الجمعة، 30 ديسمبر 2011

هل هناك حدود لحرية التعبير؟؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

من المفاهيم الشائعة في ثقافتنا العربية أننا مع حرية التفكير والتعبير ولكن بحدود..

تبدو هذه العبارة براقةً في ظاهرها..ولكن هل ينبغي أن تكون هناك حدود لحرية التفكير أو التعبير بالفعل ؟..

بدايةً فإننا نقصد بحرية التعبير ما كان تعبيراً عن قناعة عقلية سواءً كانت تتفق مع ديننا أو تختلف معه، ولا يدخل في باب حرية التعبير السخرية والتهكم كالرسوم الكاريكاتورية أو الإخلال بالآداب العامة كأن يتجرد المرء من ثيابه أو يجاهر بالفاحشة، فهذه ليست آراءً أصلاً، بل هي جرح لمشاعر الآخرين..

التعبير هو صنو التفكير..فما دام الإنسان يفكر فلا بد أن يعبر ..وإذا لم يعبر الإنسان عن أفكاره ضاق صدره، وشعر بالاختناق..وفي كلام موسى عليه السلام مع ربه تتضح هذه العلاقة: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني"..فعدم انطلاق اللسان للتعبير عما يجيش في النفس يؤدي إلى ضيق الصدر، وقد امتن الله عز وجل على الإنسان بأن علمه البيان "خلق الإنسان علمه البيان"..

والتفكير بطبيعته لا يعرف الحدود، فعقل الإنسان يفكر في كل الاتجاهات. والأسئلة تقفز على أذهاننا فجأةً دون أن تنتظر إذناً بالدخول..فالإنسان لا يستطيع أن يقيد تفكيره بقيود ومحددات، أن يفكر في هذا الاتجاه ولا يفكر في الاتجاه الآخر..

الصحابة كانت تخطر ببالهم أسئلة في جميع الاتجاهات وكانوا يبوحون بها للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن يرد منها سؤالاً وإنما كان يجيب عليها بالحجة العقلية ولم يرد في سيرته يوماً أنه أسكت صحابياً لأنه يسأل، وأتحدى من قال غير ذلك أن يأتيني بدليل واحد..

بل في القرآن ذاته وهو كتاب الله رب العالمين كان يعرض أقوال الكفار ويرد عليها بالحجة والبرهان، فهو كتاب محاججة عقلية، وكان الله قادراً على أن يرد على هؤلاء الكفار بالقول إنني أنا الله رب العالمين وعليكم أن تؤمنوا بي أو أن أعذبكم، ولكنه عز وجل يريد أن يعلمنا نحن البشر القاصرين المخطئين أن نؤسس علاقاتنا على الإقناع وليس على الإسكات..

القرآن زاخر بالأدلة العقلية لإثبات ألوهية الله، والشبهات التي يعرضها الناس يرد القرآن عليها رداً إقناعياً وليس رداً سلطوياً..حتى في تلك الحالات التي كان البشر يسيئون فيها إلى خالقهم فإنه لم يكن يتخلى عن منهج المحاججة العقلية، فحينما قال اليهود بحق الله عز وجل قولاً عظيماً "يد الله مغلولة"..رد عليهم رداً علمياً وليس رداً انفعالياً غاضباً: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"..ولنا أن نقارن بين هذا الرد الإلهي القائم على الإقناع وإزالة الشبهات، وبين رد أحدنا حين يشتم فإنه سيتخلى عن لغة المنطق والحجة ويرد الشتيمة بأضعافها..

صحيح أن الله لعن اليهود بهذا القول "غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"، ولكن هذا اللعن هو حق إلهي كونه هو الخالق وهو الذي يعلم ما في الصدور، ويعلم أن قول اليهود لم يكن انطلاقاً من قناعة عقلية، بل هو جحود ونكران، ولكن حتى حين لعنهم فإنه لم يتخل عن المنهج الثابت بالرد الإقناعي العقلي "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"..

********

ما دام التفكير حراً بطبعه ولا يعرف الحدود فإن التعبير أيضاً يجب أن يكون حراً، فمن حق أي إنسان أن يعبر عما يجيش في صدره، وأن يتساءل، ومن حقنا أن نرد عليه ونبطل شبهاته بالحجة، ولكن ليس من حقنا أن ننهاه عن التساؤل لأننا إن فعلنا ذلك فلن يتوقف عن التفكير، وكل ما نكون قد فعلناه هو أننا خلقنا حالةً من الانفصام والازدواجية بين باطن المرء وظاهره، وبذلك فإننا نشجع النفاق ونقتل روح الإنسان، ونقضي على جو التفكير السليم..

أن يعبر كل إنسان عما يجيش في خاطره من أفكار فهذا هو الجو الصحي السليم الذي يخلق الإبداع ويثري الأفكار، لكن أن نكبت حرية التعبير وأن نلوح بسيف التهديد للناس إذا عبروا عما لا تهواه أنفسنا فإننا بذلك نغذي عناصر التوتر في النفوس، ونخلق لنا أعداءً في الخفاء يكون خطرهم أعظم مما لو كانوا تحت ضوء الشمس.



قد ننجح في إسكات الناس عن التعبير عن أفكارهم وطرح تساؤلاتهم، ولكننا أبداً لن ننجح في تغيير قناعاتهم أو في كسب قلوبهم، أو في الاستفادة من إبداعاتهم في تطور المجتمع "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".

********

حتى في الدائرة الضيقة التي نهى الإسلام عن التفكير فيها وهي التفكير في ذات الله، فإن هذا لا يمكن الاستشهاد به بأن هناك حدوداً لحرية التفكير أو حرية التعبير، لأن هذا النهي قائم على حجة عقلية أيضاً وهي أن الذات الإلهية فوق قدرة البشر على التصور، فلا توجد في متناولنا الأدوات التي يمكن الاستعانة بها في هذا التفكير، فهو تفكير لا يقوم على أساس علمي..والإنسان بحكم قصوره لا يستطيع تخيل شيء إلا وفق عناصر أولية متاحة له، فلو طلبنا منك أن تتخيل مخلوقاً غريباً فإنك ربما تتخيل كائناً له ثلاثة عيون مثلاً، أو ثلاثة أرجل، ولكنك حتماً لن تستطيع أن تخرج في تخيلك من دائرة العناصر الأولية المتاحة، فالأرجل والعيون نعرفها لذلك صرنا قادرين على تخيلها، وكل ما فعلناه هو أننا أعدنا ترتيبها أو غيرنا كميتها، ولكننا لم نتخيل شيئاً جديداً بشكل كامل..لكن الذات الإلهية ليس لها مثيل في كل مألوفاتنا، ولا يوجد في متناولنا ما يمكن الاستعانة به لنتمكن من تخيلها لذلك فإن النهي عن التفكير فيها ليس نهياً استبدادياً بل هو قائم على حجة عقلية "فإنكم لن تقدروا قدره"..

*********

سيقول فريق من الناس إن فتح الباب أمام حرية التعبير دون قيود سيتيح الفرصة لأصحاب الفكر المنحرف لإفساد عقول الناس، وهذا الرأي يديننا قبل أن يدين هؤلاء المنحرفين، لأننا نفترض أن الحق الذي بين أيدينا ضعيف ولا يستطيع مواجهة الباطل، والواثق من قوة حجته لا يخشى المواجهة الفكرية، فالحق يستمد قوته من ذاته وليس من إسكات الآخرين، وحين تكون الفرصة متكافئةً بين الحق والباطل للتعبير عن نفسيهما فإن الغلبة ستكون للحق، لذلك كان الكفار هم من يرفض مبدأ الفرص المتساوية للتعبير وليس النبي محمد "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"..

إن الواثق من حجته يرحب بطرح الأسئلة ولا يخشى منها، لأن هذه الأسئلة ستحفز عقله للتفكير للبحث عن إجابات عنها، وبذلك يكون الانتماء للدين هو انتماء على بصيرة، فإثارة الشبهات من شأنه أن يقوي حجة الإسلام لا أن يضعفها..

لو كان الرأي القائل بعدم فتح الباب للتساؤل صالحاً لزمان مضى فإنه لن يصلح في زمان الفضاءات المفتوحة الذي نعيشه..حيث تهب الأفكار من كل حدب وصوب وتغزو بيوتنا، ولم يعد يجدي أن نحجر على حرية الناس في التساؤل والتفكير، بل بات من الملح أن نبحث عن إجابات لكل الأسئلة المطروحة حتى تلك الحرجة منها إن أردنا إنقاذ أنفسنا من التلاشي..

والله أعلم..

الخميس، 22 ديسمبر 2011

"بل الإنسان على نفسه بصيرة"

آلية التبرير وكيف يخدع الإنسان نفسه؟؟

أحمد أبورتيمة

التبرير من الحيل النفسية اللا شعورية التي يلجأ إليها الإنسان ليقدم لنفسه أعذاراً أخلاقيةً لعمل غير أخلاقي، ويهدف الإنسان من وراء آلية التبرير إلى القضاء على حالة القلق الداخلي وتحقيق الاستقرار النفسي..

والإنسان مهما حاول فإنه لا يستطيع أن يعاند فطرة الله المغروسة في أعماقه، فيسعى إلى حالة من الوفاق والانسجام مع هذه الفطرة، لذا فإنه يبحث دائماً عن مبرر أخلاقي لكل عمل يقوم به ليسكت تأنيب ضميره، ويقضي على حالة الصراع الداخلي..

لو تأملنا في سلوك أنفسنا وسلوك الناس من حولنا فإننا نرى أن البحث عن مسوغ أخلاقي هو ضرورة لا بد منها للقيام بأي عمل، فمثلاً حين يعتدي شخص على شخص آخر فإنه يقول: (لقد أوسعته ضرباً..كان يجب أن أعلمه الأدب)..نفهم الشق الأول من هذه الجملة فهو حديث في تقنية الهجوم، لكن ماذا عن الشق الثاني "كان يجب أن أعلمه الأدب"..لماذا يدخل الناس في أحاديثهم مثل هذه التعبيرات، مع أنها لا تؤثر في تقنية العمل، ولا توجد ضرورة للنطق بها خاصةً حين يكون الحديث في المجالس المغلقة وليس أمام الناس..إن التفسير المنطقي لمثل هذه الكلمات التي نستعملها بكثرة هو أننا نبحث عن مسوغات أخلاقية لتبرير أعمالنا، وإقناع أنفسنا بصحة تصرفاتنا وموافقتها للحق والعدل..

إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في حالة من تأنيب الضمير والصراع الداخلي، فيلجأ إلى تقديم مبررات يخادع بها نفسه لتسكينها، أي أن الإنسان لا يكتفي بخداع الآخرين والكذب عليهم بل يخدع نفسه أيضاً ويكذب عليها..

وقدرة الإنسان على البحث عن مبررات لأفعاله قدرة عجيبة..فمهما كان فعل الإنسان منافياً للحق والعدل فإنه لن يعدم إيجاد المسوغ الأخلاقي له..مثلاً حين يسرق السارق يبرر هذه السرقة لنفسه بالقول "كل الناس يسرقون"، أو بالقول: "هذا الشخص غني ولن تضره سرقتي"، أو إذا كان شريكاً مع شخص آخر في السرقة فإنه يقول: "كان دوري ثانوياً، والآخر هو الذي يتحمل المسئولية الأكبر"، وإذا كان المسروق منه فقيراً لم يعدم السارق البحث عن مبرر آخر كيلا يؤنبه ضميره فيقول لنفسه مثلاً "كان يجب أن أفعل ذلك لأعيش"، وإذا ارتكب مجرم جريمة قتل بررها بالقول "هو أجبرني على ذلك"..

هذه الآلية التبريرية كانت حاضرةً في اجتماع إخوة يوسف حين تآمروا على أخيهم الغلام البريء، فكان لا بد من البحث عن مسوغ أخلاقي يجمل قبح جريمتهم في أنفسهم، ويكون عوناً لهم حتى لا يترددوا في تنفيذها فكان هذا المسوغ: "يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين"، ويبدو أن هذا المسوغ لم يكن كافياً ليحقق لهم الاستقرار النفسي، ويخلصهم من وطأة الذنب، فكان لا بد من إيجاد مبرر آخر يخدعون به أنفسهم ليسكتوا صوت الفطرة الذي يقض مضاجعهم فكان هذا المسوغ بعد سنوات طويلة: "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل"..

في آلية التبرير يكون الإنسان قد اتخذ موقفاً مسبقاً، ثم بعد ذلك يبحث عن مدعمات لهذا الموقف، فهو لا يتخذ موقفه بناءً على الأدلة والبراهين المنطقية، بل إنه يبحث في هذه الأدلة والبراهين ما يناسب هواه، ويستبعد الأدلة والبراهين الأخرى التي تدينه، كما نرى في القرآن الكريم "وإذ لم يهتدوا فسيقولون هذا إفك قديم"..فالموقف المسبق هو أنهم لا يريدون الإيمان ثم يأتي بعد ذلك مبررهم أنه إفك قديم، وليس أن عدم إيمانهم به كان بناءً على قناعة عقلية، وهذا يقربنا من رأي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي يرى بأن العقل البشري ما هو إلا وسيلة للبقاء مثله مثل خرطوم الفيل وناب الأسد، وليس وسيلةً للبحث عن الحقيقة..

حين يتخذ أحدنا موقفاً جديداً فإنه يستحضر كل الأدلة المعضدة لهذا الرأي مع أن نفس هذه الأدلة كانت قائمةً قبل هذا الموقف ولكنه كان يسقطها ويتجاهلها..

مثلاً إذا كان أحدنا يحب إنساناً فإنه سيتجاهل سقطاته وعثراته ويغض النظر عن عيوبه..ولكن إذا حدث الانقلاب بعد ذلك وتحول الحب إلى كراهية فإنه سيستحضر كل هذه السقطات والعثرات وسيبرزها إلى السطح وهي ذاتها التي كان يسكت عنها، وذلك ليبرر لنفسه موقفه الجديد..

هذا من أعظم الأدلة على عمق آلية التبرير في نفوسنا وأننا نوظف عقولنا لمساندة أهوائنا أكثر مما نستعملها للاهتداء إلى الحق المجرد..

ويبقى رأي الوردي نسبياً يصلح للتطبيق على أكثر الناس، لكن حين يصل الإنسان إلى حالة من الشفافية والصدق فإنه سيمتثل للبرهان وحده مهما كانت الحقيقة بعيدةً عن هواه..

بحث الإنسان عن مبررات أخلاقية لأفعاله لا يقصد منه أن يبرئ نفسه أمام الناس، أو أن يفلت من العقاب، لأنه في حالات كثيرة يرتكب الإنسان جريمته بسرية تامة، ولا تكون هناك مخاوف من اكتشافها، وفي حالات أخرى يكون المجرم صاحب سلطة وقوة لا يخشى معها انتقام الناس منه، ومع ذلك تظل الحاجة قائمةً لإيجاد مبرر أخلاقي، فأمريكا مثلاً حين ترتكب جريمة قتل في بلد فقير ضعيف لا تخشى من انتقامه، ومع ذلك فإنها تربط بين هذا الفعل وبين محاربة الإرهاب والتطرف، والسعي إلى نشر الحرية والعدالة والسلام..

وهذا يدلل على أن هناك دافعاً أعمق من مجرد الهروب من العقاب، وهو الهروب من الفطرة الإنسانية، وإسكات القلق الداخلي الذي يحرم صاحبه من الاستقرار والطمأنينة..

وجود مبرر أخلاقي ضروري للإنسان، ولو لم يكن هذا المبرر موجوداً فسيسعى الإنسان لاختلاق أي مبرر..ومن الأمثلة الصارخة التي تدلل إلى أي مدىً تصل قدرة الإنسان على اختلاق الأعذار لتبرير أفعاله هو تصريح رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير حين قالت "لن أسامح العرب لأنهم يجبروننا على قتلهم"..فحتى حين يكون الفعل موغلاً في منافاته لأي خلق مثل قتل الأطفال فإن هناك قدرةً عجيبةً على استحضار مبرر أخلاقي وهو أن الضحايا هم الذين يجبروننا على ذلك!!...

لذا فإن من التبسيط المخل أن نفترض أننا الحق وأن الآخرين هم الباطل وانتهى كل شيء، وأنهم يحاربوننا من فراغ، بل إن علينا أن ندرس الخارطة الذهنية والتركيبة النفسية لهم ونفهم دوافع إقدامهم على الجريمة، فبينما ننظر إليهم بأنهم مجرمون قتلة، فهم ينظرون إلينا بنفس النظرة ويبررون لأنفسهم قتلنا بأنهم لو لم يقتلوننا فإننا نحن من سيقتلهم..

لكن هذه المبررات التي يختلقها الإنسان لتبرير أفعاله لا تغير الواقع الموضوعي، ولا تقلب الباطل حقاً، ويظل البحث الدقيق والتفكير العميق كفيلاً بأن يعري الإنسان أمام نفسه ويكشف لها الحقائق صارخةً، والإنسان الذي لا يطيق أن يعيش حياة تأنيب الضمير يحاول أن يتهرب دائماً من مواجهة نفسه ومكاشفتها لذلك فإنه يحذر من الخلوة ويسعى إلى إشغال وقته بالضجيج وبمخالطة الناس من أجل أن يسكت هذا الصوت المنبعث من أعماقه، فتقوده هذه المحاولات إلى إسكات صوت الحق المنبعث من داخله إلى الإصابة بداء ازدواجية الشخصية نتيجة عدم تحقيقه التوافق النفسي الذي يبحث عنه لأنه لا يستطيع قتل صوت الصدق والعدل الذي فطره الله عليه مهما حاول ذلك، وتتكون عنده شخصيتان متناقضتان شخصية ظاهرية وشخصية باطنية فلا يجد الراحة الحقيقية التي يبحث عنها، ويظل في حالة صراع وتشتت..

لكن حين يختار الإنسان الصدق مع نفسه فإنه سيخضعها لامتحان عسير ولن يخادع نفسه بمبررات واهية وستسقط كل الأغشية التي تحجب حقيقة نفسه وسيبصر هذه الحقيقة سافرةً بعد أن سقطت المعاذير فيتحقق حينها الانسجام النفسي بين الداخل والخارج، بين القول والفعل بين العقل الباطن والعقل الواعي ولن يظل هذا الإنسان ضحية صراع نفسي يمزقه بل سيكون قواماً بالقسط ولو على نفسه، وهذا الانسجام بين العقل الواعي والعقل اللا واعي هو الذي يحقق الطمأنينة والرضا الداخلي للإنسان ..

لقد أقام الله عز وجل على الإنسان الحجة من داخل نفسه "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره"، فمهما ساق الإنسان من مبررات واختلق حججاً ومعاذير فإن هذه المبررات لا تزيد عن كونها مكابرةً وعناداً وطمساً لنور الحقيقة، وفي لحظات الصفاء النفسي التي يبتعد فيها الإنسان عن ضجيج الحياة وأمواجها المتلاطمة يكون قادراً على التفريق بين ما يؤمن به حقيقةً وما يدعيه ويحاول أن يطليه بطلاء الأفكار والقناعات "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون"..

والله أعلم..

الأحد، 11 ديسمبر 2011

العمل الفعال

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

أن تصلح بين اثنين متخاصمين فهذا عمل صالح، لكن أن تقدم برنامجاً اجتماعياً يبحث في أسباب المشكلات الاجتماعية ويقدم أفكاراً لتعزيز ثقافة الوفاق والتسامح فهذا عمل صالح وأكثر فعاليةً..

أن تطعم أسرةً فقيرةً أو عدة أسر فهذا عمل صالح، لكن أن تقدم أفكاراً إبداعيةً لحل مشكلة البطالة، وتوفير فرص عمل للعاطلين، فهذا عمل صالح متعدي النفع، وهو أكثر فعاليةً وأكثر أجراً إن شاء الله.

أن تمد يد العون لشاب مقبل على الزواج فهذا عمل صالح لكنه لا يحل مشكلة مغالاة الناس في المهور وتكاليف الزواج، والعمل الصالح الفعال هو أن تساهم في تعزيز ثقافة تيسير الزواج وهدم القيم الجاهلية المعششة في عقول الناس التي تدفعهم إلى المغالاة في مهور الزواج وتكاليفه فهنا تمد يد المساعدة لأجيال كاملة وليس لشاب واحد..

أن تمد يدك إلى كيس قمامة ألقي في الطريق فتميطه فهذا عمل صالح..لكن ما هو خير منه هو أن تقدم فكرةً للقضاء على القمامة من أصلها عبر جمعها من البيوت قبل أن تصير قمامةً وتوزيعها على مصانع لإعادة تدويرها والاستفادة منها فهذا عمل صالح وفعال أيضاً..

العمل الأول يعود بالأجر على صاحبه في المقام الأول وربما يساهم في تنظيف مساحة محدودة جداً من الشارع، وهو حل يقوم على ترحيل المشكلة إلى مكان آخر، لكن العمل الثاني يتعامل مع جذور المشكلة ويقدم حلاً جذرياً لاجتثاثها فيكون الخير العميم عائداً على المجتمع والبيئة..

يوضح المثل الصيني فكرة الفاعلية التي نقصدها، فيقول: إذا أعطيت الفقير سمكةً أشبعته مرةً واحدةً، ولكن إذا أعطيته سنارةً أشبعته طول حياته..

العمل الصالح العادي هو عمل مشكور عليه صاحبه لأنه يقصد من ورائه الخير، لكن المجتمع لا يتقدم بمثل هذه الأعمال وحدها، لأنها أعمال فردية، والعائد من ورائها محدود، كما أن هذه الأعمال تتأقلم مع واقع المشكلة وتسلم بوجودها وتتحرك ضمن دائرتها، بخلاف العمل الفعال الذي يسعى إلى إحداث انقلاب جذري وتقديم حلول شاملة تساهم في القضاء على المشكلة من أساسها..

الفاعلية تعني الأثر الاجتماعي العائد من وراء العمل، وهي مقياس مهم إسلامياً، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس"، فكلما كان العمل أكثر فاعليةً وأكثر تحقيقاً لمصالح الناس كلما كان أرجى عند الله بالقبول، وبالتأكيد فإن العمل المؤسسي المخطط سيعود بفوائد أكبر على المجتمع من عمل فرد واحد إذا صدقت النيات، وكلمة واحدة يتحدث بها أحدنا من في فضائية يشاهدها الملايين أنفع للناس من خطبة مطولة لا يحضرها سوى بضعة آلاف.

والفاعلية يقتضيها علو الهمة الذي يحثنا عليه الإسلام، فالنبي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ويكره سفاسفها"..وعالي الهمة لا يرضى إلا بما يحقق أفضل نفع وأكبر خير للناس..

إن الإنسان ما ينبغي أن يبحث عن الخلاص الفردي وحسب، أو على إسقاط الفريضة عنه بالمعنى السلبي القائم، بل إن عليه أن يتحرى أكثر الوسائل والسبل لنفع الناس ولنشر الخير العميم ولمعالجة المشكلات من جذورها لا من أعراضها..

والعمل الفاعل لا يقصد به الكمية وحدها، بل النوعية قبل الكمية..لأنك تجد كثيراً من الشباب المسلم يحسن التعامل مع الوسائل الحديثة من فضائيات وانترنت، ويبدع في إيجاد وسائل لإيصال صوته لأكبر عدد ممكن، لكن المحتوى الذي يقدمه هو ذاته ليس ذا فاعلية كبيرة، فمثلاً لا يكاد يمر يوم إلا وتصلني عبر البريد الالكتروني رسائل من شباب لا تنقصهم الحماسة للدين يحثونك فيها على المسارعة للتصويت في أحد المواقع للحيلولة دون قرار لمنع النقاب أو الحجاب في إحدى الدول، أو يدعونك للمشاركة في حملة المليون استغفار أو المليون صلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، ويستحلفونك بالله أن تمرر هذه الرسالة على كل قائمتك البريدية، ومنهم من يحذرك بأنك إن لم تمرر رسالته فإنك مقصر بحق الدين، وأنه سيقاضيك أمام الله يوم القيامة، وأنا لا أريد أن أغلق باباً للخير، ولكني أشك أن تكون هذه هي الطريقة المثلى لخدمة الدين، فماذا لو حشدنا الملايين لهذا الاستغفار الشفوي، ماذا يكون بعد ذلك، والمؤسف أن بعض الشركات الغربية تستغل سذاجتنا وتسخر منا فتتعمد وضع مثل هذه الاستفتاءات على مواقعها من أجل جذب الشهرة إليها، ونحن لا نقصر في الترويج لهذه المواقع ونحسب أننا نخدم ديننا، وهي في حقيقتها مواقع مغمورة لا علاقة لها باتخاذ القرار في بلادها..

الاستغفار الفعال هو أن نصحح مسار حياتنا وأن نعقد مراجعةً شاملةً لكل أخطائنا فنتوب إلى الله جميعاً منها، لا أن نردد بألسنتنا ملايين المرات الاستغفار الشفوي..

كم كان استغفار ألفرد نوبل رائعاً حين أراد أن يكفر عن خطيئته باختراع الديناميت فخصص جائزةً سنوية لمن يقدم أفضل عمل في سبيل خدمة البشرية..إننا بحاجة إلى هذا النوع من الاستغفار الفعال!!..

لا يكفي أن تكون عندنا حماسة لديننا بل إن المطلوب أيضاً هو أن نتحلى بالوعي الكافي لبذل هذه الطاقة في اتجاهها الصحيح الذي يعود بأكبر نفع على المجتمع والأمة..

"فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"..

والله أعلم..

السبت، 3 ديسمبر 2011

زمان الإسلاميين..وأولويات ما بعد الفوز

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

ترتسم ملامح مشهد جديد في الوطن العربي يبدو فيه أن الإسلاميين يتقدمون بكل سهولة ليحتلوا مقاعد الصدارة وليمسكوا بزمام الأمور..

يمكن أن يقال إن زمان الإسلاميين بدأ قبل خمسة أعوام في فلسطين حين فاجأت حركة حماس العالم باكتساح الغالبية الساحقة من مقاعد المجلس التشريعي..ولأن كلاً من الغرب وإسرائيل وأنظمة الحكم الجبري تدرك خطورة نجاح نموذج الإسلاميين في الحكم فقد عملوا بكل ما أوتوا من وسيلة لإجهاض هذه التجربة الوليدة فتكالبت كل هذه الأطراف على تشديد الحصار على قطاع غزة في محاولة لإفشال خيار الإسلاميين ليس في فلسطين وحدها بل في الوطن العربي..لكن هذه المحاولات الحثيثة باءت بفشل ذريع ووقع ما كانوا يحذرون، فلم تنجح هذه المحاولات في فض الجماهير العربية التواقة إلى التغيير من حول الحركات الإسلامية، بل جاءت النتيجة معكوسةً فارتفعت شعبية حركة حماس في الشعوب العربية وصار ينظر إليها بأنها نموذج التضحية والصبر والثبات..

بعد خمسة أعوام من هذا الفوز اتسعت غزة لتشمل الوطن العربي كله، فأظهرت نتائج الانتخابات تقدماً واضحاً للإسلاميين في مصر وتونس والمغرب، وإن كانت الانتخابات المغربية دون المأمول لأنها تمت تحت سقف الاستبداد السياسي لكنها على كل حال كشفت طبيعة توجهات الشعوب العربية..

في ليبيا أيضاً يتضح نفوذ الإسلاميين في المجلس الانتقالي، وحتى في الدول التي لم تصل إليها رياح الثورة أدرك حكامها هذه الحقيقة فسارعوا إلى التصالح مع الإسلاميين في محاولة منهم لتسكين الغضب الشعبي كما يجري في الأردن من تقارب بين النظام وبين الإسلاميين سواءً كانوا إسلاميي الداخل الممثلين في الإخوان المسلمين أو إسلاميي الخارج الممثلين بحركة حماس..

كل هذه الوقائع والمؤشرات تدلل على أننا نطرق أبواب مرحلة سياسية جديدة يتحول فيها الإسلاميون من مرحلة الاستضعاف التي عاشوها منذ ثمانين عاماً وذاقوا فيها شتى صنوف التعذيب من قتل وإبعاد وسجن إلى مرحلة التمكين في الأرض التي كانوا ينتظرونها طوال هذه العقود والتي يتحقق فيها الوعد الإلهي القائل: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين"..

لكن ما ينبغي التنبه إليه هو أن وصول الإسلاميين ليس هو أهم ما في الأمر، بل العبرة هي فيما بعد ذلك، والسلطة لا تزيد عن كونها ابتلاءً جديداً يضاف إلى قائمة الابتلاءات الطويلة التي تعرض لها الإسلاميون طوال تاريخهم، بل إن هذا الابتلاء وهو الذي يسميه القرآن ابتلاءً بالخير هو أخطر من ابتلاءات مرحلة الاستضعاف التي تسمى ابتلاءً بالشر، لأن السجن والقتل والإبعاد يذكر الإنسان بربه ويستفز مخزونه الإيماني بينما حين يبتلى الإنسان بأن تفتح الدنيا عليه فقد ينسي ربه ويتهدد إيمانه بالضياع، وحين كان قوم موسى يستعجلون الانتقال من مرحلة الاستضعاف إلى مرحلة التمكين كان موسى عليه السلام يرد عليهم رداً حكيماً فيقول: "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"..فالعبرة ليست بالوصول إلى السلطة، بل ماذا سيعمل الإنسان بعد وصوله إلى السلطة..

هناك أولويات تنتظر الإسلاميين في مرحلة ما بعد السلطة..لعل على رأس هذه الأولويات العمل على ترسيخ أسس الحياة الديمقراطية، واجتثاث الجذور الاجتماعية والثقافية والسياسية التي أنتجت النظم الاستبدادية..

هذه الأولوية الوطنية مقدمة على تطبيق رؤى الإسلاميين الخاصة المنبثقة من المبادئ الإسلامية، وكل الأهداف الأخرى التي تنطلق من فلسفة الأحزاب الإسلامية الخاصة يمكن تأجيلها إلى مراحل لاحقة، لكن هدف تعزيز الديمقراطية في المجتمع تحديداً هو هدف غير قابل للتأجيل، وما لم ينجز هذا الهدف فإن مسيرة التحول الديمقراطي في الوطن العربي ستظل مهددةً بالانتكاس والارتكاس..

الثورات لم تقم لإزالة طاغوت واستبدال طاغوت آخر به، بل لاجتثاث الطغيان من جذوره لذلك لا بد من معالجة الأسباب الثقافية والاجتماعية والسياسية العميقة التي أنتجت الاستبداد في وطننا العربي، وإذا كانت الأنظمة السابقة قد تحولت إلى أنظمة استبدادية في ظل استفرادها المطلق بالسلطة وغياب المحاسبة والمراقبة، فإنه لا بد لأي نظام سياسي قادم أن يقوم على مبدأ الشراكة السياسية الحقيقية، وتوزيع السلطات وتعزيز الرقابة الإدارية والسياسية، وإشاعة ثقافة احترام الرأي الآخر، والشراكة بين الجمهور..لأن أي حزب مهما كانت روعة مبادئه وأفكاره فإنه لا يزيد في نهاية المطاف عن كونه جهداً بشرياً يعتريه الخطأ والقصور، ولا بد أن تستكمل جهوده بالأحزاب والقوى الأخرى التي تنظر من زاوية أخرى فترى أشياء جديدةً لا يراها هذا الحزب أو الجماعة، ولا يحق لأي حزب كائناً من كان أن يسعى إلى قولبة المجتمع كله في قالبه الحزبي، بل يحترم تعدد الآراء والاجتهادات دون تخوين أو تشكيك..

حين ينشأ جو ديمقراطي صحيح قوامه الحريات والتعدد، والتداول السلمي للسلطة، وتعزيز الرقابة والمحاسبة، ونشر الوعي السياسي في الشعب فإنه لا يضير حينها أن يفوز الإسلاميون أو العلمانيون، لأن أي جهة فائزة ستكون تحت دائرة الضوء ولن تستطيع أن تخرج عن الخط الوطني العام، وستصنع ألف حساب في كل خطوة تخطوها لرأي الشعب، أما حين يغيب هذا الجو الديمقراطي فإن فوز الإسلاميين أو غيرهم لن يكون ذا قيمة كبيرة لأنه لن يزيد عن كونه استبدال استفراد باستفراد، والاستفراد هو طريق الاستبداد والفساد..


الأولوية الثانية التي تنتظر الإسلاميين على رأس الحكم هي العمل على تعزيز الاستقلال والاعتماد على الذات، وإنهاء حالة الارتهان الاقتصادي والسياسي للغرب، فمن المعيب بحق دولة كبرى كمصر مثلاً أن تظل مرتهنةً لما يسمى بالمساعدة الأمريكية السنوية، وأن تستخدم هذه المساعدة التي هي ليست مساعدةً في الحقيقة لابتزاز المواقف السياسية، مع أن مصر تمتلك من الإمكانيات المادية والبشرية ما تستطيع أن تحقق به اكتفاءً ذاتياً، وأن تكون يدها هي اليد العليا وليست اليد السفلى، والتحرر الاقتصادي ضروري للتحرر السياسي ولاستعادة المكانة الإقليمية والدولية، لذلك فإن من الأولويات الملحة في المرحلة القادمة هي العمل على إشاعة ثقافة الإنتاج، وأن نأكل مما عملت أيدينا، وليس مما يلقى إلينا من فتات..

نعلم أنها مهمة ليست يسيرةً فهناك الكثير من العقبات، والغرب الاستعماري الخبيث يدرك جيداً خطورة تحرر العرب اقتصادياً وسياسياً على مستقبل هيمنته على العالم، وقد عمل طوال المرحلة السابقة على تعميق حالة الاعتماد عليه في كافة مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية والإعلامية والسياسية، لكنها مهمة ليست مستحيلةً أيضاً، وهي جهاد الساعة الذي ينبغي أن تتضافر كل الجهود من أجل إنجازه..


كذلك فإن من الأولويات التي ينبغي أن يعمل الإسلاميون عليها هي تعزيز حضور الهوية الإسلامية والعربية في المجتمعات في مجالات الإعلام والثقافة ومناهج التعليم، وعلى مكافحة مظاهر التغريب والسفور والانحلال الأخلاقي،

وليس من الحرية في شيء أن يطلق العنان للترويج للرذيلة والفساد والانحلال، فالحرية التي ندعو إليها ونطالب بالعمل على تعزيزها في المرحلة القادمة هي الحرية الفكرية والسياسية والعقائدية، وليست حرية الإباحية والفساد الأخلاقي..


والجماهير عطشى لكل ما يذكرها بتاريخها وقيمها الإسلامية، وما ينبغي أن تصل حالة التماهي ومحاولة استرضاء الآخرين من قبل فريق من الإسلاميين أن يخلعوا ثوبهم ويميعوا مبادئهم لإظهار أنفسهم بأنهم عصريون، فالجماهير تحترم من يعتز بهويته أكثر ممن يتخلى عن هذه الهوية، وهنا أقتبس كلمةً لرجل من خارج صفوف الإسلاميين وهو الدكتور عبد الله الأشعل الذي قال: "يجب على النظم الإسلامية أن تحترم هويتها وألا تصلَ مرونتها إلى حد الخروج من ذاتها؛ لأن الشعوب سوف تختار هذه القوى الإسلامية بناءً على فكرها المستنير وعلى ضمان استقلال بلادها وتحقيق العدالة فيها، وتلك هي المعضلة التي يواجهها الغرب".

هذه الأولويات هي أمثلة لما ينبغي أن تكون عليه طبيعة توجه الإسلاميين بعد إمساكهم للسلطة، وهي أولويات أظن أنها مقدمة على ما يسارع لطرحه الشباب المتحمس من الدعوة إلى فرض المظاهر الإسلامية، أو إعلان إسلامية الدولة، فمعالجة الجذور والأسباب أهم من معالجة المظاهر، والعبرة ليست بالشعارات بل هي بالعمل المتدرج الواعي..

والله الهادي إلى سواء السبيل..

ما الذي يضيفه الإيمان إلى حياتنا؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

هل الإيمان ضروري في حياتنا أم أنه من الكماليات يمكن الاستغناء عنه..هل يقوم بدور المقيد والمعطل لانطلاقتنا أم أنه يضع عنا الإصر والأغلال التي كانت علينا..ما الذي يستطيع الإيمان تقديمه للبشرية في عصر الحضارة والعلم، وهل لا يزال يملك القدرة على سد فراغ في حياة البشرية لا يستطيع غيره سدة؟؟

الإيمان يعني أن تنظر إلى الحياة نظرةً جديدةً وترى نفس الأشياء التي يراها غير المؤمن من زاوية مختلفة..

كل من المؤمن والكافر يعيشان على نفس الأرض ويأكلان نفس الطعام ويشاهدان نفس الطبيعة، لكن الفرق هو أن المؤمن يرى في كل ما حوله آيات بينات تستدعي فكره وتدفعه إلى الخشوع والسكينة، بينما يراها غيره ظواهر مألوفةً لا تستحق التوقف عندها..

طريق الإيمان هو التفكر، وفي القرآن مئات الآيات التي تدعونا إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وفي الحديث فإن تفكر ساعة خير من عبادة سنة..التفكر يعني أن يخرج الإنسان من دائرة الإلف والعادة ويرى في كل ما حوله جديداً ومثيراً ودالاً على الله..التفكر يعني أن يرتفع مستوى حساسيتنا تجاه الظواهر الطبيعية من حولنا فلا نمر عليها مرور الكرام حتى لا نكون من الغافلين أو المعرضين..

وبذلك فإن المؤمن الحقيقي يجب أن يكون فيلسوفاً حسب التسميات المعاصرة لأن الفيلسوف هو الذي يقرأ في الأشياء العادية معان جديدةً تبعث فيه روح الدهشة والإثارة..

سنضرب أمثلةً تبسيطيةً لمعرفة ما الذي يضيفه الإيمان إلى الإنسان..

كل من المؤمن وغير المؤمن يأكلان الطعام..لكن بينما يأكل غير المؤمن طعامه بنهم فإذا شبع قام وواصل هيامه في الدنيا دون أن يجد في الأمر أي معنىً يستحق التوقف فإن المؤمن إذا وضعت أمامه وجبة الطعام دخل عقله في سلسلة طويلة من التفكر والتدبر فتذكر كم من الأيدي عملت لإنجاز هذه الوجبة من زارع وصانع وتاجر حتى وصلت إليه ، وكيف أن مكونات هذه الوجبة ربما جمعت من أصقاع العالم ومرت في بلاد كثيرة قبل أن تصل بين يديه، وماذا لو لم تكن الأرض ممهدةً للزراعة، وماذا لو لم يكن هناك ماء لري الزرع.. وماذا لو تعطلت مهنة واحدة من المهن الكثيرة التي ساهمت في إنجاز هذه الوجبة..ثم يتفكر ماذا لو لم يكن يمتلك أسناناً قاطعةً وجهازاً هاضماً، أو لو أنه كان يعاني من إحدى الأمراض التي تحرمه من التمتع بلذة الطعام، وكم من الناس حوله لا يستطيعون أن يشتروا هذا الطعام، أو أن يتناولوه..

مثال آخر حين يذهب الإنسان للنوم فإنه يلقي بجسده على الفراش ويغط في نوم عميق وشخير..بينما المؤمن يستحضر في عقله وقلبه كل جوانب النعمة فيحمد الله أن كفاه وآواه ويتذكر كم ممن لا كافي له ولا مؤوي يبيتون في الشوارع، وكم من الناس في هذه الساعة قد حرمهم المرض أو الهم والقلق أو الحزن من هذا النوم الهانئ..

إن للإيمان فوائده العاجلة قبل الآجلة، فاستشعار أوجه النعمة يضاعف شعور اللذة والاستمتاع بها، ويبعث في النفس الرضا والسعادة، فمن يتدثر بغطائه وهو يستحضر في مخيلته البرد القارس في الخارج سيتلذذ بالدفء أكثر ممن لم يتذكر البرد أصلاً، ومن يأكل الطعام الشهي بعد جوع سيتلذذ بمذاق الطعام أكثر ممن يأكل وهو شبعان..

مثل هذه الأسئلة التي يفرضها الإيمان على صاحبه تخرج الإنسان من حالة الإلف والعادة القاتلة وتوقظ فيه ملكة التساؤل وتنمي إحساسه بالحياة..

وحين يدرب الإنسان نفسه على التساؤل والخروج من النمط المألوف بطرح أسئلة (ماذا لو) فإنه لا يعود أسيراً للواقع بل يصير قادراً على الاكتشاف والإبداع..

إن الخروج من الإلف والعادة مقدمة ضرورية للإبداع

مثال من المستوى الاجتماعي..هناك حدث واحد وهو مقتل القذافي..لكن نظرة كل من المؤمن وغير المؤمن تختلف تجاه هذا الحدث..فالإنسان بدون الإيمان يراه حادثاً مجتزأً مقطوعاً من أي سياق..لكن الإيمان يستدعي في قلب الإنسان السياق التاريخي لهذا الحادث فيراه حلقةً في سلسلة طويلة من مصارع الظالمين ويخشع قلبه وهو يتدبر تغير الأحوال وتداول الأيام وكيف صار عزيز الأمس ذليل اليوم، وكيف ينفض السلطان والأعوان عن إنسان حكم أربعين عاماً بهذه السهولة، وكيف يسكر الإنسان بنشوة السلطة حتى يغفل عما ينتظره من عاقبة أليمة.

المؤمن يقرأ في هذا الحادث قانوناً تاريخياً، فيستفيد منه حتى لا يكرر الأخطاء لأن من خصائص القانون الثبات والتكرار، بينما غير المؤمن لا يراه سوى حدث عابر فلا يستقي منه أي عبرة ولا يمنعه من أن يقع في نفس الخطأ في المستقبل فيكون هلاكه..

الإيمان يدفع صاحبه لأن يظل دائماً في حالة من اليقظة الفكرية والشاعرية، فحالة التفكر التي يعيشها المؤمن تنمي لديه ملكة التحليل والتساؤل وتوسع خياله، فالمؤمن هو الأقدر على الخروج بفكره من قيود المألوف، لأنه يتخيل دائماً خلاف هذا المألوف: ماذا لو لم تكن هناك جبال، أو لم تكن الأرض ممهدةً، ماذا لو كان الليل سرمداً أو النهار سرمداً، ماذا لو كان الماء أجاجاً أو غائراً، ماذا لو لم تكن هناك شمس أو قمر، ماذا لو لم يخلقنا الله زوجينً ذكراً وأنثى، ماذا لو لم يكن الناس شعوباً وقبائل، أو لم يكونوا مختلفين في الألسنة والألوان..

هذه الأسئلة يستثيرها القرآن في عقولنا عبر طرحه لمئات الأمثلة على ظواهر في غاية البساطة في الأرض مثل الجبال الأوتاد والليل اللباس والنهار المعاش والنوم السبات مما يولد الإنسان ويموت وهي أمام عينيه حتى يعتادها فيغفل عن موطن القدرة فيها ولا يرى فيها ما يستثير فكره، فيعيد القرآن تذكيرنا بها لنستكشف فوائدها ونتحرر من أسر الإلف والعادة.

الإلف والعادة هو الداء القاتل فحين تدخل مدينةً لأول مرة فإن مبانيها وشوارعها وتصميمها الرائع سيبهرك ويدعوك إلى الإعجاب والدهشة، لكن إذا أقمت فيها بضعة شهور أو سنوات فإنك لن تعود قادراً على المحافظة على نفس شعور الدهشة والاستمتاع الذي كنت تحس به بادئ الأمر لأن تكرار المشاهدة بشكل يومي يقتل الإثارة ويبعث على الملل، ومهما كان المنظر الطبيعي رائعاً وخلاباً فإن تعود العين على مشاهدته يفقده جاذبيته، ويجعل منه شيئاً عادياً، لذلك فقد ذم القرآن طول الأمد وجعله مدعاةً لقسوة القلب "طال عليهم الأمد فقست قلوبهم"..إن تعود الناس على أحوال معينة لأمد طويل يقتل روح الاستكشاف لديهم ويدعوهم إلى الكسل والتوقف عن محاولة التجديد والتغيير..

ما يصنعه الإيمان هو أنه يحافظ على روح الاستكشاف متقدةً في قلب الإنسان حتى لا تنطفئ جذوتها فيقسو قلبه ويخمد حماسه واستمتاعه وإبداعه، فيذكرنا دائماً بأوجه القدرة في أكثر الظواهر إلفاً واعتياداً من حولنا، ويدعونا إلى ديمومة التفكر في خلق السموات والأرض، وإلى السير في الأرض لمشاهدة الجديد الدال على قدرة الله وعظمته..

يستعمل القرآن تعبير الحي والميت لوصف المؤمن والكافر، وهذا التعبير ليس مجازياً فحسب، بل إنه يعبر عن حقيقة الحالة التي يعيشها كلاهما.فالكافر هو الذي انطفأت في قلبه روح التأمل والاستكشاف فأصيب بالبلادة ولم يعد يرى في هذه الحياة أي باعث على الإيمان والخشوع، ولم يعد ينتفع بسمعه وبصره وفؤاده فهو كالميت، غافل عن الآيات معرض عنها لا يرى فيها إلا نمطاً مألوفاً لا يستحق التوقف والتفكر فيه "قد مس آباءنا السراء والضراء".وبذلك عطل أي قدرة لديه على الاستفادة في حياته..

حالة البلادة هذه يعبر عنها القرآن في مواضع كثيرة بأوصاف مثل: غافلون، في خوض يلعبون، يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل، في غمرة، في سكرتهم يعمهون، وهم في حقيقة الأمر سكارى لأنهم فقدوا إحساسهم بالحياة، وصاروا يقضون أيام عمرهم في رتابة وملل دون إثارة وتجديد..

لا يترك الإيمان أثره على الإنسان في الجانب الفكري وحسب، بل إن هذا الأثر يطال الجانب الشاعري أيضاً، فالإيمان يحرض في الإنسان شاعريته، لأن المؤمن هو الأقدر على الاستمتاع بالحياة، والإيمان يرفع مستوى إحساس الإنسان بالطبيعة من حوله ويصنع منه إنساناً مرهف المشاعر فتتيقظ شاعريته وينصت بقلب مفتوح إلى تسبيحة الكون الرائعة..فالمؤمن هو الذي يرى في صوت الرعد وشقشقة العصافير، ونقيق الضفادع تسبيحاً باسم الله، والمؤمن هو الذي يقرأ في اخضرار الأرض معنى الحياة بعد الموت، والمؤمن مدعو لأن يشارك الكون في هذه المنظومة البديعة بالتسبيح قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، فلا تعتريه الغفلة والكسل في أي وقت من الأوقات ويظل منسجماً مع مخلوقات الكون في نسق واحد..

إن الإيمان النابض بالحياة والذي يقوم على التفكر والتأمل والخروج من دائرة الإلف واتباع الآباء هو الذي يصنع الإبداع والتقدم في حياة البشرية، وليس ذلك الإيمان التقليدي الطقوسي البارد هذا إن صح أن نسميه إيماناً أصلاً..

والله أعلم..

المصطلحات القرآنية في إطار إنساني

أحمد أبورتيمة

القرآن له أسلوبه الخاص ومصطلحاته المتميزة، ومن أجل فهم صحيح للقرآن لا بد من فك شيفرة هذه المصطلحات والتدقيق في المفاهيم التي تحملها حتى لا يساء إلى القرآن ويقدم وكأنه كتاب طائفي أو مذهبي أو قومي..

القرآن بطبيعته عالمي الطرح، يظهر هذا منذ الآية الأولى فيه "الحمد لله رب العالمين"..فالله حسب التصور القرآني ليس رب المسلمين وحدهم بل هو رب العالمين..وفي ضوء هذه الحقيقة فإن القضايا التي يعالجها القرآن هي قضايا إنسانية تهم الناس في مجموعهم، والمشكلات التي يطرحها القرآن قد تصيب أي إنسان من حيث كونه إنساناً بغض النظر عن جنسه أو قومه أو لونه، وحتى عن دينه الذي ورثه عن أبويه..

ربما يكون من أكثر المصطلحات القرآنية إثارةً للجدل في هذا العصر هو مصطلح الكفر الذي يأتي في مقابل الإيمان في مئات أو آلاف المواضع..فهل تصنيف الناس إلى مؤمن وكافر هو دليل طائفية وعنصرية وانغلاق على الذات، وهل لا يزال مثل هذا المصطلح مناسباً للاستعمال في عصر تتراجع فيه الأيديوجيات ويعلو فيه صوت المشترك الإنساني..

كيف لنا أن نقدم للعالم خطاباً إنسانياً معاصراً في الوقت الذي يقيدنا فيه القرآن بتصنيف كافر-مؤمن، وكيف نتعايش مع الشعوب والأمم بينما ننظر إليهم في قرارة أنفسهم بأنهم ضالون عن الصراط المستقيم..

هل المطلوب أن نتجرد من ذواتنا حتى نستطيع العيش في القرن الواحد والعشرين، أم أن المطلوب من المسلم خطاب مزدوج يحدث فيه العالم بلغة معاصرة حول العدل والحرية وحقوق الإنسان والمساواة، بينما يبطن في داخله ما يخالف هذه اللغة من اعتقاد بكفر الآخرين..

إن كثيرين يجدون في صدورهم حرجاً من الخطاب الديني في عصر الحضارة والتمدن، فتدفعهم حساسية المصطلحات القرآنية إلى التفريق بين نوعين من الخطاب هما الخطاب الديني والخطاب المدني، وجعلهما متناقضين فمن أراد أن يدخل العصر ويتواصل مع الناس فإن شرط ذلك أن ينبذ الخطاب الديني ويعتمد خطاباً مدنياً علمانياً..فهل الخطابان الديني الذي يصوغه القرآن، والمدني الذي يتحدث به العالم هما خطابان متناقضان لا سبيل للتوفيق بينهما، أم أن المشكلة هي في سوء فهمنا وتوظيفنا للمصطلحات القرآنية وإخراجها من إطارها الإنساني إلى إطار متعصب ضيق ؟

سنتناول مصطلح "كافر" في القرآن الكريم والسياق الذي يأتي فيه لنرى إن كانت المشكلة في المصطلح ذاته وعدم ملائمته لهذا الزمان، أم أن المشكلة هي في الركام الثقافي الذي أخفى الدلالة الأصلية للمعاني القرآنية..

بتأمل السياق القرآني الذي يتحدث عن صفة الكفر والكافرين نجد أنه يتناولها كمشكلة إنسانية يمكن أن يقع فيها أي واحد من البشر، فلا توجد قوالب جاهزة وأحكام تعميمية مسبقة بأن هذه الأمة أو هذا الشعب بأكمله كافر، فقضية الكفر والإيمان هي قضية فردية عائدة على كل إنسان حسب جهده الذاتي، وليست صفات متوارثةً بالجينات، فإذا صدف أن ولد إنسان في بلد مسلم فقد أهديت إليه هدية من السماء بأنه سيدخل الجنة وعليه بعد ذلك أن يأكل ويشرب وينام هادئاً مطمئناً دون بذل أي جهد، وإذا ولد شخص آخر في بلد غير مسلم كان مصيره الحتمي إلى النار وبئس المصير..

يلفت النظر في الأسلوب القرآني أن الحديث عن الكفر يأتي غالباً بصيغة الفعل وليس بصيغة الاسم، فالتعبير القرآني غالباً هو "الذين كفروا"، وليس "الكافرون"، والفعل يفيد الحركة على عكس الاسم الذي يفيد الثبات والالتصاق..أي أن الذين كفروا قد استحقوا هذه الصفة بأفعالهم الخاصة واختياراتهم الخالصة، ولم تكن صفةً قد ألصقت بهم، أو حكماً عاماً قد وصموا به، كما يحدث في تصنيفاتنا نحن البشر حين نصدر أحكاماً مسبقةً وعامةً على أحد الشعوب أو الأمم أو المذاهب..

حركية الكفر تعني أن كل إنسان يملك أن يقترب أو يبتعد منه بجهده الخاص، كما أنها تعزز اختيار الإنسان وتخرجه من حالة الجبرية والارتهان لقيود الثقافة والمجتمع، ففي أي موقف يمكن لأي إنسان أن يفعل فعلاً من أفعال الكفر أياً كانت بيئة هذا الإنسان وقوميته ودينه..

نفس الملاحظة نجدها في الاستعمال القرآني لكلمة مسلم، فهو يختلف كثيراً عن استعمالنا البشري لها، فبينما نستعمل كلمة مسلم كاسم علم يطلق على من ولد من أبوين مسلمين، وقام بالطقوس الإسلامية، فإن القرآن يستعملها استعمالاً حركياً بصيغة الفعل "بلى من أسلم وجهه لله"، وحين ينفي القرآن عن إبراهيم عليه السلام صفة اليهودية أو النصرانية ويثبت عليه صفة الإسلام فإنه لا يخرجه من دائرة ثقافية ليدخله في أخرى بل إنه يقصد تحرر إبراهيم من كل القوالب الأيديولوجية واتباعه للحقيقة المجردة "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً"، فهو لم يكن إسلاماً بمعنى انتمائه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل بالدلالة اللغوية لفعل أسلم، والإسلام بلغة القرآن هو التسليم والامتثال للأمر الإلهي، أي أن الوصول إلى حالة الإسلام وإلى وصف المسلم هو بحاجة إلى جهد ذاتي خاص من قبل كل إنسان، ولا يكفي أن يولد الإنسان في بيئة من المسلمين فيأخذ هذا اللقب دون جهد منه، ويطلق العنان بعد ذلك لنفسه لتفعل ما يحلو لها..

لكن من هو الكافر في القرآن؟؟

بتتبع الآيات القرآنية التي تتحدث عن "الذين كفروا" ترتسم في أذهاننا صورة شخصية نموذجية تنطبق عليها هذه الصفة، فهناك أفعال محددة من يقوم بها فإنه يتصف بصفة من صفات الكفر، وهي صفة كمية وليست حديةً، فبمقدار ما يزداد الإنسان منها بمقدار ما تزداد كفريته إلى أن يصل إلى الحالة النموذجية لشخصية الكافر، وهذه الأفعال كما أسلفنا يمكن أن يقوم بها أي إنسان فهي ليست محصورةً بتصنيفات أيديولوجية أو مذهبية أو طائفية..

الذين كفروا في القرآن هم الذين ينكرون الحقائق بعد ظهور الأدلة الواضحة عليها "الآيات البينات"، وكلمة كافر في اللغة تعني التغطية لأن الكافر يغطي الحقيقة بكبره وعناده وتكذيبه، والذين كفروا هم الذين يعطلون استعمال عقولهم وسمعهم وأبصارهم فلا يستفيدون منها: "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها"، والذين كفروا هم الذين يمارسون الإرهاب الفكري ضد من يذكرهم بالحق ويمارسون العنف لتعويض ضعفهم الفكري، "وإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا"، والذين كفروا هم الذين يمارسون الفوضى والغوغائية لخلط الأوراق وتغييب الحقائق وإخفاء ضعف حجتهم: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"، والذين كفروا هم الذين يناقشون الأشخاص بدل مناقشة الأفكار "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"، "أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا"، والذين كفروا هم الذين يستكبرون في الأرض ويستعلون على الناس "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا"، والذين كفروا هم الذين يتصفون بالعقلية التبريرية: "وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَٰذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ"..

وهكذا يتضح لنا أن الكفر هو مجموعة من الصفات الذميمة التي يرفضها الإنسان بفطرته السليمة، وليس حكماً فئوياً يطلقه المسلمون على الأمم الأخرى، الكفر ليس قناعةً عقليةً بل هو الجانب اللا عقلاني أو النزعة الانتحارية في الإنسان لأن الكافر هو الذي يطمس عقله فيقوم بأفعال تنتهي بالإضرار بنفسه: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"..ويوم القيامة تنجلي الحقائق فيكتشف الذين كفروا حالة اللا عقلانية التي كانوا يعيشون بها "وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"، ولو تأملنا كل الصفات التي يرسمها القرآن لشخصية "الذين كفروا" فإننا نجدها صفات انفعاليةً وليس صفات عقلانيةً مثل "بل قلوبهم في غمرة من هذا"، "ويلههم الأمل"، "في سكرتهم يعمهون"، "كل حزب بما لديهم فرحون"، "مودة بينكم في الحياة الدنيا"، وكل هذه الصفات هي تدل على الجانب الانفعالي في الإنسان، ولا يوجد موضع واحد أطلقت فيه صفة كافر على إنسان أعمل عقله وفكره..

قضية الكفر لا يمكن أن تكون نتيجةً لإعمال الفكر، ولا يمكن أن نواجه حركة الفكر بالتكفير، وإنما الكافر هو الذي يقوم بتصرفات غير عقلانية غير أخلاقية تأباها الفطرة الإنسانية السليمة، وبهذه النظرة فإن في صفوف المسلمين أنفسهم من ينطبق عليه وصف شخصية الكافر، وليس بالضرورة أن يكون الكافر هو غير المسلم، بل هو كل من تتوافق أفعاله مع النموذج الذي رسمه القرآن ل"الذين كفروا"...

لقد كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم يفهم الكفر بهذا المعنى العام، وليس بالمعنى المتعصب الضيق الذي يجعلها حكراً على غير المسلمين، فكان يخشى على نفسه بأن يصيبه شيء من هذه الصفة فيستعيذ بالله كل صباح ومساء من الكفر والفقر وعذاب القبر..

بهذا التوضيح لا يكون في صدورنا حرج مما أنزل إلينا، ولا نكون مضطرين لأن نتخلى عن ديننا حتى نستطيع مخاطبة البشر، فالبشرية بكل أيديولوجياتها ومذاهبها تذم التكذيب بالحق، والإرهاب الفكري، واللجوء للطرق الغوغائية، والاستكبار في الأرض، وغير ذلك مما تعنيه كلمة الكفر، فكل ما تقره الفطرة الإنسانية السليمة فإن القرآن يدعو إليه، وكل ما تأباه هذه الفطرة فإن القرآن يذمه وينهى عنه..

والله أعلى وأعلم..

abu-rtema@hotmail.com

الجمعة، 4 نوفمبر 2011

عيد الأضحى والتضحية بالإنسان
أحمد أبورتيمة
في كل عام يتقرب المسلمون إلى الله عز وجل بإراقة دماء الأضاحي في عيد الأضحى، وهذه السنة ليست مجرد طقس خال من المعاني والدلالات فمثلها كمثل كل شرائع الإسلام رمز لمعان عميقة..
الأضحية هي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام قبل حوالي أربعة آلاف عام من الآن، واستشعار المسلمين لحادثة وقعت في ذلك الزمن البعيد يعني أننا أمة تضرب جذورها عميقاً في التاريخ، فنحن لسنا أمة مصطنعة ما لها من قرار، وهذا الشعور بالانتماء إلى إبراهيم، وقبله إلى كل الأنبياء بدءً من آدم يساهم شعورياً ووجدانياً في تشكيل شخصية الإنسان المسلم الواثق من نفسه المعتز بهويته الذي يشعر بالمعنى في حياته..
بدأت القصة حين رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده، وكانت سنة تقديم القرابين البشرية منتشرةً في ذلك الزمان على نطاق واسع، إذ كانت ثقافات الشعوب ترى في تقديم القرابين البشرية استرضاءً للآلهة وتسكيناً لغضب الطبيعة من حولها، فكان البشر يلجأون إلى التضحية بأعز ما يملكون وهي النفس البشرية لاتقاء غضب الآلهة التي يعبدونها من دون الله، كانت هذه العادة السيئة منتشرةً في حضارات اليونان والرومان والفراعنة، وفي المكسيك كانت حضارة الأزتيك تقدم كل عام خمسين ألف قربان بشري إرضاءً للآلهة!!..
في هذا السياق التاريخي جاءت قصة إبراهيم عليه السلام تبشيراً بتحول تاريخي يتمثل في إلغاء فكرة القرابين البشرية، واستبدال التضحية بالحيوان بها، ففدى الله عز وجل إسماعيل بذبح عظيم..
لكن موعظة التاريخ تقول لنا إن البشر يتعلمون بأبطأ من سير السلحفاء، فلا تكفيهم إشارة لالتقاط الدرس، كما كفت إبراهيم عليه السلام حين امتثل لإشارة لطيفة في المنام، لذا فإن واقع البشرية بعد أربعة آلاف عام من بعثة إبراهيم عليه السلام هو أبعد ما يكون عن ملة إبراهيم "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"..فلا تزال القرابين البشرية تقدم بسخاء إرضاءً للآلهة المزيفة التي تعبد من دون الله..
في بلادنا العربية تسفك الدماء غزيرةً على مذبح الشعارات الكاذبة، والأصنام البشرية والأيديولوجية، ومع أن الناس يزعمون بأنهم موحدون بالله إلا أن فكرة القرابين البشرية تنقض أساس التوحيد، وذلك لأن التضحية بإنسان في سبيل حزب أو أيديولوجيا أو زعيم يعني أن هذا الحزب أو الأيديولوجيا أو الزعيم إله يعبد من دون الله، والله عز وجل قدس حياة الإنسان وجعل زوال الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل امرئ مسلم، وحين تذكر الكعبة تحديداً، ففي ذلك إلغاء لفكرة الصنمية والوثنية التي ضحي بالإنسان عبر التاريخ في سبيلها، وإظهار بأنه لا شيء أغلى من حياة الإنسان، فهو خليفة الله في الأرض الذي نفخ فيه من روحه وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه..فلا يبرر قتل إنسان بأي شعار وطني أو قومي أو أيديولوجي، وكما قال أحدهم: لو كان تحرير القدس يمر عبر قتل النظام السوري لشعبه فلا خير في تحرير القدس..
نرى مشاهد مروعة للتضحية بالإنسان في بلاد عربية خاصةً في سوريا واليمن، وتظهر مقاطع الفيديو كيف يذبح الشباب والأطفال كما تذبح الخراف، ونسمع كلمة الشرك بواحاً حين يتخذ الزعيم إلهاً من دون الله..كل ذلك إرضاءً لأصنام أيديولوجية وحزبية لا تضر ولا تنفع.
واقع المسلمين اليوم هو أنهم أحيوا الطقوس والمظاهر بينما قتلوا الروح التي من أجلها كانت الشعائر والمناسك، فبينما تجد إظهاراً لورع كاذب بالإكثار من السؤال حول الشروط الواجب توفرها في الأضحية، فيما يذكر بأسئلة بني إسرائيل عن البقرة، تجد غفلةً عن المعنى العميق الذي شرعت الأضحية من أجله، والقرآن يتطرق إلى هذا الموضوع تحديداً بشكل صريح حين يقول "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم"، فقيمة الشعائر هي بما يترتب عليها من آثار نفسية واجتماعية، وليس بمظاهرها..
المعنى العميق للأضحى ليس أن يشتري أحدنا أضحيةً ببضع مئات من الدولارات، فلو كان الأضحى لهذه الغاية فإن في مقدور كثيرين أن يضحوا في العام عشر مرات دون أن يكلفهم شيء من المشقة، لكن درس الأضحى هو أن يضحي كل امرئ بنقطة ضعفه كما ضحى أبونا إبراهيم بنقطة ضعفه الأبرز وهو تعلقه بولده إسماعيل، وكما كان لإبراهيم إسماعيله فإن لكل واحد فينا إسماعيله الخاص المتمثل في نقطة ضعفه حسب تعبير عدنان إبراهيم، فهذا ما يجب أن نضحي به، أن يضحي كل واحد بشهواته وأهوائه ونقاط ضعفه..
إن الذين يذبحون الإنسان في سوريا واليمن لم يفقهوا درس الأضحية حتى وإن أحيوا ظاهرها بذبح الأنعام..
لكن رغم هذا المخاض الأليم، ورغم التضحيات الهائلة فإن الله عز وجل وعد بأن يتم نوره ولو كره الكافرون، والتاريخ البشري يسير في اتجاه تقدمي، ففي أوروبا قدمت أرواح عشرات الملايين من الأنام قرابين بشرية من أجل لا شيء في حربين عالميتين طاحنتين، وبعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة اقتنع الناس هناك بأن طريق الحرب والعنف هي طريق مسدود لا تقود إلا للهلاك فأسسوا الاتحاد الأوروبي على أساس الشراكة والمساواة والحلول السلمية والبعد عن الاحتكام للسلاح، وسيكبر نموذج الاتحاد الأوروبي حتى يشمل العالم كله، لأن تقدم الأيام يرسخ أكثر فأكثر القناعة بعبثية خيار الحرب وسفك الدماء، وما نراه من ثورات عربية مباركة يبعث الأمل بغد أفضل يحترم فيه الإنسان وتعود له قداسته وكرامته..
بالتزامن مع عيد الأضحى يجتمع في كل عام ملايين الناس من مختلف الثقافات والألسنة في تظاهرة سلمية كبيرة يلبسون ثوباً أبيض وتتجسد بينهم قيمة المساواة الإنسانية، ويحرم على أحدهم أي شكل من أشكال العنف سواءً بحق الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة، وهذا الدرس السنوي المكثف هو نموذج للبشرية حتى تستلهم منه درس السلام لتغدو الأرض كلها كعبةً كبيرةً ينعم فيها الناس بالأمن والسلام..
"ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"

السبت، 15 أكتوبر 2011


استبداد الأكثرية


الشرعية الشعبية والشرعية الأخلاقية

أحمد أبورتيمة

كثيراً ما يتحدثون عن استبداد الأقلية وكيف أن رئيساً أو حزباً لا يمثل سوى تيار محدود من الشعب يحكمه ويصادر حريته في التعبير عن رأيه ويفرض عليه بالقوة أن يدين له.. لكن ماذا عن استبداد الأكثرية، هل يكفي أن يكون الإنسان ممثلاً لأغلب الشعب ليفعل ما يحلو له، ويقمع الأصوات الأخرى؟ هل الوصول إلى الحكم بطريقة منتخبة يمنح صاحبه صلاحيات مطلقة؟!..

انتخاب الشعب لحزب ما يعطيه الحق في تطبيق برنامجه الانتخابي، لكنه لا يعطيه الحق في إلغاء الأصوات الأخرى مهما كانت هذه الأصوات محدودة التمثيل للشعب..

يعبر استبداد الأكثرية عن نفسه حين يكثر الحديث من قبل أنصار الحزب المنتخب عن مجيئهم إلى الحكم بطريق الانتخابات، وأن الآخرين ليس لهم رصيد شعبي ذو قيمة، ويقل الحديث في المقابل عن مضمون البرامج والأفكار..

هذه الطريقة في الحديث ليست ديمقراطيةً وليست مبررةً حتى لو كان الحزب الحاكم يمتلك تأييداً شعبياً بنسبة تسعة وتسعين في المائة فهي تدلل على غرور بالنفس وتبعد المجتمع عن مناقشة الأفكار والاستفادة منها، وتدخله في دائرة التفاخر بالمظاهر فيصير حالنا شبيهاً بمن تحدث عنهم القرآن: "قالوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا"..

كما أنها تدلل على حالة إفلاس وعجز عن تقديم إجابات شافية لأسئلة الجماهير الملحة، والفوز بالأكثرية لا يكفي وحده ليكون دليلاً على صحة البرنامج الانتخابي لإحدى الأحزاب، لأن هناك عوامل كثيرة تؤثر على قرار الناخب فربما كان اختياره لإحدى الأحزاب نكايةً بالحزب الحاكم وقتها، وربما غلب عليه الجانب العاطفي أثناء تصويته، وربما تغيرت الظروف والقناعات بعد التصويت، ففوز إحدى الأحزاب لا يعطيه شرعيةً أبديةً، بل هو تفويض محدود بجدول زمني ليطبق ما دعا إليه من برامج وأفكار، فإذا لم ينجح في تطبيق برنامجه فإن الجمهور سيفقد الثقة به..

لكن إذا أردنا مناقشة الموضوع من ناحية مبدئية، فلو لم تتغير قناعات الجمهور واستمر تأييد إحدى الأحزاب وأعيد انتخابه ثلاثين مرةً متواليةً، حتى في هذه الحالة فإنه لا يملك الحق في اضطهاد الصوت الآخر حتى لو كان هذا الصوت الآخر لا يمثل إلا صاحبه، لأن شرعية الفكرة لا تستند إلى عدد المقتنعين بها، بل تستمد من ذاتها..

في القرآن الكريم كثيراً ما يأتي ذم الأكثرية "ولا تجد أكثرهم شاكرين"، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون"، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون"، ولا يستوي الخبيث ولا الطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث".. ونحن بالاستدلال بهذه الآيات لا نقصد أن ننزل أوصافها على الناس اليوم بأنهم لا يسمعون أو لا يعقلون.. فقط نريد من هذه الآيات التدليل بأن الأكثرية والأقلية ليست وحدها مقياساً كافياً لمحاكمة الأفكار. فإذا وجدنا حزباً لا يمثل سوى واحد% من أصوات الشعب فهذا لا يعني أن تناله سخريتنا وأن نزهد في محاورته والاستفادة من أفكاره، والعكس صحيح فلو كان حزب يمثل التيار الجارف فهذا لا يعني أن أفكار هذا الحزب صارت مقدسةً لا يجوز مناقشتها ونقدها..

إن كون إحدى الأحزاب يمثل الأكثرية في إحدى البلاد يعطيه الحق في حكم تلك البلاد فترةً زمنيةً محددةً، لكنه لا يعطيه الحق في إلغاء الصوت الآخر وفرض رأيه على الآخرين.والذين يمثلون الأقلية لا يحق لهم أن يحكموا البلاد بطريقة غير شرعية مهما كان إيمانهم بصحة أفكارهم، لكن حقهم في الدعوة إلى أفكارهم والعمل على تحشيد رأي شعبي حولها لا يقل عن حق الأكثرية، ولهم الحق في امتلاك نفس وسائل الإعلام وقنوات الاتصال مع الجمهور ليبلغوهم أفكارهم..

إن من غياب فقه الديمقراطية الحقيقية في بلادنا أن نظن أن الديمقراطية تعني الأكثرية وحسب فيغلب على محاورتنا للآخرين منطق "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً"، ويغيب عن محاوراتنا صوت الحجة والإقناع..

مجرد التلويح بورقة أننا نحن الأكثرية وأنتم الأقلية في حد ذاته علامة استبداد واضطهاد فكري لأنها رسالة إرهاب للآخرين بألا يعبروا عن آرائهم خشية سطوة المجتمع..

والاستبداد ليس آفة الحكام وحدهم، لكن المجتمعات نفسها قد تكون مستبدةً حين يغيب الوعي ولا تحترم حق كل فرد في التعبير عن رأيه مهما كان هذا الرأي..

استبداد الأكثرية ربما يكون أخطر من استبداد الأقلية، لأن وجود قلة تستفرد في حكم البلاد وتتحكم بمصائر العباد هو عامل تحريض واستفزاز للجماهير لتثور على هذه القلة، أو تفرض حولهم عزلةً اجتماعيةً على الأقل، لكن خطورة استبداد الأكثرية هو أنه يعبر عن خلل بنيوي عميق في ثقافة المجتمع وتقبله للآخر، والتحرر من استبداد الأكثرية بخلاف استبداد الأقلية بحاجة إلى عملية انقلاب شاملة في المجتمع..

مثال استبداد الأكثرية هو الأقوام التي يحدثنا عنها القرآن في مواجهة أنبيائها، فقد كانت الأقوام تمثل الأكثرية الساحقة، لكنها كانت تسيء استعمال هذه الأكثرية وتظن أنها تعطيها الشرعية لمحاربة الأنبياء أصحاب الدعوة الجديدة "وإنا لنراك فينا ضعيفا"..

لو أن مقياس الأكثرية والأقلية يكفي وحده لمحاكمة الأفكار لما كان هناك مبرر لظهور المصلحين و الأنبياء، ولما تقدم التاريخ الإنساني، لأن كل الدعوات عبر التاريخ كانت تبدأ بالقلة المؤمنة قبل أن تكسب المؤيدين وتنتشر، وربما لا تكسب المؤيدين إطلاقاً وتظل أقليةً مثل دعوة نوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما آمن معه إلا قليل، فهل كان هذا مقياساً كافياً لنزع الشرعية عن دعوة نوح عليه السلام..

إن نوح عليه السلام مثله مثل كل الأنبياء والمصلحين لم يكن يستمد شرعيته من الشعب، بل كانت شرعيةً أخلاقيةً مبدئيةً لا يضيرها ألا يؤمن معها إنسان واحد..

يكفي ليكون الإنسان صاحب شرعية أخلاقية أن يكون مؤمناً بفكرة وحسب، فيحق له أن يدعو الناس إليها دون أن يرهبه أحد بسطوة السلاح أو المجتمع، فإذا كانت أفكاره صحيحةً فإن العاقبة لها وستتحول يوماً ما إلى أكثرية، وإن لم تكن كذلك فإن الأيام كفيلة باندثارها دون أن تكون هناك حاجة لقتلها واضطهادها..

"فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

والله أعلى وأعلم..