الاثنين، 25 يوليو 2011

غياب المسئولية الاجتماعية (1)
أحمد أبورتيمة
حدثتني نفسي ذات مرة بأن أرفه عنها في لهيب الصيف الحار وأن أقضي جزءً من وقت النهار الطويل في المتعة والاستجمام فكان القرار بزيارة إحدى المدن السياحية -لا يسرح بكم الخيال في كلمة مدينة سياحية، فالكلمة مجازية جداً- حين الوصول إلى هذه المدينة التي كانت تشهد حالة اكتظاظ بالسكان المترفهين نظراً لقلة المتنفسات وبقدر ما في هذا الاكتظاظ من عناصر إيجابية إذ يدل على نفوس مقبلة على الحياة رغم كل المنغصات والتحديات إلا أن ما كدر صفو هذه الصورة حالة الفوضى وغياب النظام وعدم الاهتمام بنظافة المكان فقاعدة (اترك المكان كما تحب أن تراه) لم يعد لها مكان عند أكثر الناس، وحل محلها مبدأ (نفسي نفسي..المهم متعة اللحظة الراهنة وبعدها فليكن الخراب)..
مشهد العشب الأخضر الرائع لم يعد كذلك فبقايا الطعام والشراب والأكياس ملقاة في كل مكان، ترى من (يقزقز البزر) ويلقي بقشره يميناً وشمالاً حتى لا يكلف نفسه عناء جمعها في كيس واحد وإلقائها بعد ذلك في سلة القمامة..
ما يستفز في هذا المشهد أنه يحدث في مكان محترم انتزع من بين شوارعنا التي تغص بالقمامات وأعد خصيصاً ليكون مثالاً للجمال، وحرص أصحابه على تجهيزه بالوسائل اللازمة لذلك فنشروا حاويات في كل زاوية من زواياه فلم يعد يكلف المصطاف الكريم المحافظة على المكان أكثر من أن يجاهد نفسه نصف دقيقة ليقوم من مكانه ويضع ما تبقى من أكياس وبقايا أطعمة وأشربة في المكان المخصص لذلك..لكن كيف يفعل ذلك من تشرب الفوضى وعدم الشعور بالمسئولية تجاه المجتمع منذ طفولته فصار الأصل هو عدم النظافة، ومن فكر بالشذوذ عن هذا الأصل وحاول تقديم نموذج جديد- نقصد بالنموذج الجديد فقط وضع القمامة في مكانها المعد لها- من فكر في ذلك قوبل بالسخرية وبكلمات من قبيل (بدك تعمر الكون لحالك-كل الناس بترمي في الشارع ما وقفت عندي ولا عندك)، وربما أسيء الظن به بأنه إنسان متفلسف أو أنه يحب أن يظهر نفسه، أو أنه محلق في المثاليات ولا يعيش الواقع..
هذا المثال الذي تقدم هو مثال فاقع الدلالة على أن الخلل هو من نفوسنا قبل أن يكون من عامل خارجي أو من سلطة فوقية، فكثيراً ما يتذرع الناس بإلقاء النفايات في الشوارع بأن هذه الشوارع ليست نظيفةً أصلاً وأن التزامنا الفردي لن يساهم في نظافة هذه الشوارع مع أنه منطق خاطئ فالمفترض أن يبدأ كل إنسان بنفسه وألا ينتظر الآخرين ليفعلوا حتى يتبعهم، أو يتذرعون بعدم وجود حاويات كافية في الشوارع، هذه الذرائع تسقط هنا، ففي المتنزهات توجد حاويات بالقدر الكافي، ونظافة المكان تشجع الإنسان على الالتزام للمحافظة عليه، لذا لا يمكن تعليل السلوك الرديء إلا بخلل ثقافي واجتماعي عميق لم يعد يشعر الإنسان معه بأي مسئولية تجاه المجتمع ومظهره الحضاري..
وما نراه في المنتزهات نراه بالتأكيد بدرجة أكبر في الشوارع والطرقات وعلى شاطئ البحر، وتصل ثقافة الفوضى واللامبالاة إلى درجة مثيرة للتقزز إذ كثيراً ما تجد الحاوية الموجودة في الشوارع وهي فارغة والناس يلقون بأكياس قمامتهم حولها، أي أنه تكبد عناء المسير من بيته حتى ما قبل مترين من وصول الحاوية فقصر بإكمال المشوار وألقاها بجوار الحاوية، تاركاً مسئولية تنظيف المكان للبلدية.
من المؤسف أن نضطر إلى الحديث في سلوكيات بدائية، ونحن في عصر تقدمت فيه غيرنا من الأمم إلى درجات مذهلة في مجالات الصناعة وإعادة تدوير المستهلكات حتى لم تعد هناك قمامة من الأصل في تلك المجتمعات..
قصة غياب النظافة ليست سوى عينة واحدة لثقافة اللامبالاة وعدم استشعار المسئولية تجاه المجتمع. في هذه الثقافة يفترض الشخص أنه لوحده في هذا المجتمع وأن المهم هو أن يستمتع دون اعتبار لمشاعر الآخرين وأحاسيسهم وما يضرهم أو ينفعهم، فبعد استمتاعه اللحظي ليكن ما يكون، فإذا أعجبته زهرة في الحديقة سارع إلى قطفها ووضعها في جيبه دون اعتبار أن هناك من سيأتي بعده له نفس الحق في الاستمتاع بمنظر هذه الوردة، وإذا رغب في تدخين سيجارة وهو في سيارة عمومية أو مجلس عام سارع إلى إشعالها ونفث دخانها في وجوه الحاضرين حتى دون أن يستأذنهم في إشعالها، فهو لا يرى أحداً في المجتمع سواه، فإذا أبدى أحد الحاضرين ضيقه من هذه السيجارة، وهذه خطوة متوقعة من أكثر من نصف المجتمع الذي لا يدخن، اعتذر وقام بإطفاء السيجارة، وكأنه لم يكن يعلم بأن هناك من تضايقه رائحة الدخان إلا الآن، وغالباً ما يكظم الحاضرون غيظهم ويخجلوا من مطالبة المدخن بإطفاء السيجارة ويصبروا مكرهين على أذاه، ومع هذا يظل الاعتذار موقفاً متقدماً إذا ما قورن بموقف آخرين يفترض أحدهم بأن له الحق بتسمم سيجارته وأن من يطالبه بإطفائها هو المخطئ فقد حدثني أحد الفضلاء من كبار السن أنه طلب من شاب في عمر أبنائه في إحدى السيارات بأن يطفئ سيجارته فرد عليه هذا المراهق بوقاحة: إذا مش عاجبك خذ سيارة طلب!!
ومع تحميلنا المسئولية في هذه السلوكيات البائسة للثقافة الاجتماعية بالدرجة الأولى فإن هناك قسطاً من المسئولية تتحمله الحكومة، فما الذي يمنع من إصدار قرار ملزم بمنع التدخين في السيارات والأماكن العامة وتغريم من يفعل ذلك، وهو قرار بسيط ولا يحتاج لأية تعقيدات سياسية أو قانونية وهو مطبق في الدول الغربية من غير المسلمين مع أنهم لا يؤمنون بحلال أو حرام، فقط يفعلون ذلك حرصاً على الصحة العامة، وإذا كانت الحكومة تتردد في إصدار قرارات كثيرة يطالب بها المجتمع مخافة إثارة ما يسمى المجتمع الدولي فإن قراراً مثل منع التدخين لن يثير أياً من هذه الحساسيات التي لا نقرها بطبيعة الحال لأنه يجب أن تكون لنا هويتنا المستقلة وألا نبالي بسخط الآخرين أو رضاهم ما دمنا منسجمين مع ديننا وقيمنا..ولكن يبدو أن المشكلة هي في اهتزاز الثقة بالذات حتى أننا لم نعد قادرين على إصدار قرار بسيط كهذا، وإذا أصدرناه فإننا لا نمتلك العزيمة القوية لتطبيقه والاستمرار فيه وإلزام أنفسنا به..
يتبع...

غياب المسئولية الاجتماعية (2)
أحمد أبورتيمة
من مظاهر غياب المسئولية الاجتماعية ظاهرة إغلاق الشوارع لإحياء الحفلات أو للقيام ببعض أعمال البناء، ففي ضوء هذه الثقافة صار بإمكان شخص واحد أن يغير خط سير حي بأكمله فإذا نوى أحدهم أن يفرح بابنه أغلق إحدى الشوارع الرئيسية وأجبر المركبات على تغيير مسارها، فإذا اعترض معترض رد عليه: ياراجل هذه فرحة العمر.. وإذا سلمنا بهذا المنطق وافترضنا أن عدد السكان مليون ونصف المليون وأن لكل واحد منهم نصف فرحة على اعتبار أن الفرحة الواحدة تكون لعروسين، وأن هذه الفرحة تقتضي إغلاق إحدى الطرق ليوم واحد فهذا يعني أنه لمنح كل أفراد الشعب فرحةً واحدةً في العمر فإن الأمر يتطلب إغلاق إحدى الطرق سبعمائة وخمسين ألف مرة، هذا دون أن نحتسب أعمال البناء، ودون أن نحتسب موتة العمر وما تتطلبه من إقامة سرادقات العزاء التي لن تكون هذه المرة بالتقاسم بين اثنين أي أننا سنكون بحاجة لإغلاق الطرق مليون ونصف المليون مرة..
هذه الإغلاقات المؤقتة للطرق يضاف إليها الإعاقات الدائمة التي يلحقها الناس بهذه الطرق عبر ما يسمى ب(المطبات) فإذا خشي إنسان على حياة أبنائه من السيارات المسرعة أحضر فأسه وقام بتكسير الطريق وإحداث فجوة ليجبر السائق على الإبطاء، ولأن الأمر لا يتم بالتنسيق ولا برعاية جهة عليا وتحكمه العشوائية وغياب القانون فإن كل واحد يصنع مطبه على ليلاه حتى تصل هذه المطبات من الكثرة بحيث يفصل بين المطب والذي يليه متران أو أقل، وعلى السائق المسكين أن يتحمل كل هذا العناء دون اعتراض، فهذه هي ثقافة المجتمع الحاكمة، ولو تطلب هذا الاحتمال منه أن يتضاعف الزمن الذي يحتاجه لوصول هدفه.
من نماذج غياب الإحساس تجاه الآخرين ما نسمعه من ضجيج أصوات الأغاني في المناسبات السعيدة وحتى من غير مناسبات فإذا رغب أحدهم في سماع صوت فنانه أو فنانته المفضلة أصر بكرم عربي أصيل أن يشاركه جيرانه الاستماع فأعلى صوت الجهاز إلى أعلى حد ممكن من الديسيبلات حتى تشعر أن الجهاز في بيتك وليس في بيت جارك السابع، وإذا أراد أحد الباعة المتجولين أن يترزق- ونحن نتمنى له ذلك - لم يطب له فعل ذلك إلا في وقت الظهيرة أثناء القيلولة فيقف تحت شرفة المنزل وينادي بمكبر الصوت بأعلى ما يستطيع، وليته ينادي مرةً واحدةً ثم يمضي بل إنه يمكث ربع ساعة أو نصفها لا يغادر المكان ويعيد ويزيد ويغني ويصدح لا يبالي بمرضى أو متعبين أو غيرهم..
لا تسل أيضاً عن ظاهرة التبذير في استعمال المياه، وإهدارها في الطرقات بدون سبب، اللهم إلا بسبب أن أحدهم إذا رغب في تسلية وقته ولم يجد ما يفعله عمد إلى فتح صنبور المياه ومد الخرطوم ورش الشارع، أما من رغب في الوضوء أو الاغتسال فإنه يهدر كميات من المياه تكفي للاستعمال مرات ومرات، يحدث هذا في أمة يوصي نبيها صلى الله عليه وسلم بالاقتصاد في الماء على نهر جار، ولكن ماذا تفيد الآيات والأحاديث، وسلطان الثقافة أقوى من أي سلطان..إياك هنا أن تجرؤ على التفلسف والحديث عن خطورة هذا التبذير على المياه الجوفية، أو استعمال لغة الأرقام لتحذير الناس بأن هذه المياه ستنفد عام 2050 مثلاً، لأنك إن فعلت ذلك فسينفجر من حولك ضاحكين، وسيحذرونك من طول الأمل، وسيرد عليك أحدهم بالقول:بس نعيش لبكرة، عشان نعيش ل2050 ..
بالطبع فإن وسائل الإعلام غائبة عن هذا الميدان، ولم نر منهم من فكر يوماً بإعداد مواد إعلامية تثقيفية لحث الناس على الارتقاء بسلوكهم الاجتماعي، فهم ربما لا يرون هذا الميدان من اختصاصهم، واختصاصهم فقط هو في إرهاق مشاعر الناس بوجبة النكد اليومية من أخبار السياسة والسياسيين.
متى يستشعر الواحد منا بأن المجتمع هو بيته الكبير وأن لغيره الحق فيه كما له، وأن يعلم بأنه حر ما لم يضر، وإذا كانت الأمم الأخرى قد تجاوزت هذه السلوكيات البدائية دون إيمان بجنة أو نار أو ثواب أو عقاب، فقط بالإيمان بمبدأ المسئولية الاجتماعية، فإن في تعاليم ديننا ما يشكل عوامل استفزاز إضافية للارتقاء بسلوكنا فنحن أصحاب الدين الذي جعل إماطة الأذى عن الطريق شعبةً من شعب الإيمان، وفي ديننا أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وألا يؤذي جاره، وأنه لا ضرر ولا ضرار، وفي ديننا الدعوة لإعمار الأرض وغرس الأشجار، ومن روائع ديننا أنه جعل الحساب يوم القيامة فردياً حتى لا يتذرع إنسان عن عدم فعل الخير أو تغيير المنكر بأن الناس لا يفعلون ذلك، فلو كان المجتمع كله غارقاً في الأخطاء فإن هذا لا يعطيك مبرراً لتقليده لأنك ستحاسب يوم القيامة عن نفسك "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً"، لكن ماذا تغني الآيات والنذر لقوم لا يؤمنون ولا يتعظون..
حدثني أحد الأفاضل بأنه ألزم نفسي منذ سنوات بألا يلقي شيئاً على الأرض حتى لو كانت قشرة بزر وأن يحتفظ به في يده أو جيبه حتى لو ظل معه طوال اليوم ولو كان المكان الذي يتواجد فيه يغص بالقمامة والقذارة حتى يصل إلى إحدى الحاويات فيلقيه فيها..
ونحن إذ نحيي هذا الأخ على صنيعه إلا أنه ينبغي أن تكون مثل هذه السلوكيات هي الحد الأدنى الذي يلتزم به جميع أفراد المجتمع برقابة ذاتية من أنفسهم، لأن هذا هو أضعف الإيمان الذي لن يتحقق لنا نهضة وصعود بدون تحقيقه في حياتنا..
نسأل الله أن يهدينا إلى سواء السبيل وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً..
والله أعلى وأعلم

الأربعاء، 6 يوليو 2011

القرآن دعوة للإيجابية

خذ مثلاً هذه الآية:

يقول الله عز وجل مخبراً عن نفسية الذين في قلوبهم مرض ( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )

إن هؤلاء القوم الذين تتحدث عنهم الآية أصيبوا بمرض الريبة والتردد والشك فأصبحت نظرتهم إلى المستقبل سوداويةً قاتمةً لا تهديهم نفوسهم المريضة إلا إلى التفكير السلبي فهم لا يتوقعون إلا الأسوأ.. يتوقعون أن تصيبهم دائرة، فيدفعهم هذا التفكير السلبي إلى اتخاذ قرارات خاطئة وإلى البقاء في حالة التردد والريبة القاتلة.

أما القرآن فيلفت الأنظار إلى الاتجاه الآخر..لماذا لا نتوقع الأفضل من المستقبل..لماذا نفترض دائماً أن الأسوأ في حياتنا لم يأت بعد..لماذا لا نفترض أننا تركنا الأسوأ وراء ظهورنا وأن القادم سيكون خيراً عميماً.

بدل أن يتوقعوا الدائرة كان ينبغي عليهم أن يتوقعوا الفتح والنصر حتى لا يصبحوا نادمين..

من سمات التفكير الإيجابي أن ينتظر الإنسان الأفضل من المستقبل..

إن توقع الأفضل يخلق نفسيةً إيجابيةً تجذب الأفكار والخواطر الإيجابية فيأتي ما توقعناه فعلاً.. هذا يعني أن توقع الأفضل ليس تحليقاً في الخيالات حتى لا يبرر إنسان تشاؤمه ونظرته السوداوية بالواقعية.. نحن من يصنع الواقع سواءً كان إيجابياً أم سلبياً فمن ملأ نفسه بالأفكار الإيجابية جاء مستقبله إيجابياً، ومن ملأها بالأفكار السلبية جاء مستقبله سلبياً أيضاً..ألا نسمع في المثل العامي ( اللي بيخاف من العفريت بيطلعله).. وهذا شيء ملاحظ بكثافة في حياتنا فإذا تأملنا في المصائب التي تصيب فريقاً من الناس بينما لا تصيب فريقاً آخر نجد أنها تصيب من كان يتوقعها فعلاً ومن كان متوجساً ومتخوفاً منها، أما الذي كان يتوقع الخير والتفاؤل في حياته فلا يصيبه إلا الخير، وهنا نتذكر الحديث القدسي عن رب العزة ( أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما يشاء) ونتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: من رضي فله الرضا ومن سخط فعليه السخط..

مثال قرآني آخر يحث على النظرة الإيجابية للحياة:

يقول الله عز وجل مخاطباً عباده المؤمنين: ( ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلاً)..

إن علينا أن نتذكر الجانب الإيجابي للأشياء دائماً..فبدل أن نقول إن تحت الورد شوكاً فإن النظرة الإيجابية تقول إن فوق الشوك ورداً..وبنفس المنطق بدل أن نقول إن هؤلاء القوم ليسوا معنا يحسن بنا أن نقول إنهم ليسوا ضدنا أيضاً..

هذه الآية تتحدث عن قوم سيقابلهم المؤمنون أثناء فتوحهم حصرت صدورهم أن يقاتلوا المؤمنين أو يقاتلوا قومهم، أي أنهم في موقف متردد متذبذب، فيوجه الله عز وجل المؤمنين إلى الجانب الإيجابي في المسألة وهو أن هؤلاء الأقوام لن يقاتلوهم وسيعتزلوهم، وكان الله قادراً أن يسلطهم على المؤمنين فيقاتلونهم..

إن قدرتنا على استكشاف العناصر الإيجابية من حولنا يجعلنا أكثر قدرةً على استثمارها في تحقيق النصر والنجاح، لذلك لا غرابة أن يلح القرآن علينا في مواضع كثيرة بأن نذكر نعمة الله علينا..

إن نظرتنا الإيجابية للحياة من حولنا تجعل منا شخصيات إيجابية مقبلة نحو الحياة.

والله أعلم

الاثنين، 4 يوليو 2011

http://www.elaph.com/Web/opinion/2011/7/666417.html?entry=opinionwriters

معجزة سوريا

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

من بين الثورات العديدة التي تخوضها الشعوب العربية الحرة ضد أنظمتها الاستبدادية فإن لثورة الشعب السوري المجاهد ميزات خاصةً ترشحها لتكون ربما الثورة النموذجية في العالم العربي..

إذا قارنا بين الثورتين المصرية والسورية على اعتبار أن الأشياء تعرف بأضدادها أو بمقابلاتها فإن الثورة المصرية مع أنها ثورة رائعة وتاريخية إلا أنها لم تنطلق من نقطة الصفر بل كانت زيادةً كميةً في منسوب الاحتجاجات الشعبية التي كانت قد بدأت قبل سنوات، ولم يكن كسر حاجز الخوف من قبل الشعب المصري وليد هذه الثورة إنما كان كسره سابقاً لها، كما أن الثورة المصرية كانت مستندةً إلى شيء من هوامش الحرية والحياة النقابية والسياسية والمعارضة القوية ومؤسسات المجتمع المدني.

لكن الواقع في سوريا كان خالياً من أي من هذه العناصر، فالبلاد واقعة تحت حكم جبري شمولي قضى على كل صوت معارض، وقتل الحياة السياسية والنقابية والمدنية، وحكم الناس بقبضة حديدية لم تكن تسمح لهم حتى بالكلام، ولم يكن أحد يجرؤ على انتقاد النظام ولو همساً بعد أن زرع الرعب في كل شارع وبيت.

من هنا جاءت الثورة السورية مفاجئةً للجميع خاصةً العارفين بحجم الرعب المتمكن من نفوس الشعب السوري في ظل الحكم الجبري الحديدي، حتى بدا للناظرين أن أرض سوريا هي أرض موات قد أجدبت فيها الحياة وألف شعبها حياة الذل والصغار ومن بقي فيه شيء من حرية وكرامة خرج مهاجراً إلى المنفى. ولم يكن متصَوَّراً أن يأتي اليوم الذي يستطيع فيه جيل من الشباب ولد ونشأ في أجواء الخوف أن يكسر هذا الجدار المنيع الذي طالما أحكم النظام بناءه..لكن هذا ما كان فقد جاء وعد ربي وجعل جدار الخوف دكاءَ وانبعث صوت الحياة من بين أطلال الموت، وولدت إرادة الحرية من رحم العبودية، وتجلت الأسرار العميقة لسورة البقرة حيث تتكرر قصص كثيرة يربطها بشكل لافت أنها جميعاً تحتوي على فكرة إحياء الموتى سواءً قصة البقرة والقتيل الذي أحياه الله، أو قصة رفع جبل الطور "ثم بعثناكم من بعد موتكم"، أو قصة الألوف الذين خرجوا حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، أو قصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، واليوم تعلمنا آية سوريا أن الله قادر على إحياء الشعوب من بعد موتها وأن الحياة أقوى من الموت دائماً مهما طال الزمان وعم الخراب..

ما يحدث في سوريا هو بحق معجزة الحياة بعد الموت "إن الذي أحياها لمحيي الموتى"، وهو يؤكد بأن الحرية عميقة في فطرة الشعوب لا تقتلها سنوات الظلم والاضطهاد وأن كل ما صنعه الطغيان من أدوات لإرهاب الناس وقتل إرادة الحرية في نفوسهم إنما هو كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى، وأن إلقاء عصا موسى كفيل بأن يلقف كل هذه الحبال والعصي التي كان يخيل للناس طوال عقود مضت أنها تسعى وأنها تملك لهم الضر والنفع وتملك الموت والحياة والنشور..

من كان يرى شوارع سوريا حتى قبل أربعة أشهر من الآن لا يكاد يصدق ما تراه عيناه من مشهد مئات الألوف إن لم تكن الملايين المنبعثة من تحت الركام وهي تنزل إلى الشارع وتتحدى الرصاص والموت وتهتف بالحرية وسقوط الاستبداد..

ما الذي أخرج هؤلاء من بيوتهم وما الذي أحيا فيهم إرادة التحرر من بعد سنوات الاستعباد وكيف منحوا كل هذا القدر من الشجاعة حتى يتصدوا بصدورهم العارية لآلة القتل والتدمير دون أن ترهبهم أو تزرع الرعب في قلوبهم..

إن درس سوريا بالغ الدلالة بأن ما يبدو من صمت وسكون تضطر الشعوب إليه حين يشتد الظلم والظلام هو مظهر خادع يغتر به الظالمون فيظنون أنهم يحكمون شعوباً ميتةً لا حراك فيها، وأن الأيام قد صفت لهم إلى الأبد، لكن سنة الله تأخذهم بغتةً، ويتبين بأن ما كان يبدو سكوناً وموتاً ما هو إلا قشرة رقيقة تخفي وراءها مخزوناً عميقاً من عشق الحرية، وقوة الروح الكامنة المتربصة للانتفاض..

درس سوريا هو أن النفخة الإلهية عميقة في الإنسان لا تقتلها كل سنوات القهر والكبت والطغيان، وأن البشر لا يمكن أن يحكموا بالحديد والنار، ومهما طالت السنون فإنه لا بد أن يأتي اليوم الذي تتجلى فيه هذه النفخة فيتمرد الإنسان على قيود الاستعباد والاستبداد ويصرخ هاتفاً للحرية..

"والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون"

متع ناظريك بمشهد مسيرة جمعة ارحل في حماة وانبعاث مئات الألوف من بعد عقود الموت:

http://www.youtube.com/watch?v=CW68Hu24hHk



قانون الجذب النفسي

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

(نحن لا نرى الأشياء كما هي..نراها كما نحن..) سقراط

لو أن خمسة أشخاص كانوا يسيرون في شارع واحد ( مهندس، مندوب مبيعات، مصلح اجتماعي، سائق، شاب طائش) فإن كل واحد منهم سينظر إلى الشارع نظرةً مختلفةً عن الآخرين..مهندس الطرقات سينظر إلى تصميم الشارع وطوله وعرضه، والمادة المستخدمة في رصفه، ونسبة ميله وغير ذلك من أمور اختصاصه، بينما مندوب المبيعات سيلتفت يميناً وشمالاً ليبحث عن المحلات التي يمكن أن يتعاقد معها ويبيع إليها بضاعته، أما المصلح الاجتماعي فسيلفت نظره أثناء سيره ظاهرة الأطفال الباعة الذين حرموا من طفولتهم، أو ظاهرة المتسولين الذين تزدحم بهم الطريق، والسائق سيرى كل من حوله ركاباً ينتظرون سيارةً تقلهم، أما الشاب الطائش فلن يلفت نظره في طول الشارع وعرضه سوى الفتيات الغاديات والرائحات..

إن كل واحد منا يرى الأشياء من حوله وفق تصوراته الذهنية الخاصة به، فلا توجد نظرة واحدة يتفق الجميع عليها، بل زوايا متعددة بتعدد أفكارنا وتصوراتنا وخرائطنا الذهنية.. فإذا وضع أحدنا في قلبه فكرةً وركز على هدف محدد فإن العقل يجذب إليه كل الأفكار المتشابهة بينما يحذف الأفكار الأخرى..

كل شخص في هذه الحياة يرى الدنيا من منظوره الخاص الذي صنعه لنفسه فيكبر ما يتناسب مع أفكاره ويهمش أو يحذف ما لا يتناسب مع هذه الأفكار، والموضوعية التي ندعيها كثيراً ما تكون خرافةً، فحتى لو اعتقد الإنسان أنه موضوعي فلا بد أن تحتوي نظرته على جانب كبير من الذاتية..

في القرآن الكريم نقرأ قول الله عز وجل "يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به"، والتحريف قبل أن يكون تحريفاً مادياً فهو تحريف نفسي، أي أن ينظر الإنسان إلى التوجيهات الإلهية العليا وفق إسقاطاته النفسية وليس وفق مراد هذه الآيات، وهذا النوع من التحريف ليس خاصاً بالذين من قبلنا بل إنه نالنا نحن أمة القرآن نصيب منه، فهنا يمارس من يتلو كتاب الله وعياً انتقائياً فيجذب إليه ما يتناسب مع رؤاه المسبقة، ويحذف ما لا يتناسب معها، وهنا نفهم تتمة الآية "ونسوا حظاً مما ذكروا به".

وما يحدث أثناء تلاوتنا لكتاب الله يحدث في قراءة أي كتاب بشكل عام فحين يطالع أحدنا كتاباً فإنه لا يفهم كل سطور الكتاب بنفس الدرجة، بل يفهمه بشكل انتقائي فما كان من أفكار هذا الكتاب متناسباً مع أفكار سابقة فإنه ينجذب إليها، أما الأفكار الجديدة التي لا تستند لأساس سابق في ذهنه فإنه يميل إلى إسقاطها بطريقة لا شعورية وربما لا يتنبه لوجودها أصلاً، وهنا نفهم السر العميق في قوله تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"..فهو يرى أشياء بعينيه ولكنه يسقطها من ذهنه بطريقة لا شعورية فهو كأنه لم يرها أصلاً لأنه لم يستفد من رؤيتها..

إننا نمارس خداعاً للذات، فبدل أن نبحث عن جديد الأفكار ونستفيد منها فإننا نميل إلى ترسيخ الأفكار القديمة في عقولنا، وحين نقيم الكتب التي قرأناها فإننا نعبر عن أنفسنا أكثر من تعبيرنا عن القيمة الموضوعية للكتاب نفسه، وفي تقييمنا للأشخاص فإننا نصف أنفسنا أكثر من وصفنا للآخرين، فمن كان قلبه أسوداً كانت نظرته للناس سوداوية، ومن أكثر من إحسان الظن بالآخرين دل ذلك على طيبته وحسن معدنه قبل أن يدل على طيبة الآخرين..

قانون الجذب له مفعول عجيب في حياة البشر فهو الذي يرسم حياتهم سواءً كانت سلبيةً أم إيجابيةً، ومن هنا وجب مراقبة الإنسان لأفكاره وخواطره لأنها تنمو وتتعاظم وتجذب إليها مثيلاتها من الأفكار والخواطر حتى تغدو بناءً راسخاً يصعب تغييره، وكما قيل فإن الحسنة تجذب الحسنة، والسيئة تجذب السيئة، وابن القيم رحمه الله تعالى قال: "طارد الخاطرة قبل أن تتحول إلى فكرة وادفع الفكرة قبل أن تتحول إلى إرادة وادفع الإرادة قبل أن تتحول إلى عمل"، لذلك فإن الإسلام بدأ في تهذيب الإنسان من الخاطرة الدقيقة فحرم النظرة وجعلها سهماً من سهام إبليس حتى لا تلوث قلب الإنسان فيبقى صافياً.. وحياة الإنسان ليست سوى نسيج أفكاره، فالعظماء الذين غيروا وجه التاريخ إنما تحولوا إلى عظماء حين ملئوا قلوبهم بالأفكار العظيمة وبالتأسي بالعظماء من قبلهم، أي أنهم وضعوا فكرةً إيجابيةً في عقولهم، وهذه الفكرة قامت بجذب الأفكار العظيمة التي تشبهها حتى تحولوا إلى طاقة فاعلة من الإيجابية والعظمة..

ونفس الشيء في الجانب الآخر فإن ما يصنع المجرم هو امتلاء عقله بالتصورات والخيالات الذهنية الفاسدة فتنتج هذه الخيالات والأفكار سلوكه الإجرامي لأنه لا يرى في الدنيا من حوله سوى الجريمة والفساد فيندفع لمحاكاة أسلوب المجرمين ظاناً أنه على صراط مستقيم "ويحسبون أنهم مهتدون"، ولعل المثال فاقع الدلالة من حولنا هو مثال القذافي الذي لم ير في كل التاريخ البشري من أمثلة تستحق التأسي سوى أمثلة ستالين، والصين الشيوعية وحرب أمريكا في الفلوجة وحرب الصهاينة على غزة، فالقذافي طالع التاريخ، كما طالعه غيره، لكنه لم يستوقفه خلال مطالعاته سوى أمثلة السوء التي ذكرها في خطابه الشهير (زنقة زنقة)، بينما رأى غيره ممن طالع التاريخ أمثلة العظماء والمصلحين، وبذلك تحول القذافي إلى كتلة من الإجرام بفعل قانون الجذب النفسي الذي جذب إليه كل من هم على شاكلته وأسقط من وعيه الأمثلة الناصعة المضيئة من حوله فضل سعيه في الحياة الدنيا..

تأثر الإنسان بالأفكار والأشخاص يكون بطريقة لا شعورية لذا وجب الحرص على أن يحيط الإنسان نفسه بالكتب الإيجابية والأشخاص الإيجابيين وأن يبتعد عن السلبيين مخافة أن تتسلل الخواطر والأفكار السلبية إلى قلبه، ولا يقولن أحد إنني أؤثر ولا أتأثر فالإنسان يتأثر بطريقة لا شعورية والمداومة على القراءة لشخص واحد أو مجالسته تترك تأثيرها اللاواعي، والدعايات التلفزيونية تقوم على فكرة مخاطبة اللاشعور في الإنسان وليس جانبه العقلاني، فأصحاب هذه الدعايات يعرفون أن الناس ليسوا سذجاً حتى يصدقوا دعايات خيالية مثل قفز إنسان من عمارة شاهقة أو أن مشروباً يمنح الإنسان طاقةً خرافيةً، ولكنهم يراهنون على التأثير على اللاشعور لأن تكرار عرض المشهد يطبع صورةً ذهنيةً في عقل الإنسان تترك أثراً على سلوكه بطريقة لا شعورية، ومن هنا فإن تكرار القراءة للون فكري واحد يصيب الإنسان بنظرة أحادية، ومن أراد أن يقترب من الموضوعية فإن عليه أن يعود نفسه أن يقرأ لألوان فكرية متعددة حتى يظل قادراً على البقاء في حالة التوازن ..

ولسبب التأثير اللاواعي فإنني أمسكت ذات مرة بكتاب من تأليف ألبرت آينشتاين وأخذت أقرأ فيه مع أنني كنت أجد صعوبةً في استيعاب كل الأفكار الواردة فيه، ولكن هدفي من القراءة لم يكن فهم كل التفاصيل العلمية الواردة فيه بقدر ما كان محاولة التأثر بطريقة تفكير هذا العبقري ونظره للأمور، فالقراءة لعالم عبقري حتى وإن لم تؤدي إلى فهم كل ما كتبه إلا أنها تصيب القارئ بشيء من العدوى الإيجابية وتسمح بتسرب تأثير أسلوبه ونظرته إلى القلب بطريقة لا شعورية.

ونفس الشيء ينطبق على القرآن الكريم فهذا الكتاب هو قمة الكمال والجمال في أسلوبه وأنساقه وترتيب معانيه وطريقة عرضه، ومن يكثر من قراءته والاستماع إليه بتدبر فإنه يتأثر لا شعورياً به، فمن أراد أن يهذب نفسه ويرتقي بأسلوبه وينظم أفكاره فإن إكثاره من قراءة القرآن تترك أثرها في ذلك حتى دون أن يتنبه إلى أن هذا الأثر الذي يراه في أسلوبه وتفكيره هو بفعل القرآن، وما التشابه الذي نراه بين شخصين لم يجمع بينهما زمان أو مكان في طريقة التفكير ومعالجة الأمور إلا بفعل وحدة المرجعية التي انطلقا منها وهي القرآن الكريم، وهذا أثر آخر تحدثه كلية القرآن غير أثر التدبر الجزئي في معاني الآيات وألفاظها..

إن من يعلم أن أفكاره هي التي تصوغ حياته وتحدد مصيره جدير به أن يراقب هذه الأفكار وأن يحرص على أن يملأ قلبه بمعاني الإيمان والإيجابية والخير، ويمارس عبادة الإعراض عن الظواهر السلبية حتى لا تنفذ سمومها إلى قلبه فتورده موارد الهلاك..

والله أعلى وأعلم..

(نسخة خاصة للحكومات العربية وأجهزتها الأمنية)


خطورة قولبة المجتمعات

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

أعني بقولبة المجتمع أن يتم صبه في قالب واحد، فيراد لكل أفراد المجتمع أن يكونوا على لون واحد، وأن يفكروا بنفس الطريقة وأن يكون لهم نفس الموقف السياسي، ، فإذا قدر الحزب الحاكم تقديراً حوَّله إلى قرار ملزم، وما رآه حسناً وجب على المجتمع أن يراه حسناً، وما رآه سيئاً فهو كذلك، فهو قد جعل مقياسه للصواب والخطأ مقياساً مطلقاً ملزماً لكافة أفراد المجتمع..وبذلك يختزل المجتمع كله في حدود جماعة واحدة ويقيد بمواقفها ورؤاها.

لا نناقش في حق الجماعة الحاكمة بأن يكون لها اجتهاداتها وتقديراتها السياسية سواءً أصابت أم أخطأت، فمن حق الجميع أن يجتهد وأن يتبنى ما يراه مناسباً، ولكننا ننتقد محاولة حمل المجتمع كله على هذا الرأي لا لشيء إلا لأنه صدر ممن يمتلك سلطةً ونفوذاً، وكأن سلطته ونفوذه تمنح رأيه قدسيةً خاصةً تميزه عن غيره من الآراء..

إذا رأى الحزب الحاكم أن يتجنب التعليق على أحداث تجري في دولة مجاورة لاعتباراته السياسية، فهذا من حقه، لكنَّ ما ليس من حقه أن يفرض اعتباراته التي يراها على المجتمع كله فيمنع أي مقالة أو تظاهرة أو نشاط يرى رأياً آخر في المسألة..إن الاعتبارات والتقديرات السياسية التي يراها الحزب الحاكم تلزمه وحده، ولا تلزم المجتمع كله معه، وحق التعبير عن الرأي يجب ألا يكون مرهوناً بمدى اتفاقه أو مخالفته لرأي الحكومة السياسي، أو أن يكون وسيلةً للاستعمال التكتيكي فإن رأت الحكومة في إحدى المراحل أن تصعد على إحدى الجبهات أوحت إلى الناس بالتظاهر، وإن رأت أن تهدئ على تلك الجبهة منعت التظاهر، بل إن حق التعبير عن الرأي أياً كان هذا الرأي في اختلافه عن رأي أصحاب السلطة والنفوذ هو حق مقدس لا يقبل المقايضة..

ربما يبدو مشهد المجتمع أو الجماعة التي لا يسمع فيها سوى رأي واحد مشهداً إيجابياً في الذهنية العربية فهو دليل على الانضباط والتماسك ووحدة الصف، لكن هذه الإيجابية أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، فثمن هذا التماسك الظاهري باهظ يدفعه المجتمع أو الجماعة من مستوى الإبداع والتفكير فيها، وكلما كان حرص الجماعة على إظهار نفسها بمظهر المتماسك المنضبط أكثر كلما كانت أكثر ضيقاً بأي رأي يخالف التوجه العام فيها، فهي لا تريد أن تسمع سوى ما يتناسب مع أهوائها فتتعطل ملكة النقد لدى الأفراد وتصبح البيئة المجتمعية مضادةً للتفكير والإبداع.

والخلل يبدأ من الثقافة العربية في أنها تعلي من شأن قيم الجندية على حساب الاهتمام بقيم القيادة، فهي تكيل المديح للانضباط والالتزام والسمع والطاعة، بينما لا تثني بالقدر الكافي على التفكير الحر والنقد البناء وثقافة تعدد الرأي، ويربي المجتمع أبناءه منذ الصغر على إلغاء عقولهم وتقليد الكبار وعدم الإكثار من السؤال والاعتراض حتى لا ينبذهم المجتمع، وبذلك ننتج جنوداً لا قادة، مقلدين لا مبدعين..مع أن الأصل في الحياة البشرية هي القيم الثانية وليست الأولى لأنها هي التي تحقق إنسانية الإنسان، وهي التي تساهم في مسيرة التطور البشري، أما قيم الجندية فهي استثناء يصلح زمن الحروب ولا يجوز تعميمه ليصبح أسلوب حياة..

لقد سمعت رجلاً وهو يفسر سر تقدم الأمة فيما مضى وتخلفها في هذا العصر بأن الصحابة كانوا يقولون سمعنا وأطعنا ويسكتون، أما جيل هذا العصر فيتفلسفون ويجادلون، ولو صدق لقال إن السبب هو أن الذين سبقونا كانوا يفكرون، بينما نحن لا نفكر، وقد كان الصحابة أكثر الناس سؤالاً ومناقشةً للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان اتباعهم على بصيرة وليس اتباعاً أعمى.

إن ظاهرة الصوت الواحد والرأي الواحد في المجتمعات ليست ظاهرةً صحيةً، والانضباط والاستقرار الذي تعكسه هو استقرار متوهم، لأن الوضع الطبيعي أن يكون أفراد المجتمع متعددين في أفكارهم وآرائهم، وأن يكون المجتمع زاخراً بالنقاشات والحوارات الفكرية والسياسية، أما المجتمع الذي لا يشهد تعدديةً فكريةً وسياسيةً فهو مجتمع ميت توقف أفراده عن التفكير والنقد، فهم يقلدون ويتبعون على عماية.

وحين نحاول أن نظهر أنفسنا أمام الناس وكأننا طبعة واحدة، ونظن أننا نعكس صورة وحدة وتماسك تكف عنا انتقاد الآخرين فإننا مخطئون، لأن ما يستحق الانتقاد فعلاً هو ألا يكون هناك سوى رأي واحد، وقد خلق الله البشر متفاوتين وكرم كل واحد منهم بشخصية متميزة متفردة عن العالمين، فلا يوجد اثنان على وجه الأرض متطابقين تماماً، ومن يلغي فرديته ويؤثر الانصهار في القوالب الجامدة فإنه يكفر نعمة الله عليه..

وحين يصب المجتمع في قالب واحد ولا يسمح فيه بتعدد الآراء والرؤى فإنه يتحول إلى ما يشبه قطيع غنم يسيره رعاته دون وعي منه، وتقتل ملكة النقد عند الأفراد، فكل ما تراه القيادة الحكيمة الرشيدة صواباً فهو صواب، ولا داعي للتفكير والتساؤل، والنقد والإبداع.

قولبة المجتمع قتل له، لأنها تلغي فردية الإنسان وهي السر الذي يميز جوهره، هذه الفردية هي التي يتولد عنها الإبداع، وهي التي تثري المجتمع وتقويه، وتجعله مجتمعاً نابضاً بالحياة.

إن الحكومات التي تقتل الرأي الآخر وتسعى إلى صب المجتمع في قالبها الخاص، وتقضي على التنوع الفكري هي حكومات فرعونية بامتياز إذ أن مرض القولبة ينتمي إلى فرعون الذي كان يقول لقومه: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".

يتضح الفرق بين إطلاق العنان للتعدد والتنوع، وبين حمل الناس على رأي واحد من الفرق بين واقع المجتمعات الغربية النابضة بالحياة والإبداع وبين المجتمعات العربية الجامدة، فالثقافة الغربية تشجع التعدد الفكري والسياسي الحقيقي وتعمل على تنمية نزعة التفرد في نفس كل واحد، فكل إنسان يفكر بطريقة حرة ويحقق ذاته دون أن يكون مجبراً على اعتناق أيديولوجيات جامدة جاهزة..هذه الثقافة هي التي تنتج أصواتاً معارضةً للسياسات الغربية الرسمية، وتفرز مناصرين لقضايا العدالة العالمية .

تجد في الدولة الواحدة في الغرب تعدداً في الآراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويعبر الجميع عن آرائهم بكل حرية بغض النظر عن اقتراب آرائهم أو ابتعادها عن الموقف الرسمي للدولة، ولم يحدث أن منعت الدولة تظاهرةً بحجة أن الاعتبارات السياسية والمصلحة العليا لا تسمح لهذا الرأي بالظهور إعلامياً، فهذه الاعتبارات ملزمة لها وليس للمجتمع، ولم نسمع عن تأثر العلاقة بين بلدين بسبب تنظيم تظاهرات في إحداهما، بل على العكس من ذلك فإن الحكومات الغربية تباهي العالم بحركات الاحتجاج الشعبية في بلادها بأنها دلالة نضج اجتماعي وسياسي، ومؤشر على الحرية وعلى مجتمعات نابضة بالحياة.

إن ظهور الرأي الآخر يقوي موقف الحكومة ذاتها وربما يساعدها في انتزاع مكاسب إضافية بالتلويح بورقة المعارضة في وجه الطرف الآخر، أي أن التنوع داخل المجتمع يعطي مساحةً واسعةً للمناورة، بينما قولبة المجتمع كله في قالب جامد يقضي على أي مساحة للمناورة ولا يبقي لدى الحكومة الاستبدادية أية أوراق للتلويح بها..

بذلك يتبين أن التعدد السياسي والفكري داخل المجتمع ليس مصلحةً لأحزاب المعارضة وحدها، بل فيه مصلحة للحزب الحاكم ذاته لأنه يمنحه مساحات واسعةً للمناورة السياسية، ويقلل من مخاطر ابتزازه من قبل الجهات الخارجية لأنه يكون حينها أكثر تجذراً في المجتمع، كما أن هذا التعدد يمنح الحزب الحاكم فرصةً للمراجعة وتطوير الأداء وإبقاء عناصره في حالة تحفيز إبداعي للبحث عن وسائل جديدة في المواجهة الفكرية والسياسية مع الآخرين وبذلك يكون وجود الآخر ضمانةً لعدم الجمود والتقوقع والفناء..

إنها فوائد عظيمة يجلبها التعدد لقوم يعقلون..

في المقابل فإن قولبة المجتمعات هي تهديد خطير للمجتمع بما في ذلك الحزب الحاكم، لأن صب المجتمع في قالب جامد يقتل ملكة الإبداع، ويؤدي إلى حالة من الفتور والتراخي، ويصادر ميزة الفردية والهوية ويربط كل صغيرة وكبيرة في إطار صارم من المركزية، وبذلك تصبح حركة المجتمع أكثر بطئاً وأقل مرونةً.

من مظاهر القولبة في المجتمعات العربية سيطرة النزعة المركزية، فتجد للحزب أو للحكومة صحفاً رسميةً ناطقةً باسمها وكذلك فضائيات ونشرات، وحتى لو أراد الحزب تنظيم تظاهرات فلا بد أن تكون تحت رايته متبناةً رسمياً منه، فكل شيء يخضع للمركزية، حتى وجود وزارة الإعلام في البلاد العربية هو دليل قوي على هذه القولبة، فوجود وزارة حكومية تحمل اسم الإعلام يعني ضمنياً أن الإعلام يجب أن يظل في خطوط معلومة لا يحيد عنها، بينما نجد الدول المتقدمة، ومنها إسرائيل لا تعرف مثل هذه الوزارة، بالتأكيد هناك صحف وفضائيات مساندة للحكومات، وتخدم خطها السياسي، ولكن العلاقة بين هذه الوسائل الإعلامية وبين الحكومات ليست علاقات مباشرةًً صارمةًً، وتظل هناك مساحة للتميز والإثراء.

ونحن لا نطرح هذا المثال ترفاً، بل لأنه يسبب أزمةً واضحةً في العالم العربي، فحين يسعى هذا النظام إلى أن يكون الإعلام تحت سيطرته مباشرةً وأن يراقب كل كلمة تخرج منه فهذا يعني أنه لم يعد يثق بأي مساحة للتنوع، وهذا يعني إلغاءً كاملاً للمجتمع، وأن كل ما على المواطن فعله هو أن يفتح فمه ليتلقى الوجبة التي طبخت له جاهزةً دون نقد وتفكير.

من الأمثلة الصارخة التي تكشف عن مرض القولبة في المجتمعات العربية هو ثنائية الاستقرار والحرية، فبينما تبرز مفردة الحرية في الخطاب الغربي وينظرون إليها بأنها قيمة مقدسة، فإن الأنظمة العربية تستبدل كلمة الاستقرار بها، والاستقرار كلمة خطيرة إن كان ظاهرها الرحمة ففي باطنها العذاب، فما أكثر ما تستغل هذه الكلمة لقمع صوت المعارضة، ومصادرة أي رأي آخر، بزعم أن البديل عن الحرية هو الفوضى، وكان ينبغي أن تقدم الحرية على الاستقرار، فالاستقرار الحقيقي لا يكون إلا بإطلاق الحريات، والاستقرار الذي يقوم على إسكات الرأي الآخر وقولبة المجتمع في إطار واحد هو استقرار زائف، سرعان ما تقتلعه رياح التغيير.

إن الحكومات الواعية تعلم أن مصلحتها هي في إطلاق الحرية وتشجيع الرأي الآخر، والجماعة الواعية هي التي تعمل على تقوية حضور المجتمع لا على تقوية التنظيم، لأن قوة المجتمعات هي الضمانة لاستمرار التنظيم ونموه وقوة مواقفه.

والمجتمع هو الأصل وليس التنظيم، فالتنظيم ليس سوى فرع من شجرة المجتمع يمكن أن يذوي ويموت، وينبت محله فرع آخر، لذلك فإن من الخطورة أن يتم تضخيم التنظيم على حساب المجتمع، فتقاس مصلحة المجتمع بمصلحة الحزب، ويصبح من يرى رأياً غير رأي التنظيم وكأنه خارج عن المجتمع..

إن حركة المجتمعات أعقد من أن يتم اختزالها في إطار حزب واحد أو رأي واحد، والشعوب تستعصي على كل محاولات التقييد والتأطير والقولبة.وحياة المجتمعات لا تكون إلا بالحرية الحقيقية التي تطلق العنان للتفكير والإبداع فيكون التقدم والازدهار..

والله أعلى وأعلم..


أسلوب التجريد القرآني

أحمد أبورتيمة

كاتب فلسطيني من غزة

abu-rtema@hotmail.com

مما يلفت النظر في الأسلوب القصصي في القرآن الكريم أنه يكاد يكون خلواً من أسماء الأعلام كالأشخاص والأماكن والتواريخ، بعكس ما يميل إليه البشر في أسلوب القصص من حشوها بالتفاصيل الظرفية لتحقيق عنصر التشويق والتسلية، وهذا يعني أن هدف القصص القرآني لم يكن التسلية ولا الترف الفكري، ويعني أيضاً استعلاء النص القرآني على طبائع البشر وأساليبهم..

حين يقص عليك أحد البشر قصةً يفصل لك أسماء أبطالها وأعمارهم ومواصفاتهم واسم القرية التي يسكنون فيها والمهنة التي يعملون فيها وعدد الأولاد وأسمائهم واسم الزوجة وصفاتها، وهكذا تمتلئ القصة بحشو من التفاصيل التي لا تتعلق مباشرةً بموطن العبرة من القصة بل تهدف إلى الجذب والتسلية، أما القرآن الكريم فتجده يجرد القصة من كل هذه التفاصيل ويقدم لك العبرة خالصةً من أي ملابسات، وهذه ميزة من الوفرة والكثافة في القرآن بحيث لا تخطئها عين المتدبر، فلو بدأنا بأول سور القرآن البقرة مثلاً نجد أن القرآن يقص علينا قصة ذلك الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، دون أن يذكر لنا اسمه ولا اسم القرية ولا الزمان الذي وقعت فيه، كل ما يهتم به القرآن هو موطن العبرة وهو تبيان آية الله في إحياء الموتى، وفي سورة يوسف ورغم كونها المثال النموذجي للقصة في القرآن فلا بد من توافر أسلوب الحبكة والتشويق فيها، وهو ما لا تخلو منه السورة إلا أننا في الوقت ذاته نجد أن ميزة التجريد حاضرةً بقوة.ولو عقدنا مقارنةً بين أسلوب القرآن وأسلوب الكتاب المقدس في قصة يوسف وهو ما فعله مالك بن نبي في كتابه الظاهرة القرآنية لوجدنا فرقاً واضحاً فبينما نجد الكتاب المقدس محشو بالتفاصيل الظرفية لهذه القصة ويكثر من الاستطراد ومن التكرار في غير ضرورة نجد أن القرآن يعتمد أسلوب الإيجاز والتغاضي عن التفاصيل غير الضرورية، والتركيز على المعاني المجردة وحدها.

في الكتاب المقدس تزخر قصة يوسف بتفاصيل الأسماء والأماكن فنجد فيها مثلاً (أرض كنعان، بني بلهة، بني زلفة، وادي جبرون، شكيم، دوتائين، رأوبين، قافلة من الإسماعيليين، جلعاد، يهوذا، عشرين من الفضة، فوطيفار رئيس الشرط، شوع، عيرا، أرض مصر، شمعون، بنيامين، أرض جاسان)، وكل هذه التفاصيل في أسماء الأعلام لا نجدها في القرآن، ولا نرى استطراداً وتوسعاً في التفاصيل الثانوية، وحين يعالج القرآن المشهد الذي دار بين يوسف وامرأة العزيز فإنه يكتفي بالتلميح بكل أدب، وبعد ذلك لا يذكر لنا القرآن عدد السنين التي قضاها يوسف في السجن، ولا يذكر لنا اسم الملك، ولا الحقبة التاريخية التي حدثت فيها وقائع القصة، وهذا الإسقاط المتعمد لكل هذه التفاصيل يبقي قلب الإنسان معلقاً بموطن العبرة وحده، ولو كان القرآن كما يزعم المبطلون اقتبس قصصه من الكتب المقدسة قبله لكان من باب أولى أن يقتبس هذه التفاصيل الظرفية، ولكن هذا الاختلاف في أسلوب القرآن يؤكد تفرده وتميزه..

أمثلة أخرى نجدها في سورة الكهف التي تقص ثلاث قصص رئيسية، في القصة الأولى قصة أصحاب الكهف لا يذكر لنا القرآن متى وقعت هذه القصة وما هي الشريعة التي كان الفتية يؤمنون بها وكم عددهم وما هي أسماؤهم وما اسم المدينة التي خرجوا منها وما اسم الكهف الذي آووا إليه، ومن هو الملك الذي حاربهم وما اسم العملة التي كانت بحوزتهم، كل ما يركز عليه القرآن هو إيمان هؤلاء الفتية وتضحيتهم في سبيل هذا الإيمان والمحنة التي تعرضوا لها، بل إنه يذم في هذه القصة ذاتها انشغال الناس بالجدل في الأمور الثانوية مثل عدد أصحاب الكهف وينهى عن الجدل في ذلك لأن هذه التفاصيل ليست هي مراد القصة.

ونفس الشيء في قصة موسى وفتاه فهو لا يذكر لنا اسم الفتى ولا اسم العبد الصالح ولا اسم البحرين اللذين التقوا عند مجمعهما، ولا اسم القرية التي دخلوها، وكذلك في قصة ذي القرنين هذا الملك الذي جاب مشارق الأرض ومغاربها، ورغم ما يبدو من الأهمية التاريخية لهذا الملك وإنجازاته إلا أن القرآن لا يكشف لنا عن هويته، ولا عن الحقبة الزمنية التي عاش فيها ولا عن خط سير فتوحاته، بل إنه يحذف كل هذه التفاصيل ويركز على موطن العظة وهو الدور الأخلاقي المطلوب من القوة العظمى في الأرض بنشر العدالة ومكافأة الصالحين ومعاقبة المفسدين..

سارع بعض الجهلة إلى الزعم بأن هذا الخلو للقرآن من التفاصيل الظرفية يدل على فقر معرفي عند محمد، وأنه لو دعم القصص بالأسماء لكان ذلك أكثر مصداقيةً، والرد على هذه الدعوى هو بأن هذه الميزة ليست قاصرةً على جانب القصص التاريخي، بل هي بارزة أيضاً في أسلوب معالجة القرآن للأحداث المعاصرة لفترة تنزله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الفترة التي لم يكن ينقص النبي معرفةً غيبيةً بها، ومع أن القرآن كان يغطي ثلاثاً وعشرين سنةً من الدعوة والأحداث الساخنة بين محمد صلى الله عليه وسلم وقريش إلا أنك بالكاد تلمس تعبيراً صريحاً يكشف بأن هذه الآيات تقصد أحداث فترة النبوة، ففي كل القرآن لم يصرح باسم قريش إلا مرةً واحدةً في سياق بعيد عن المواجهة بينها وبين محمد وهو سياق نشاطها التجاري، أي أنه لم يصرح باسمها ولا مرة في حديثه عن المواجهة بينها وبين محمد، ومن بين كل رءوس الكفر الذين حاربوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم لم يذكر إلا اسم أبي لهب، ولو كان القرآن من عند محمد لملأه بهجاء المكذبين له وتحديد أسمائهم لفضحهم.. وحتى لا يقال إن الهدف من إغفال ذكر قريش وصناديدها هو التقليل من شأنهم فإننا نجد نفس الشيء في الجهة المقابلة فالقرآن يخلو من ذكر أسماء الصحابة سوى موطن واحد يذكر فيه اسم زيد، وعدا ذلك لا نجد أي تصريح بأسماء أي من الصحابة الذين كان لهم ثقلهم الوازن طوال فترة تنزل القرآن، فرجل بثقل أبي بكر رضي الله عنه لا يذكر في القرآن ولا مرة وحين تتنزل آيات تتناول شأناً يكون لأبي بكر أو غيره من الصحابة علاقة به فإنه يلمح إليه تلميحاً مثل قوله تعالى "إذ يقول لصاحبه"، "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى"، بل إن هذه الميزة طالت حتى محمداً ذاته وهو المخاطب الأول في القرآن الكريم ورغم ذلك لم تكن الآيات تأتي بصيغة القول (يا محمد) ، فهي إما أن تربط النداء بالوظيفة مثل قوله "يا أيها النبي"، "يا أيها الرسول"، أو أنها غالباً تذكر الأمر مباشرةً دون تحديد النبي بالاسم حتى تشمله وتشمل أمته من بعده.

هذا الخلو للقرآن الكريم من أسماء الأعلام استعاض عنه بالأسماء الموصولة ( الذي، التي، الذين) وهذه الأسماء الموصولة بالآلاف في القرآن ووجودها كما يذكر المفكر المغربي أبوزيد الإدريسي مؤشر على تركيز القرآن على الأفعال وليس على الأشخاص، فحين يسرق شخص اسمه خالد، وتراه فتقول رأيت خالداً السارق فهذا يعني أن هوية الشخص هي موضع الاهتمام، لكن حين تقول رأيت (الذي سرق) فهذا يعني البعد عن الشخصنة، والاهتمام بالفعل مجرداً أياً كان الفاعل. ومشكلة القرآن لم تكن مع قريش من حيث أشخاصهم، ولكن مع كفرهم وتكذيبهم، وبذلك فإن أسلوب التجريد في القرآن يعني الابتعاد عن الشخصنة والتعامل مع الأفعال مجردةً فتدان هذه الأفعال لأنها خطأ بغض النظر عن شخص الفاعل..

أسلوب التجريد في القرآن الكريم هو الذي يؤهله للخلود وللعالمية فلو أنه كان كتاباً مستغرقاً في ذكر التفاصيل الظرفية لزمن نزوله لما وجدنا فيه اليوم ما يلبي حاجات عصرنا ويجيب على تحدياتها، وتصوروا لو أن القرآن اعتمد الأسلوب البشري المعهود في سرد القصص، وأسهب في وصف حياة البادية والخيام والجمال والخيول والسيوف وغير ذلك من المظاهر التي كانت تميز مرحلة تنزله وطالعه اليوم رجل عصري، إذاً لألقى به وقال: وما علاقتي بهذه القصص البالية التي حدثت قبل ألف وأربعمائة عام، وفي أحسن الأحوال كان سيتعامل معه على أنه أثر تاريخي يوثق فترةً زمانيةً من تاريخ البشرية، لكن أسلوب القرآن يبدو متعالياً على الظروف الزمانية والمكانية للمجتمع الذي تنزل فيه، ولا يبدو للبيئة التي جاء فيها أي أثر على أسلوبه.

بأسلوب التجريد تحول القرآن إلى ما يمكن تشبيهه بقالب تستطيع أن تملأه في كل مرحلة بما يلائمها من نماذج تطبيقية، فنفس الآيات التي نزلت تتحدث عن قريش تستطيع أن تسقطها في هذه المرحلة على أي قوم يسيرون على نفس طريقة قريش في الأفكار والأفعال دون أن تشعر إطلاقاً بأن هذه الآيات تتناول قريش..

وبذلك فإن إنسان هذا العصر حين يقرأ القرآن فسيشعر أنه يخاطبه مباشرةً، وأنه يتنزل لتوه عليه، لا أنه وثيقة تاريخية استنفدت فاعليتها، وسيجد لكل آية من آياته تطبيقاتها العملية المعاصرة، فهو سيرى في القرآن وصفاً عاماً للنفاق، ولن يرى استغراقاً في مهاجمة شخص ابن أبي سلول، وسيرى خصائص عامةً للظلم، وليس حديثاً خاصاً عن قوم من الأقوام. وسيكون بإمكان أي إنسان في أي زمان أو مكان أن يجد في بيئته نماذج تطبيقية جديدةً لهذه الأوصاف دون قصرها على نموذج واحد حدث في زمن النبي، وسيظل القرآن كتاباً حياً متجدداً..

إن اعتماد القرآن أسلوب التجريد والتعالي على التفاصيل الظرفية هو مصدر ثراء له.

لقد فهم علماء المسلمين من هذه الميزة القرآنية فوضعوا قاعدةً قالوا فيها إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أي أن علينا أن نتعامل مع الآيات بألفاظها العامة وكأنها تتنزل علينا، لا أن يقتصر فهمنا لها وكأنها تخص زمن نزولها وحسب، لكن واقع الحال هو أن بعض التفاسير تتعامل مع الآيات بخصوص السبب لا بعموم اللفظ فتستفيض هذه التفاسير في شرح ملابسات النزول على حساب المعاني العامة الثرية التي تحتويها الآية مما يرسخ الانفصال بيننا وبين القرآن، فتصير إسقاطاتنا الذهنية حين نسمع آيات القرآن متوجهةً إلى زمن النبي بدل أن تتوجه إلى واقعنا المعاصر اليوم وتكتشف ما فيه من عناصر تدخل في إطار المفاهيم العامة للآية، فإذا تلي علينا مثلاً قوله تعالى "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر" استفضنا في الحديث عن غزوة الخندق وعن حصار المدينة ووصف الحال التي كان عليها النبي والصحابة في تلك اللحظات العصيبة.. وفهم أسباب النزول لا شك أنه يعين على فهم مقاصد الآيات..لكن الخطأ هو أن نظل في هذه الدائرة لا نتجاوزها فنفس الآية بألفاظها العامة المجردة تصلح لوصف مواطن كثيرة في حياتنا، وكل موقف يواجهنا في حياتنا تحيط فيه الشدائد بنا من كل جانب يصلح أن نسقط عليه هذه الآية ، وهذا المنهج هو الكفيل بأن يحيي فاعلية القرآن في حياتنا ويعمق صلته بواقعنا أن نتلو القرآن وكأنه يتنزل علينا..

تجد قوماً آخرين أوتوا الجدل فهم يشغلون أنفسهم فيما سكت الله عليه، ولو علم الله أن في معرفتنا به خيراً لذكره لنا فتجد كل انشغالهم بطرح سؤال من المقصود في هذه الآية، وما اسم القرية التي تعنيها تلك الآية، وما اسم العبد الصالح الذي قابله موسى، ومن هو ذو القرنين، ومن هو الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، ومن هي التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، ومن هو فتى موسى، وما اسم ابن نوح الذي آوى إلى الجبل، وما اسم الشجرة التي أكل منها آدم..هذه الأسئلة تكثر في المسابقات، وربما لجأ أحدهم إلى تأليف كتاب لحل ألغاز هذه الأسماء، وهم يظنون أن ذلك من علامات التقوى والاهتمام بكلام الله ولم يتفطنوا إلى أنهم يسيرون بذلك في الاتجاه المعاكس لمراد القرآن، فالقرآن تعمد إسقاط هذه التفاصيل ليبقي اهتمامنا منصباً على موطن الفعل والفاعلية، والمنهج الأقرب للصواب حين نقرأ هذه الآيات أن نفترض أنها تتناول نماذج موجودةً بيننا وأن نفتش في أنفسنا حتى لا يكون قد أصابنا نصيب من هذه الآيات ففي كل عصر هناك من يؤتيه الله آياته فينسلخ منها، وفي كل عصر هناك من ينقض غزله من بعد قوة أنكاثاً، وكل إنسان منا أمامه شجرة محرمة ينبغي أن يحذر من الاقتراب منها، والقرآن يحتوي على لغة ترميزية عميقة تتجاوز الفهم السطحي المحدود.

في ضوء فهم هذا المنهج القرآني أستطيع أن أفند مزاعم أحد الكتاب الذي قرأت له في مقالة بأن القرآن ذكوري النزعة وأنه هو الذي رسخ الثقافة العربية التي تميز ضد النساء مستدلاً على ذلك بأن القرآن لم يتضمن سوى اسم امرأة واحدة صراحةً وهي مريم..فحين لم يذكر القرآن سوى اسم امرأة واحدة لم يكن الهدف تمييزاً ضد النساء بل اتساقاً مع المنهج العام الذي يتعمد إغفال أسماء الأعلام ذكوراً أم إناثاً، وحتى إذا تأملنا أسماء الأعلام الذكور التي ذكرها القرآن نجد أن الغالبية الساحقة منها هي أسماء أنبياء، وذكر اسم النبي تحديداً ضروري لأن اسمه جزء من الرسالة وتعريفنا باسمه يزيل ما يمكن أن يثار حوله من أساطير مع مرور الوقت.

إن شرط الاستفادة من كنوز القرآن المذخورة هو أن نعيد تفعيل وظيفته الاجتماعية فنفهم آياته وأحكامه وأمثاله في ضوء واقعنا المعاصر وتطبيقاته المستجدة، لا أن نبالغ في الاهتمام بأسباب النزول ونغفل عموم الألفاظ وإطلاقها، فهذا من اتخاذ القرآن مهجوراً أن يكون نصيبنا منه هو ترديد أحرفه وآياته وحسب دون أن نتنبه إلى أن الوحي متجدد وأنه يتنزل علينا لتوه لتكون له كلمته في مشكلاتنا المتجددة..

"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً".

والله أعلى وأعلم..

نصيحة للإخوان المسلمين*

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

تقف جماعة الإخوان المسلمين في مصر وهي أعرق الحركات الإسلامية الحديثة هذه الأيام على أبواب مرحلة جديدة من تاريخها، فهي في وضع انتقال من مرحلة العمل السري والاستضعاف إلى مرحلة العمل العلني وبدء خطوات التمكين، ولهذه المرحلة الجديدة تحدياتها الخطيرة التي تستوجب حسن التخطيط وعمق الرؤية والحذر من أي خطوات استعجالية قد تقود إلى نتائج عكسية.

ولما كان لهذه الحركة ثقلها العظيم الذي لا يستهين به إلا جاحد أو جاهل فإن هذه الحركة في خطوات سيرها ملك الأمة جميعها وليس لمجموعة محدودة من الأفراد، ومن حقها علينا المساهمة في ارتقائها بالأفكار والجهود مهما كانت هذه المساهمة متواضعةً ، وحين نساهم بفكرة أو نصيحة فهذا ليس دليل فضل لنا في علم أو إيمان أو خبرة، لكن اقتضت سنة الله أن يهدي أحياناً المفضول إلى أمر يستفيد منه الفاضل على فضله..

أدخل في النصيحة مباشرةً ودون إطالة في المقدمات وهي أن من الخطأ الجسيم أن تدخل الحركات الإسلامية معترك الحياة السياسية والانتخابات والحكومات بصفتها الحركية، أو حتى بأحزاب تقوم الحركة بإنشائها رسمياً مما يجعل العلاقة بين الجماعة والحزب واضحةً وغير قابلة للنكران، لأن ذلك يقزم الحركة ويحرفها عن هدفها الأساسي الذي وجدت من أجله وهو الدعوة والإصلاح الاجتماعي، فإقحام الحركات الإسلامية نفسها في الانتخابات والترشح ومتطلبات الحياة السياسية والحزبية يسيء إلى نصاعة وجهها المشرق الدعوي ويفرض حولها جداراً عازلاً عن المجتمع ويحولها بدل أن تكون جاذبةً للجماهير إلى طاردة لهم لأن الجمهور لن ينظر إلى جماعة صارت تنافس على المقاعد والكراسي والمناصب -مهما ساقت من مبررات ودلائل، ومهما كانت هذه المبررات منطقيةً- نفس النظرة التي كان ينظر بها حين كانت دعوةً مجردةً ترفع شعار"وما أسألكم عليه من أجر"

ولأن الموضوع بالغ الحساسية فلا بد من وضع النقاط على الحروف حتى لا يحرف الكلم عن مواضعه، فأنا لا أقصد هنا فصلاً بين الدين والسياسة كما تدعو العلمانية، ولا أدعو إلى انسحاب الحركات الإسلامية إلى المساجد والكتاتيب، وترك السياسة لأصحاب الاتجاهات الأخرى، بل أؤكد على ضرورة أن تظل الدعوة الإسلامية دعوةً شاملةً للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والروحي وكافة مجالات الحياة، وأن يكون للإخوان كلمة وبيان وموقف تجاه كل حدث ومستجد على أي ساحة من الساحات..لكن ما أدعو إليه هو ألا تتورط الجماعة بثقلها وتاريخها بالنزول باسمها في معترك السياسة فتخسر مركزها الروحي وصورتها النقية وتتحول إلى مجرد منافس سياسي للأحزاب والاتجاهات الأخرى..بل تظل جماعةً دعويةً روحيةً تنشر أفكار الخير والسلام والإصلاح في المجتمع دون أن تقحم نفسها في الأمور التنفيذية حتى لا يلعق في ثوبها الطاهر دنس السياسة وأهواء الدنيا..فلا يشارك الإخوان باسمهم وقادتهم في الانتخابات لا في هذه المرحلة ولا في المراحل القادمة، ولكن في نفس الوقت يكون لهم بصمة واضحة في كافة مفاصل المجتمع بفعل الروح التي نجحوا في بثها في أبنائهم وبين الناس..

فلو كان في الإخوان مثلاً مليون أخ انضموا إلى الجماعة بدافع إيماني خالص لا تشوبه شائبة من طلب منصب أو وظيفة أو غرض من أغراض الدنيا فإن دور الجماعة تجاه هؤلاء الإخوان – ولا أقول الأعضاء لنظل بعيدين عن التأطير والقولبة ونحافظ على أنفسنا كدعوة مفتوحة للجميع- هو الارتقاء بهم إيمانياً وفكرياً وتربوياً وبعد ذلك بثهم في المجتمع فينطلقوا مؤثرين في مفاصله يشكلون الهيئات والأحزاب والنقابات ويترشح منهم من يترشح للانتخابات ويمارس كل إنسان دوره من الموقع الذي يجده مناسباً ولكن بصفتهم الاجتماعية وليس بصفتهم التنظيمية فإن نجحوا في هذه المواقع فإن ذلك بتأثير روح وإلهام الدعوة التي آمنوا بها وتربوا في أكنافها، وعاد ذلك بالنفع على الدعوة، وإن أخفق بعضهم، وهذا شيء حادث لا محالة بما أننا نتحدث عن جهود بشرية لم يؤد هذا الإخفاق إلى استنزاف مكانة الدعوة والإساءة إلى صورتها المشرقة..

لكن المهم هنا هو الابتعاد عن المركزية الصارمة، فلا يكون قرار تشكيل حزب أو ترشيح قوائم للانتخابات النقابية أو البرلمانية أو خوض الانتخابات الرئاسية قراراً مركزياً يصدر عن قيادة الجماعة لأنه في هذه الحالة ستحسب هذه التشكيلات على الجماعة وسيؤثر كل إخفاق على رصيد الجماعة الروحي والاجتماعي، فالجماعة من مصلحتها أن تنأى بنفسها عن هذه التفاصيل، وألا تتدخل فيمن يشكل الأحزاب والهيئات، وألا تتدخل في اختيارات أبنائها فيمن يرشحون ومن ينتخبون، ولا ضرر بأن يكون هناك أكثر من حزب وتجمع ينبثق من شباب الإخوان لأنهم في هذه الحالة يقومون بدورهم الاجتماعي وليس بدورهم التنظيمي، والمجتمع هو الذي يفاضل بين البرامج المطروحة ويختار إحداها، وكون الأخ منتمياً إلى الجماعة ما ينبغي أن يؤدي إلى إلغاء شخصيته ولا إلى تحجيم انطلاقته في المجتمع..

حين تنأى الجماعة بنفسها عن الاستغراق في التفاصيل الإجرائية وتظل محلقةً في سماء الروح النقية فإنه سيكون لذلك الأثر الإيجابي على بناء الجماعة الداخلي فلن يكون هناك مكان في الجماعة للصراع على المناصب والنفوذ لأنه لا يوجد مناصب أصلاً، فالجماعة في هذه الحالة ستظل للعطاء وليس للأخذ، ولن ينتمي إليها إلا من كانت نيته معقودةً على العطاء والبذل والتضحية، وبذلك يظل الصف نقياً من الشوائب وتظل النفوس صافية تجاه بعضها، وتصبح الجماعة عامل جذب للمخلصين من الناس، وفي نفس الوقت عامل طرد لأصحاب الأهواء والنفوس المريضة، فهي ستطهر نفسها بنفسها وستضمن المحافظة على دورها الإصلاحي الدعوي وستحصن نفسها ضد انحرافات الطريق..

إن خطورة أن تقحم الحركة الإسلامية نفسها في معترك السياسة هو أنها تضع نفسها في صف معاد للتيارات والجماعات المنافسة، وتضعف من قدرتها الدعوية على إقناع الناس بسمو أهدافها وجذبهم للانضمام إليها، وتفتح الباب على مصراعيه للمغرضين والمشككين، والأخطر من كل ذلك أنها تصير وسيلةً للمتسلقين وأصحاب الأغراض الشخصية، وتفجر الخلافات والشقاقات داخل صفوفها مما يؤدي إلى تمزيق بنائها الداخلي، ومهما كان مقدار التربية الذي يتلقاه الفرد فإن الإنسان لا تؤمن فتنته، والدنيا إذا فتحت أبوابها أفسدت طبائع النفوس، وستضعف بالتأكيد روح الأخوة والانتماء التي كان يشعر بها الإخوة في مرحلة الاضطهاد والاستضعاف، وسيلمس أبناء الدعوة جفافاً وجفاءً في العلاقات الأخوية لم تكن لتكون لولا الصراع على المناصب والوظائف وغيرها..

إن ممارسة الحركة الإسلامية لدور الملهم الروحي في المجتمع دون أن تتورط في وحل الممارسات التنفيذية يجعل الحركة أكثر اقتراباً من الأمة ويحطم الحدود العازلة بينها وبين الناس ويجعلها أكثر أهليةً لقيادة المشروع الحضاري للأمة، لأنها لن تكون حينها حزباً يتمحور حول ذاته بل فكرةً عامةً تتشربها النفوس وروحاً تسري بين الناس..

هذه الأفكار تراودني منذ زمن لكن ما دفعني للكتابة فيها الآن هو ما طالعته للمفكر التونسي راشد الغنوشي في كتابه (الحركة الإسلامية ومسألة التغيير) فوجدت عدداً من العلماء والمفكرين قد سبق إلى طرحها فاطمأن قلبي وحمدت ربي أنني وجدت من يعبر عما في نفسي من خواطر، وحتى تتم الفائدة فإنني أقتبس مقتطفات من كتاب الأستاذ الغنوشي أنقلها كما هي ..

ينقل الأستاذ الغنوشي عن حسن البنا رحمه الله قوله "إن الإخوان المسلمين جماعة فوق الأحزاب جميعها وهي أكبر من أي حزب سياسي"، ثم ينقل عن الأستاذ سيد دسوقي قوله "إن الحركة الإسلامية حركة إصلاحية عالمية تصرف أبصار الناس تجاه القبلة الربانية وتضع أيديهم على المصحف ليستخرجوا ما فيه من كنوز القيم في كل مجالات الحياة وليبدعوا حولهم نظم حياتهم وليس حركةً سياسيةً تنفيذية"

ويواصل الغنوشي شرح أفكاره الرائعة: "إن من واجب الحركة الإسلامية أن تضخ في المجتمع خريجيها ممن يملكون ملكات في توجهات أخرى ولا تحبسهم في صفوفها"

إن الحركة الإسلامية في هذا التصور أشبه ما تكون بالمدرسة الحضارية التي تقوم بتخريج أجيال صالحة تنبث في سائر شرايين المجتمع وخلاياه لتقوم بمهمة النهوض الإسلامي ويصبح الحزب السياسي في هذه الحالة كالمؤسسة الاقتصادية والقضائية والعسكرية جزءً من الأمة وتكون الحركة الإسلامية منه بمثابة الروح والعقل والدم والأنفاس.

وفي نفس الاتجاه يورد الغنوشي رأياً للمفكر عبد الحليم أبوشقة رحمه الله يقول فيه "إن قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي وفكري وتوجيهي تربوي توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ روحي وفكري، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة، ودون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد"

كما يستشهد الكتاب برأي للمفكر محمد رمضان سعيد البوطي ينتقد فيه دعاة إقحام الحركة الإسلامية في تشكيل الأحزاب وخوض الحياة السياسية فيقول "إن هؤلاء الدعاة يتحولون إلى حزب منافس في نظر الآخرين..وهكذا يجعل الإسلاميون من أنفسهم خصوماً وأنداداً لتلك الأحزاب والفئات الأخرى، فكيف وبأي دافع تتهيأ منهم النفوس للإصغاء لدعوة هؤلاء الإسلاميين الذين ينافسونهم ويسابقونهم إلى عواطف الجماهير سعياً منهم للحكم"..انتهى الاقتباس

إن الدخول في دائرة تشكيل الأحزاب وخوض الانتخابات سيؤدي حتماً إلى جدر عازلة بين الحركة الإسلامية وقطاعات كبيرة من المجتمع، ومهما قيل عن عمق التربية الإيمانية فإن للدنيا بريقها الذي يفتن النفوس، ولن تكون الحركة الإسلامية بعد تورطها في الحكم قادرةً على المحافظة على نفس الدرجة من التماسك الإيماني والجاذبية الروحية الذي كانت تتمتع به في مرحلة الدعوة الخالصة..ومن منطلق وجودي في غزة أستشهد بمثال مشاركة حماس في الانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة، فقد أدت هذه الخطوة إلى نتائج عكسية، وإلى تراجع ملحوظ في شعبية الحركة وفي أدائها المقاوم، ولم تعد قادرةً على الاحتفاظ بالتألق النضالي الذي كانت تتمتع به حين كانت حركةً جهاديةً خالصة..

إن الحركة الإسلامية مطالبة بالتنبه لهذه المزالق وأن تستمسك بعنصر قوتها كحركة دعوية روحية، وألا تتورط في الدخول في متاهات تستنزف تألقها وتسيء إلى نصاعة اسمها، بل تطلق العنان لأبنائها للانطلاق في المجتمع بحرية لخوض غمار المنافسة وترجمة الروح التي تربوا عليها في برامج تنفيذية تنفع الناس..

"والله يقول الحق وهو يهدي السبيل"..

*مقال صحيفة المصريون