أحمد أبورتيمة
الكبر هو الذنب الذي عصى به إبليس ربه حين رفض السجود لآدم واستحق به الطرد من الجنة حيث لا مكان للمتكبرين فيها:"فما يكون لك أن تتكبر فيها"ولاحقته اللعنة إلى يوم الدين.
وأكثر بني آدم هم أتباع لإبليس فهم على طريقته،لذا فإن مرض البشرية المزمن عبر التاريخ هو الكبر،وكل مشكلات العالم اليوم سببها الاستكبار بدءً من البيت الصغير بين الأب وأبنائه أو بين الزوج وزوجته وانتهاءً بمشكلة استعلاء أمريكا في الأرض والزعم بأنها إله من دون الله.
تندلع المشكلات الكبيرة بين الناس من أسباب تافهة لأن كل فريق يصر على إنفاذ كلمته وعدم الرجوع عن موقفه وعدم كسر هيبته ،حتى وإن أدى ذلك إلى معالجة الخطأ بكارثة،ولو كان الإنسان مسلماً حقيقةً بأنه إنسان لا أكثر وأن كل ابن آدم خطاء لما وجد حرجاً في الاعتراف بخطئه والتنازل لصاحبه إذ تبين له أنه على حق،ولكنه يظن في قرار نفسه أنه يمتلك بعض صفات الألوهية فهو الأكبر والأعلى في زعمه ولا ينبغي أن يكون هناك معقب لحكمه، فيرفض التسليم بالحق ويصر أنها عنزة وإن طارت،ويرفض الحق لأنه جاء ممن هو أصغر منه سناً أو أقل علماً أو مالاً أو منزلةً بين الناس،وفي السلوك الاجتماعي يظهر الكبر في الاستنكاف عن مشاركة عامة الناس في طعامهم وحديثهم وأفراحهم وأحزانهم ،وهذا هو معنى الكبر كما بينه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه بطر الحق وغمط الناس أي احتقارهم والتعالي عليهم.
ومن يفعل هذه الأفعال في بيته أو بين زملائه في العمل أو في مجتمعه الصغير فهو يحمل في صدره بذور الاستكبار والقابلية له،وهو لا يختلف شيئاً عن قوى الاستكبار العالمية ولو قدر له أن يحكم العالم لما كان أفضل حالاً من جورج بوش الذي خاض الحروب لإثبات أن كلمة أمريكا هي العليا،فالعبرة بالقابلية النفسية للمرض،كما في القرآن أن من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً.
المستكبر ينازع الله في ألوهيته لأن الله هو المتكبر الوحيد بحق،وفي الحديث الشريف يقول رب العزة:(الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)،والمستكبر يقول للناس اتخذوني إلهاً من دون الله،وبينما يقول المؤمن "الله أكبر"،يقول المستكبر: "أنا أكبر"،وهو إن لم يقلها بصريح المقال،فلسان حاله يؤكدها.
والكبر هو مرض فرعون الذي خلده القرآن إذ قال "أنا ربكم الأعلى"،بل هو مرض جميع الأقوام الذين كفروا بأنبيائهم استكباراً من أنفسهم وهم يقولون:"أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا""،وما منع الكفار من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس هو نقص الأدلة على صدقه،ولكنه الكبر والأنفة،واحتقار شخص النبي الكريم عليه الصلاة والسلام "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".
ومن هنا كان تشديد الإسلام وتشنيعه على المتكبرين حيث يقول الحديث النبوي الشريف: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"،ويقول القرآن الكريم:"أليس في جهنم مثوى للمتكبرين"،وذلك لأن المتكبر يزعم أنه إله فإن لم يرجع عن ذلك كان دخول جهنم ضرورياً لكسر هذا الكبر وإقناعه بحقيقة نفسه:"لو كانوا آلهة ما وردوها"،وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
إن الكبر ضار بصاحبه أكثر من ضرره بغيره،وفي الدنيا قبل الآخرة،وذلك لأن من يتمكن الكبر من صدره فإنه يحيط نفسه بهالات كاذبة وحجب كثيفة من الألوهية المدعاة فلا يسمح لأحد بالاقتراب منه ويأنف مشاركة الناس ولا يتكلم معهم إلا بفوقية،وبذلك يحرم من الطمأنينة القلبية والسعادة الروحية،ويعيش في قلق واضطراب لعدم تمكنه من تحقيق ذاته الكاذبة:"إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه"،كما أنه يحرم نفسه من الاستفادة من علم الآخرين وحكمتهم وتجاربهم لأنه يأبى التواضع والاستماع لما عندهم،وبذلك يغلق على نفسه منافذ الفهم والإدراك،وتسد أمامه الآفاق:"فلا تفتح لهم أبواب السماء" ،ومن يصل إلى هذه الحالة فقد حكم على نفسه بالإعدام الروحي وبدأ طريق النهاية.
وحين يتحرر الإنسان من الكبر لن يجد حرجاً في اتباع الحق أياً كان قائله،وبذلك ستتفتح أمامه آفاق واسعة،وسيزداد علماً وهدى.
إن الطريق إلى خلاص البشرية بأسرها مما هو واقع بها من مصائب هو التخلص من مرض الكبر وتواضع الإنسان لأخيه الإنسان،فلا يعلو بعضهم على بعض ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله،فتكون المساواة الإنسانية لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح،وقد جاء الإسلام برسالة المساواة بين الناس:"تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله".
والدعوة إلى توحيد الله وعدم الإشراك به ليس حديثاً في الميتافيزيقيا وحسب كما يصورها البعض،ولكنها ضرورة اجتماعية وحضارية ملحة،وشرك هذا الزمان ليس بعبادة الأصنام الحجرية ،ولكنه بعبادة الطواغيت من الدول والحكام،وليس شرطاً أن تكون عبادتهم بالركوع والسجود بين أيديهم،ولكنها بالخضوع والذل لهم وطاعتهم في الباطل والإقرار بتجبرهم في الأرض.
إن هذه الآية التي تحدثت عن كلمة السواء تصلح لأن تكون قاعدة للحوار بين البشر وللمصالحة العالمية،وهي كما نرى لم تتطرق إلى الأحكام التفصيلية في الإسلام ولا إلى أركانه كالصلاة والزكاة والصوم ولكنها اكتفت بذكر القاعدة الكبرى التي تصلح ليجتمع عليها البشر وتكون قاسماً مشتركاً بين أتباع الملل والشرائع المختلفة،وهي المساواة الإنسانية والتخلص من روح الاستعلاء والاستكبار.
والتوحيد الذي جاء به الإسلام وقام عليه أمر الدين كله يعني في إحدى جوانبه المساواة بين البشر،فما دام الإله لهذا الكون هو إله واحد في السماء فهذا يعني أن كل من على الأرض هم عبيد له لا يحق لأحد منهم أن يعلو على غيره ويقول لهم إني إله من دونه.
والمسلمون ليسوا استثناءً من القاعدة وهم ليسوا مبرئين من هذا المرض،فهم بشر ممن خلق الله يصيبهم ما يصيب غيرهم من الأمم، وبعض المسلمين يظن أن كونه مسلماً يؤهله للاستعلاء على الناس وإخضاع رقابهم لحكم دولة إسلامية عالمية،وهذا التصور يجعلنا لا نختلف كثيراً عن أمريكا في روحها الإمبراطورية، والإسلام لا يدعو إلى العلو في الأرض: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً"،فالمشروع الإسلامي الحضاري ليس مشروع هيمنة واستعلاء ولكنه مشروع هداية وتعزيز لقيم العدالة والمساواة في الأرض ومحاربة للاستكبار أياً كان مصدره،وأينما تكون الدعوة إلى هذه القيم فثمة الإسلام حتى لو جاءت من غير المسلمين،كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:"أينما يكون العدل فثم شرع الله.
ستتخلص البشرية من مرض الكبر حين يعترف أتباع الشرائع والثقافات والقوميات المختلفة أن الآخر المختلف عنهم هو إنسان مكتمل الخصائص الإنسانية وأن لديه ما ينفع به العالم ،وأن الاستكبار في الأرض له عواقب وخيمة على الجميع ،وهو ليس في مصلحة أحد،حينها لن تظل البشرية على ملة هتلر الذي نادى بتفوق الجنس الآري ورفع شعار: "ألمانيا فوق الجميع"،وستصير ألمانيا وأمريكا وفلسطين والصومال مثل الجميع،ويطبق الجميع الوصية النبوية الخالدة:"كونوا عباد الله إخواناً"،وهي مرحلة سيصل إليها البشر بالعلم وبالتجربة بعد أن ذاقوا عاقبة الاستكبار،حينها فقط سيعم السلام وستتوقف الحروب والكراهية وسيكون الدين كله لله.
والله أعلى وأعلم...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق