلها وما أروعها من نهاية في سبيل الله. نسأل الله أن يرحمها ويتقبلها في الشهداء والصالحين وأن يلحقنا بها في دار السلام. "إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم".. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق