الأربعاء، 21 يوليو 2010

التجديد في فهم التوحيد

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com
 
التوحيد هو أساس دين الإسلام كله،وما من نبي أرسله الله إلا برسالة التوحيد أن اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً،والتوحيد هو الحقيقة الكبرى التي قامت من أجلها السموات والأرض ،وما من حقيقة في هذا الكون من الذرة إلى المجرة،ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا تجليات لهذه الحقيقة الكبرى،وإن من شئ إلا يسبح بحمده.
 
 التوحيد هو إفراد الله بالعبودية،وعدم إشراك أحد من خلقه معه،فهو وحده الإله الخالق الرازق والمحيي والمميت والنافع الضار والمعطي والمانع،والعزيز القهار لا إله إلا هو،له الأمر وإليه المصير.
 
والتوحيد شرط  ضروري لصلاح الحياة،فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا،وما نراه في واقع حياتنا يقرب إلينا هذا المعنى،إذ لا توجد مؤسسة بمديرين أو دولة برئيسين،فلا بد من وجود شخص واحد له الكلمة الأخيرة والقول الفصل حتى تستقيم الأمور،ولا يحدث تناقض واضطراب،وهذا شيء آخر غير الاستبداد في الحكم،فقد يكون هناك تعدد في السلطات وتداول للحكم،ولكن قد علم كل اختصاصه وحدوده،فلا يكون هناك قراران متناقضان في وقت واحد.
 
ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل،فالأول يملك أمره أكثر من سيد،أحدهما يأمره بالتوجه يميناً والآخر يأمره بالتوجه شمالاً،فهو في حيرة واضطراب إن أرضى أحدهما أغضب الآخر إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه،أما الثاني فهو مملوك لسيد واحد فهو متفرغ القلب والجهد له،وكذلك مثل الشرك والتوحيد،فالشرك يشتت القلب ويمزق الجهد،ويخلق حالة من الاضطراب والقلق والصراع الداخلي العنيف لتناقض المشاعر واختلاف الدوافع،والمشرك مثله كأنما خر من السماء فتخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، وهكذا تستحيل حياة المشرك إلى عذاب أليم في الدنيا،قبل الآخرة التي يأتي فيها الجزاء موافقاً للعمل.
 
أما التوحيد فإنه يحرر النفس البشرية من التشتت والاضطراب وتنازع الدوافع،ويوجه كل طاقاتها في اتجاه واحد أعلى ،مما يورثها حالة من الطمأنينة والسلام الداخلي ‘ألا بذكر الله تطمئن القلوب’، التوحيد يعني الانسجام والتوافق مع الفطرة،فالموحد مجتمع القلب والهم والفكر،ولا يتلقى منهج حياته إلا من مصدر واحد متعال،وفي القرآن الكريم فإن التوحيد النقي من الشرك يثمر الأمن والهداية في حياة الإنسان:’الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون’.
 
ولا يتحقق انسجام النفس البشرية إلا بالتوحيد،لذلك فإن المؤمن العاصي يعيش حالةً من التناقض والتوتر لأنه يؤمن بتعاليم لا ينفذها في حياته،فهو يسعى للتخلص من هذا التناقض ويبحث عن حالة توافق وتوحد داخلي،فإما يرفعه إيمانه فيتخلص من الذنوب،أو توبقه ذنوبه فتقضي على دينه،فلا بد من توحيد داخلي بين أجزاء النفس. 
 
التوحيد في مفهومه البسيط هو الخروج من تعدد المظاهر وكثرتها إلى وحدة الأصل،وهذا هو مفهوم القانون الذي وضعه البشر لتسهيل التعامل مع ظواهر الكون،،فالقانون هو توحيد الظواهر الكثيرة والأحداث المتفرقة،وردها إلى أصل واحد،والإنسان يميل فطرياً إلى الخروج من حالة التعدد والتشتت إلى التجميع والتوحيد،لما في ذلك من راحة ويسر وتركيز للجهد،وهذا منهج نلمسه لدى العلماء المعاصرين ،فقد وحد العالم الفيزيائي جيمس مكسويل القوتين الكهربية والمغناطيسية في قوة واحدة هي الكهرطيسية،وذكر عن العالم العبقري ألبرت آينشتاين أنه قضى سنوات عمره العشرين الأخيرة وهو يحاول دمج الطاقات كلها بطاقة واحدة في محاولة للوصول إلى القانون التوحيدي للوجود،وذلك بعد أن وحد الطاقة والمادة في قانون واحد،ووحد الزمان والمكان في قانون واحد،ومثل هذه المحاولات من قبل علماء وازنين تدل على أن منهج التوحيد مغروس في أعماق فطرة الإنسان.
 
التوحيد ليس شأناً غيبياً وحسب لا صلة له بواقع حياة الناس،كما أساء فهمه كثير من المسلمين فظنوا أنه حديث في الميتافيزيقيا و الماورائيات،ولكنه ضرورة اجتماعية وسياسية وحضارية، فأن يعبد الإنسان إلًه واحداً ولا يشرك به شيئاً يقتضي أن يتحرر من الخضوع لأي قوة أو سلطان أرضي،وأن يكفر بكل الأصنام التي من دون الله،وهذه الأصنام التي تعبد من دون الله ليست مقتصرة على هبل أو اللات والعزة ومناة،التي كان يعبدها الأولون،فهذا الشكل من أشكال الشرك قد تجاوزه كثير من البشر في هذا الزمان حتى أولئك من غير المسلمين،وتناول الشرك بهذا المعنى هو جمود للفكر،وغياب عن الحاضر، لكن هذا التجاوز لأشكال الأصنام القديمة لا يعني تحرراً من الشرك،بل لا تزال هناك أصنام أخرى تعبد في الأرض من دون الله،والقرآن تحدث عن الهوى الذي يتخذه الناس إلهاً من دون الله ‘أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ‘،والهوى كلمة جامعة لكل ميول النفس، من حب المال والشهوات والزعامة والظهور والخضوع للطواغيت وغيرها،فهذه آلهة مزيفة يعبدها الناس من دون الله،وعبادتهم لها ليس بالسجود والركوع بين يديها،ولكن بطاعتها والخضوع لسلطانها،وهذا هو المعنى العميق الذي يوضحه النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعه عدي بن حاتم وهو يقرأ الآية:’اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله’، فاستغرب لأنهم لم يكونوا يركعوا لهم ويسجدون،فقال له النبي محمد صلى الله عليه وسلم ‘إنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم’فتلك عبادتهم لهم.
 
الشرك هو مشكلة عالمية،بل هو أساس مشكلات البشر كلها،ومن هنا نفهم سر كل هذا الإلحاح من قبل القرآن على معالجته،فلا تكاد صفحة من كتاب الله إلا ودعت إلى التوحيد وحذرت من الشرك تفصيلاً أو إجمالاً،لأنه أساس الأمر كله،وإذا كان الأساس فاسداً فسد البناء كله،والتوحيد يعني العدل،فما دام الإله واحداً في السماء فإن كل من على الأرض عباد سواسية ،فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي في أصل إنسانيته،ومشكلة البشر اليوم هي في استعلاء بعضهم على بعض،فالذين استكبروا في الأرض من الدول الكبرى،والحكام المستبدين يقولون للناس اتخذونا آلهةً من دون الله،إن لم يكن بصريح المقال فبلسان الحال،فهم يريدون ألا يكون هناك معقب لحكمهم وأن يكون الأمر كله لهم،وأن تكون لهم الكبرياء في الأرض،يعطون من يشاءون ويمنعون من يشاءون،وهم بذلك ينازعون الله في صفاته،ويشركون أنفسهم معه، وفي مجلس الأمن الدولي تنصب الدول الخمسة الكبرى أنفسها آلهةً في الأرض من دون الله،بابتداعهم ما أسموه حق النقض ‘الفيتو’،فإذا كان هناك إجماع عالمي على مسألة ما فإن من حق دولة واحدة من هذه الدول أن تلغي هذا الإجماع وتنفذ رأيها لا معقب لحكمها،وهذه الفكرة استفدتها من المفكر المعاصر جودت سعيد الذي اعتبر حق النقض هو الشرك الأكبر في هذا العصر،وهو مناقض لدعوة التوحيد العالمي التي جاء بها الإسلام أن تعالوا إلى كلمة سواء وألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
 
وهكذا فإن مصطلحات القرآن مثل التوحيد والشرك والأصنام ليست قوالب جامدةً أو قاصرةً على زمن انتهى،ولكنها مفاهيم حية وخالدة لها تطبيقاتها في كل زمان.
 
إن التوحيد بمفهومه الصحيح هو المدخل لإصلاح حياة الناس كلهم،لا حياة المسلمين وحسب، وإنشاء حضارة إنسانية قائمة على العدل،فحقيقة التوحيد هي إقامة العدل والمساواة الإنسانية في الأرض،وتحرير الإنسان من كل الآلهة المزيفة ظاهرةً وباطنةً،فالإيمان بالله وحده يمنح الإنسان قوةً نفسية وفكرية هائلة تحرره من الأوهام والخرافات وتزيل من قلبه أي خوف من غير الله،وتطلق عقله وفكره،التوحيد هو الذي يطلق طاقة تحررية تخلص الإنسان من أغلال العبودية والخضوع لأي أحد،فيصير كريماً عزيزاً لا تخيفه كل قوى الأرض ولا يرهبه طواغيتها،لأن أحداً من الخلق لا يملك له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ،ومهما أوتي من على الأرض من أسباب قوة ونفوذ فهم في حقيقة الأمر لا يملكونها لأنها زائلة عنهم،وإلى الله تصير الأمور.
 
كذلك فإن الموحد بالله لا تخلده شهواته إلى الأرض لأنها عرض زائل ولذة تافهة مؤقتة وما عند الله خير وأبقى،قلبه متصل بالله وحده في السماء،صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين،وإنسان يصل إلى هذه المرحلة هو وحده المتحرر الحقيقي،والآخرون هم عبيد أهوائهم وشهواتهم وسادتهم وكبرائهم.

                   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق