الجمعة، 10 يونيو 2011


أحداث اليرموك..حتى لا تسيء إلى مسيرات العودة

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

صار واضحاً أن مسيرات العودة التي أبدعها الفلسطينيون في ضوء الروح الجديدة التي تجتاح العالم العربي شكلت نقلةً نوعيةً وتحولاً استراتيجياً في آليات المواجهة مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأعادت القضية الفلسطينية بعد عقود من التجزئة إلى مربعها الأول كقضية شعب مشرد من وطنه ويريد العودة إليه وليست مجرد قضية استجداء لبعض الفتات السياسي من على موائد اللئام. كما أنها أعادت تفعيل دور اللاجئين خارج حدود الوطن وأشركتهم في المعركة النضالية كجزء أساسي من الشعب الفلسطيني وساهمت في إنقاذ وعي الأجيال الشابة من التشويه والنسيان..

أمام هذه الفائدة الجمة لأسلوب مسيرات العودة بدا القلق الإسرائيلي واضحاً وهم يستشعرون مقدار الخطر الكامن على وجودهم إذا قدر لهذه المسيرات الاستمرار والتنامي، فهشاشة كيانهم لا تحتمل مشهد مئات الآلاف من أصحاب الأرض الأصليين وهم يحاصرونها من كافة الجهات ويجتازون الأسلاك الشائكة في عبورهم نحو بلداتهم وقراهم، وخطورة المسيرتين اللتين نظمتا يومي النكبة والنكسة ليست في حجم المشاركين فيها، بل في كسرها للحاجز النفسي وإلهامها لمئات الألوف لمن لم يشاركوا فيها وتعريفهم بطريق جديدة يمكنهم من خلالها أن يضعوا حداً لسنوات الغربة واللجوء.

ولم يكن صعباً ملاحظة حالة القلق الكبيرة التي تعامل بها الاحتلال مع هذه المسيرات، فرئيس وزراء الاحتلال قال إن هذه المسيرات تكشف بأن الصراع لا يزال على وجود إسرائيل وليس على حدود 67 وحدها، والمعلقون الإسرائيليون علقوا بالقول إن رياح التغيير تدق أبواب إسرائيل، ولم يقتصر القلق الإسرائيلي على التصريحات الإعلامية وحدها بل بذلت إسرائيل كل جهدها للضغط السياسي على الجيش اللبناني لإلغاء مسيرة العودة في لبنان وذلك عن طريق تواصلها مع الإدارة الأمريكية التي أرسلت بدورها مبعوثاً خاصاً إلى لبنان لإلغاء هذه المسيرة، وقد أدت هذه الضغوطات إلى إعلان القائمين على المسيرة في مخيمات لبنان عن تعليقها وليس إلغائها..

أمام هذا القلق الإسرائيلي الكبير وفي ظل الأجواء العربية الجديدة التي أعادت الاعتبار للجماهير كقوة فاعلة وقادرة على التأثير في صناعة الأحداث فإن أصحاب القضية وأعني بهم اللاجئين الفلسطينيين ومناصريهم مطالبون بالانتباه أكثر إلى أهمية هذا النمط النضالي الجديد ومضاعفة الاهتمام بمسيرات العودة من أجل تطويرها والاستفادة منها في إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني العادلة، وما دام الاحتلال القلق من هذه المسيرات سيبذل بالتأكيد كل جهوده من أجل إفشالها في المستقبل فإننا مطالبون في المقابل ببذل كل الجهود من أجل حمايتها ومدها بأسباب الحياة والازدهار، وترسيخ وجودها كثقافة شعبية متجذرة..

إن من الجريمة ومن الخيانة لدماء الشهداء أن يسير البعض الفلسطيني سواءً علم أو لم يعلم في نفس الاتجاه الذي يسير فيه الاحتلال ويساهم في إفشال هذه المسيرات بأي طريقة من الطرق..

لقد شابت مسيرات العودة الثانية بعض المنغصات التي ينبغي أن نسلط الأضواء عليها ونبحث في أسبابها من أجل إجهاضها سريعاً وعدم السماح لها بالتفاقم..

من أبرز هذه المنغصات هو ما حدث أثناء عملية تشييع شهداء مسيرة العودة في مخيم اليرموك في دمشق من مواجهات بين المتظاهرين الغاضبين وبين بعض الفصائل الفلسطينية وأدى إلى مقتل وإصابة عدد آخر من الفلسطينيين..

نتفهم تماماً وبدون أي تحفظ مشاعر الغضب التي عمت أهالي الشهداء وشعورهم بأن هناك من استعمل أبناءهم كورقة لعب سياسية لتحقيق أهداف دنيئة هي أبعد ما تكون عن الدوافع الوطنية والقومية،وأهلنا في مخيمات سوريا مثلهم مثل اللاجئين في كل مكان لا تنقصهم حماسة واستعداد للتضحية في سبيل العودة إلى فلسطين مهما كان الثمن، والشعب الفلسطيني الذي قدم عبر تاريخه النضالي عشرات آلاف الشهداء حتى غدا مضرباً للمثل في التضحية والفداء لا يمكن أن يبخل بتقديم أبنائه في معركة وطنية شريفة. لذا فإن غضب لاجئي اليرموك لم يكن نابعاً من استشهاد أبنائهم على حدود فلسطين بل كان نابعاً من استهتار بعض أصحاب الارتباطات السياسية المشبوهة بدماء أبنائهم وتقديمها ثمناً للمقايضة، ونحن نتفق معهم في هذا الغضب بدون تردد..

لكن ما ننبه إليه هو ضرورة الفصل بين الملابسات التي شابت مسيرة العودة في الجولان هذه المرة تحديداً وبين فكرة مسيرة العودة المشرقة، وعدم السماح لهذه الملابسات بأن تجهض فكرة المسيرات من أساسها أو أن تسيء إليها وتستعمل لإسقاطها سياسياً فهذا هو المحظور الأكبر..ولو حدث هذا لا قدر الله فإننا نقدم أكبر هدية مجانية للاحتلال الإسرائيلي وننقذه من ورطته، بل إننا سنرسخ لديه قناعة بأنه قادر على إرهابنا بالعنف والدماء مما سيغريه باستعمال قدر أكبر من العنف والتقتيل في المرات القادمة

مسيرات العودة هي أشرف وأكبر من كل الفصائل والأنظمة وحساباتها السياسية الضيقة، ومن أبدع فكرة مسيرات العودة لم يكن أي من الأنظمة ولا حتى من الفصائل الفلسطينية، بل كانوا مجموعةً من الشباب غير المؤطر ليس لديهم أية أجندات سياسية، كل ما يريدونه هو تحقيق حلم العودة التاريخي إلى وطنهم وقد واصلوا في سبيل تحقيق هذا الحلم الليل بالنهار بإمكانيات مادية تساوي صفراً، ولم تكن إمكانياتهم سوى الأفكار الإبداعية، والقدرة على الانتشار عبر الانترنت..لا أقول هذا الكلام تحليلاً بل من الموقع الذي تشرفت بأن أكون فيه كأحد أعضاء اللجان التحضيرية لمسيرات العودة..

حين يأتي بعد هذه الجهود الشبابية البريئة الصادقة من يريد أن يركب الموجة ويحرف الاتجاه لمصالحه الخاصة فهذا شيء طبيعي يحدث في كل ثورات العالم، لكنه لا يدين أولئك الشباب المخلصين ولا يسيء إلى نبل فكرتهم وروعتها..

إن هدف مسيرات العودة لم يكن دفع أبنائنا إلى الموت ولا المقامرة بهم في لعبة سياسية حقيرة، بل كان الهدف في هذه المرحلة تحديداً هو إيصال رسالة سياسية وإعلامية قوية إلى العالم بأن الشعب الفلسطيني لا يزال حياً وهو عازم على العودة إلى دياره مهما طال الزمن، وقد تحققت هذه الرسالة بكفاءة عالية، وشكل مشهد عبور اللاجئين في مجدل شمس لفترة وجيزة الحدود في الخامس عشر من أيار ثم عودتهم أكبر اختراق نفسي منذ ثلاثة وستين عاماً..

في ضوء هذا النجاح الكبير الذي حققته مسيرة العودة الأولى فقد كان يفترض أن تدرس الخطوة التالية بعناية حتى نظل محافظين على الموقع المتقدم الذي كسبناه في المرة الأولى ولا تنتكس الأمور إلى الوراء، لذلك فإن من حقنا أن ننظر بريبة إلى كل تصرف أخرق متهور مثل الذي بدا أن هناك من يدفع إليه في الجولان في الخامس من حزيران، وأن نتساءل إن كانت دوافع من يقفون وراءه بريئة، أم أن هناك خطة مقصودة لإفشال فكرة مسيرات العودة من جذورها بترسيخ انطباع لدى الناس بفداحة الثمن المدفوع في مقابل عدم وجود عائد سياسي مستحق لهذه الدماء.

لكن أياً كان الأمر سواءً مقصوداً أو غير مقصود فإن النتيجة واحدة، والنوايا الطيبة لا تكفي وحدها، وما حدث ينبغي أن نستخلص منه العبر والعظات لأن هدفنا من هذه المسيرات في هذه المرحلة هو إرسال رسائل سياسية وإعلامية وإبقاء الاحتلال في حالة قلق دائمة، وليس الهدف الآن هو تحقيق العودة الفعلية إلى داخل فلسطين، وهذا الهدف يمكن تحقيقه بأقل الخسائر، وحين تنضج الظروف لزحف مئات الألوف في وقت واحد باتجاه الحدود فإن الشعب الفلسطيني لن يبخل عن تقديم الشهداء في سبيل تحقيق هذا الهدف..

المطلوب الآن هو المواصلة والاستمرار وإتباع مسيرة العودة الثانية بثالثة ورابعة وعاشرة حتى لا يلتقط العدو أي إشارة ضعف أو وهن منا تقنعه بقدرته على إرهابنا، مع أخذ بعض التدابير التي تقلل من الخسائر البشرية مثل أن يصل اللاجئون في المرة القادمة إلى نقطة تسبق الحدود بكيلو متر واحد أو أقل قليلاً وألا يصلوا إلى نقطة الاحتكاك المباشرة ما دامت الرسالة ستصل في هذه المرحلة دون الاحتكاك المباشر، ونعيد التأكيد على قولنا في هذه المرحلة لأن هذا ليس موقفاً نهائياً نابعاً من إحجام وتخاذل بل هو موقف تكتيكي لبعض الوقت، تتبعه تكتيكات أخرى..

إن مسيرات العودة هي ملك لكل لاجئ فلسطيني وهي أكبر من كل الفصائل وحساباتها الضيقة، والشعب الفلسطيني حين خرج في هذه المسيرات فقد كان خروجه بدوافع ذاتية وليس بتحريض من أي فصيل، ومما يؤسفني قوله هو أن الفصائل كان موقفها دون المستوى المطلوب بكثير تجاه هذه المسيرات رغم ترحيبها الإعلامي بها، وقد كانت سلبية مواقف الفصائل باديةً سواءً في حالة دفع بعضها للمشاركة في سوريا، أو في حالة عدم مشاركتها داخل الأراضي المحتلة، وهو الموقف المستغرب والمستهجن والذي أعجز عن استيعابه حتى الآن. لذلك فإنني أعذر أهلنا في مخيم اليرموك في غضبتهم وهم يهتفون (الشعب يريد إسقاط الفصائل) ونرجو أن يكون هذا الهتاف جرس إنذار لهذه الفصائل بأن عليها أن تكون أكثر اقتراباً من نبض الشارع ومن تفكير المواطن البسيط قبل أن يتجاوزها الشعب ويلفظها كما تلفظ الشعوب الثائرة حكامها..

والله الهادي إلى سواء السبيل..