الأحد، 26 سبتمبر 2010

ملهمة الأحرار

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

قبل سبع سنين قتلت ناشطة السلام الأمريكية ريشيل كوري في جريمة بشعة ارتكبها الاحتلال الصهيوني في مدينة رفح الفلسطينية التي قدمت إليها لتتضامن مع أهلها في مواجهة جرافات الاحتلال وهي تدمر بيوتهم وتشردهم في العراء..

لم يرحم الاحتلال ضعف ريشيل، ولم يراع أي اعتبار لخلق أو إنسانية أو قانون فسحقت جرافاته جسدها النحيل سحقاً، لا لذنب اقترفته إلا لأنها أجابت داعي الحق والعدالة وجاءت من أقصى الدنيا لتتضامن مع شعب مظلوم مقهور، ولتغسل شيئاً من العار الذي لطخ به بوش وإدارته اسم بلادها.

قتلت ريشيل لكن مقتلها لم يكن خسارةً لمبدئها الذي عاشت من أجله، فقد استطاعت برحيلها أن تفضح مدى بشاعة وجه الاحتلال وإجرامه ولا أخلاقيته، وإثبات أن كل المساحيق التي يحاول أن يجمل بها وجهه لا تخفي حقيقة وجهه القبيح وأنه لا يقاتل مجموعةً من الإرهابيين كما يزعم، بل إنه يحارب قيم الإنسانية والحرية والحياة التي كانت تمثلها ريشيل..

لا يسع المرء إلا أن يخشع أمام هذا النموذج الإنساني الرائع الذي قدم البرهان على أن البذل والعطاء لا تحده الحدود..فما الذي كان يجبر هذه الفتاة الأمريكية المنعمة في بلادها أن تترك حياة الرفاهية وتأتي إلى مخيمات البؤس والحرمان لتناصر شعباً لا يربطها به رابطة دين أو جوار أو قومية..

أتذكر وأنا أتابع سيرة راشيل الآية الكريمة "وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"..فهي مثال بأنه لا يزال في الأرض بقية من حق وعدل، وأن هناك من البشر من لا تزال قلوبهم تنبض بحب الخير والعدالة، لم تتلوث فطرتهم السليمة في زمن علت فيه لغة المصالح وحسابات السياسة وساد الجشع والطمع وانعدمت الأخلاق..

كانت راشيل وهي الفتاة العشرينية تستطيع أن تظل في حياة الرغد والرفاهية.. كان يمكنها أن تتصرف مثل الشباب الطامحين في بلادها فتسعى لتحقيق ذاتها عن طريق الجامعة أو تنضم لمؤسسة الفضاء أو تسعى لتكون مخترعةً أو تشق طريق الثروة والشهرة..كانت أيضاً تستطيع أن تناصر القضية الفلسطينية بالكتابة والأنشطة الثقافية من مكتب مريح في بلدها، وكان يمكنها أن تشارك بين الحين والآخر بمسيرات تأييد أمام البيت الأبيض دون أن تضطر إلى المجيئ إلى مكان يتهدده الخطر والموت من كل مكان..

لكن نداء الإنسانية المنبعث من أعماقها أبى عليها وهي ترى صور الأشلاء والدمار وتسمع آهات المعذبين إلا أن تشاركهم محنتهم وتتقاسم معهم لحظات الألم والصمود فخلعت عن نفسها دثار القعود والإخلاد إلى الأرض ونفرت إلى ميدان المعركة وهي لا تملك عدةً للمواجهة سوى قلب نابض بحب العدالة وإرادة تأبى التسليم بواقع الظلم والاستعباد.

لقد أدركت ريشيل أن الحياة موقف، وأنه لا معنى لها إلا بالجهاد في سبيل الحق والعدل والإنسانية، وأن حياة النعيم والترف لا تحقق إنسانية الإنسان..

صحيح أن الحياة من أجل المبادئ تجلب للإنسان المتاعب والصعوبات وتحرم جسده من الراحة والتنعم، وربما يفقد حياته في سبيل مبدئه، لكنها هي الحياة الوحيدة الحقيقية لأن الإنسان حينها فقط سيشعر بتحرر روحه من الأغلال، وسيشعر بلذة روحية لا تعادلها كل ملذات الجسد الفاني.

لقد فهمت راشيل هذه المعادلة جيداً، وعلمت أنه لا خير في حياة يتمتع فيها أناس بينما إخوة لهم آخرون من بني البشر يعانون ويتألمون، فحق لها أن تكون مفخرةً لبني الإنسان..

أليس جديراً بنا أن نتواضع أمام هذا المثال المشرق للعطاء بلا حدود

حين أفكر بالمقارنة بين أنموذج ريشيل وبين واقع الظلم والظلمات الذي تحياه الشعوب العربية فإنها تكون مقارنةً أليمةً بلا شك،فمن المفارقة أن فتاةً أمريكيةً ليس لنا عليها حق دين ولا جوار ولا قرابة رحم تسافر إلينا في سبيل قضيتنا وتتصدى بجسدها النحيل لجرافات الموت الصهيونية وتقدم حياتها دفاعاً عن الشعب الفلسطيني، بينما إخوة لنا من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا لنا عليهم حق الدين والتاريخ والقومية واللغة والمصير المشترك يغرقون في حياة اللهو واللعب لا يبالون بما يصيب إخوانهم الذي يجاورونهم، هذا إذا لم يكونوا عوناً لأعدائهم عليهم..ألا تخشون أيها المتقاعسون أن تكونوا ممن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين..ألا تخشون أن تجري عليكم سنة الله فيستبدل قوماً غيركم من أمثال ريشيل ثم لا يكونوا أمثالكم.. أليس أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله..

إن راشيل وأخواتها وإخوانها من أحرار العالم قد أقاموا الحجة على المخلفين القاعدين في بيوتهم الذين تنقضي سنين عمرهم وهم يتمتعون ويأكلون دون أن يقدموا لأمتهم أو للإنسانية شيئاً نافعاً

شتان بين من يذكره التاريخ في صفحات المجد والخلود، وبين من يكتب في سجل المتخاذلين القاعدين في أسفل سافلين..

لقد قدمت لنا تجربة ريشيل البرهان بأن الحرية والكرامة لا تحدها حدود دين أو لون أو عرق، فلنتواضع قليلاً ولنكسر كبرياء أنفسنا فنحن بشر ممن خلق، ومن قعدت همته عن تقديم العون لإخوانه فلا أقل من أن يشكر من يقدمه بدل أن يسلقهم بألسنة حداد لأنهم ليسوا على مذهبه ولونه، والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً أياً كانت ملته "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"..

لقد ظن الاحتلال حين قتل ريشيل بأنه سيقتل روح الإرادة الحرة في نفوس أحرار العالم ليخلو له الجو بعد ذلك فيواصل جرائمه كما يشاء.. لكن ظنه قد خاب.وهكذا هي قوى الظلم والاحتلال عبر التاريخ تقع في الحسابات الخاطئة، فيحيق بهم مكرهم السيئ من حيث لا يشعرون..إنهم لا يملكون أكثر من القمع والإرهاب..فيستعلمون أدوات إرهابهم ظناً منهم أنها توهن من عزيمة الأحرار، لكنها على العكس من ذلك فهي تزيدهم استشعاراً بضرورة الصمود والانتصار..وها هي ريشيل تنتصر على أصحاب الأخدود فيؤمن معها كل صاحب فطرة نقية محبة للخير، وتتنامى حركة التضامن الشعبية العالمية مع القضية التي قتلت من أجلها، فهي لا تزال حيةً في قلوب أحرار العالم يستلهمون منها معاني الحرية والعطاء..

إننا نراها قادمةً مع نشطاء السلام وهم يركبون البحار ويواجهون الأخطار ويصرون على خوض المواجهة مع آلة الاحتلال والعدوان لا يملكون سلاحاً في المواجهة سوى إرادة الحق والانتصار..

لقد سجل التاريخ مشهد المواجهة غير المتكافئة بين جالوت الظالم المدجج بالسلاح وداود الفتى الإسرائيلي الذي لا يملك سوى الإيمان والحجر..لكن الغلبة كانت للإيمان الأعزل على الظلم المدجج "وقتل داود جالوت"..

وها هو التاريخ يستعيد دورته، ويرتسم مشهد المواجهة بين داود وجالوت من جديد..لكن جالوت اليوم ليس هو جالوت الأمس..فقد أصبح جالوت نووياً يمتلك أسلحة الدمار الشامل..ولعل من سخرية التاريخ أن جالوت اليوم هو إسرائيلي بعد أن كان الإسرائيلي هو داود في الزمن الغابر..

ويقف داود الأعزل ممثلاً هذه المرة بنشطاء الحرية الذين لا يمتلكون أي سلاح سوى سلاح الحق والإرادة يواجهون بصدورهم العارية آلة الموت والدمار وهم يستلهمون من روح ريشيل التي حملت إحدى سفنهم اسمها معاني الحرية والإنسانية ويخوضون المواجهة، وينتصروا فيها ليسوءوا وجوه إسرائيل، ويكشفوا حقيقة كونهم مجرمي حرب، وليقدموا برهاناً آخر على قوة الإيمان في مواجهة الطغيان..

لقد تحولت ريشيل بعد رحيلها إلى كابوس يقض مضاجع الصهاينة ويلاحقهم في محاكم التاريخ والعدالة..

إن أصحاب المبادئ لا يموتون، وحين تصيبهم سهام الظلم تكون تلك هي اللحظة التاريخية الضرورية لبث روح الحياة في نفوس الشعوب..

سلام على الخالدين..

الثلاثاء، 21 سبتمبر 2010

الإنسان يصنع قدره

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

ظهرت فرقة في تاريخ المسلمين عرفت باسم الجبرية، تعتقد بأن الله هو الذي يخلق أفعال العباد وأن الإنسان مسير لا مخير..

هذه الفرقة وإن غاب اسمها في أحشاء التاريخ، إلا أن روحها لا تزال حيةً في قلوب أكثر المسلمين، بل أكثر الناس الذين يزعمون أن الظروف والأحداث هي التي تسيرهم، وأن أمواج الحياة تتقاذفهم لا يستطيعون ردها، وأنهم خيرون طيبون لولا أن الظروف اضطرتهم لئلا يكونوا كذلك..

ما يدفع الإنسان لمثل هذا الاعتقاد أنه يجد راحةً في إعفاء نفسه من تحمل المسئولية، وتعليقها على القضاء والقدر.فالاعتقاد بالجبرية يعني أن ما يواجهنا من مصائب لم يكن من كسب أيدينا، وأنها كما جاءت وفق المشيئة الإلهية على غير إرادتنا، فإن الخلاص منها لن يكون إلا بالمشيئة الإلهية وحدها دون أن نقوم بأي دور تجاهها وأنها ليس لها من دون الله كاشفة.

وبذلك تصير النظرة إلى الأحداث بأنها تقع بشكل عشوائي، كلسان حال الشاعر الذي قال (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ..ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت ..وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت)

وخطورة هذه النظرة أنها تلغي أي أهمية للجهد البشري، بل إنها تلغي إنسانية الإنسان وتحوله من الإنسانية إلى الشيئية يسير على غير إرادة وهدى، وما دامت هذه هي نظرة الإنسان للحياة فلن يكون هناك أي قيمة للسعي وللعمل، لأن الحياة تسير على نحو عبثي دون سنن وقوانين تضبطها، وحين يظن الإنسان أن العبثية هي التي تحكم الوجود فلن يكون هناك داع للعمل والأخذ بالقوانين، فالعبثية تلغي جدوى القانون.

إن هذا الظن هو وصفة للتكاسل والتواكل والسلبية، وللفساد في الأرض، فمن يظن أنه لا دور له فيما يصيبه من أحداث وأن أمواج الحياة تتقاذفه بخبط عشوائي فلن يراجع نفسه ولن يصلح عمله.

لقد ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بالقدرة على الاختيار "وهديناه النجدين"، ومبدأ الاختيار هو الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والاختيار في دلالته العميقة يعني أن الإنسان قادر على صناعة قدره بنفسه، فالله قد استخلفه في الأرض ومنحه القدرة على فعل ما يريد على أن يتحمل مسئولية اختياره، لذلك فإن الحساب والعقاب هو الوجه الآخر للحرية، وهذا هو تكريم الإنسان أن يختار ما يريد ويتحمل عاقبة هذا الاختيار: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".

وحين يتحدث القرآن عما ينتظر الإنسان سواءً في الدنيا والآخرة فإنه يربطها بعمله "جزاءً بما كانوا يعملون"

إن قدرة الإنسان على الاختيار يعني أنه مسئول عن نتيجة كل أفعاله، وأن كل ما يفعله اليوم سيلاقي نتيجته غداً، وإذا كانت أفعال اليوم هي التي تصنع حياة الإنسان في الغد، فإن واقعه اليوم أيضاً ما هو إلا صناعة الأمس، فإذا تساءلنا عن المصائب التي تواجهنا في حاضرنا:أنى هذا؟ فإن علينا أن نبحث عما قدمت يدانا، فهي لم تكن لتصيبنا إلا بما كسبت أيدينا: "قل هو من عند أنفسكم".

لكن أكثر الناس على اختلاف أديانهم وألوانهم بدل أن يلتفتوا إلى داخل أنفسهم فإنهم يبحثون عن أسباب مشكلاتهم خارج ذواتهم، ونقصد الذات هنا في جميع مستوياتها: الفردية، والجماعية، والحضارية، فالفرد يسب المجتمع والظروف لأنه فشل في حياته، والشعوب تحمل حكامها مسئولية الفساد والاستبداد، والعرب يحملون الغرب مسئولية خيبتهم وتأخرهم الحضاري، والغرب بدورهم يحملون العرب مسئولية الإرهاب والظلامية، ولا يفكرون بالأسباب التي قادت إلى هذه النتائج، وهكذا فإن كل حزب بما لديهم فرحون.

إن البشر يتقنون تبرئة النفس وتقديسها والعيش بنفسية الضحية وأنهم مظلومون مضطهدون، وحين تحل المصيبة بأحدنا فإننا نتعاطف معه بالقول إنه لا يستحق ما حدث له، وحين نتحدث عن تاريخنا نستفيض في وصف الجرائم التي قامت بها جيوش التتار تجاه عاصمة الخلافة، من جبال الجماجم وإحراق المكتبات، واسوداد نهر دجلة، وقتل الخليفة، ولكننا لا نبحث بجدية في حياة الخليفة الغارقة في الترف مما كان سبباً في تجرأ التتار على غزو ديارنا .

ونفس المنهج في حديثنا عن تاريخنا المعاصر فنرسم صورةً ورديةً بأننا كنا نعيش بأمن وأمان وادعين مسالمين، وفجأةً نزلت علينا البلايا من السماء، وغزانا الاستعمار، وأقيمت إسرائيل على أنقاضنا..

لكن القرآن قد جاء بفكرة انقلابية تنسف هذه المفاهيم السائدة، فهو لا يقر نفسية الضحية، وعلى العكس من ذلك يرسخ فكرةً غير مألوفة بين البشر وهي فكرة (ظلم النفس)، والبشر يتحدثون عن ظلم كل أحد لهم إلا ظلمهم لأنفسهم وهو الظلم الرئيسي الذي يركز عليه القرآن دائماً "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم"، "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، "ظلمنا أنفسنا"..

إننا نحن المسئولون عما يواجهنا من مصائب لأن الله قد أعطانا القدرة على الاختيار، ونحن الذين نملك أن نصنع الحياة بالطريقة التي نريدها فحياتنا من صنع أفكارنا، ولا يتغير واقعنا إلا إذا غيرنا الأسباب التي قادت إليه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"..

إن القرآن يبرز دائماً المسئولية البشرية في كل ما يصيب البشر، ففي قضية الإيمان والكفر، والهدى والضلالة يبين أنها ليست عشوائيةً فالله لا يضل إنساناً إلا إذا اختار هو الضلالة "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً"، "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً"، وفي المقابل إذا صدق إنسان في البحث عن الهداية ورغب في اتباع الحق فإن الله سيوفقه في ذلك "والذين اهتدوا زادهم هدى"..

الإنسان هو الذي يبدأ، والله يعطيه ما يريد ، فهو مخير لا مسير.

إن الإسلام يعزز دور الإنسان في اختيار قدره بدعوته على الالتفات إلى داخل نفسه لتغيير واقعه، فهناك في الإسلام مبادئ مثل الاستغفار والدعاء ينبغي ألا نفهمها بالطريقة التعبدية وحسب، بل لها دلالتها الفلسفية العميقة، فالاستغفار يكون لتدارك أخطاء الماضي حتى نتجنب آثارها المستقبلية، فهي محاولة للتأثير في المستقبل، والدعاء كذلك بمعناه الإيجابي أن الإنسان يحاول أن يستجلب شكلاً معيناً للمستقبل وأنه يستطيع أن يرد القدر بالقدر فلا جبرية أو حتمية (لا يرد القضاء إلا الدعاء)..

هل لنا أن نفهم السر الذي يميز قصة قوم يونس في القرآن الكريم عن غيرهم من الأقوام..إنها تمثل برهاناً على أن البشر يستطيعون بأنفسهم أن يصححوا مسار التاريخ، فهلاك الأمم ليس حتميةً تاريخيةً، ولكنه اختيار قابل للتعديل إن هم تابوا ورجعوا إلى الطريق الصحيح، هذه لفتة استفدتها من المفكر السوري جودت سعيد.

إن إرادة الله الغالبة لا تنفي دور الإنسان في صناعة القدر، نحن نعلم أنه لا يكون إلا ما يريد الله ولكننا لسنا مطلعين على علم الله حتى نتحرك بناءً عليه، فنحن حين نعمل فإننا نعمل وفق اختيارنا وليس بناءً على معرفتنا باختيار الله، وما نصنعه في النهاية يكون هو إرادة الله، فنحن نتحرك ضمن قدر الله ولا نلغيه، فنفر من قدر الله إلى قدر الله، إن المرض والهزيمة والفقر أقدار إلهية ولكن العافية والنصر والغنى هي أقدار إلهية أيضاً، والسعي لتغيير الحال من هزيمة إلى نصر، ومن مرض إلى عافية هي أقدار أيضاً..

إن الإسلام يذهب بعيداً في إعلاء قيمة الدور الذي يستطيع الإنسان أن يقوم به في صناعة قدره حتى يشمل ذلك الدور أموراً تفصيلةً نظن أنَّ أحداً من البشر لا يستطيع التأثير عليها، وأنها قدر إلهي محض لا نملك تغييره، مثل الطريقة التي سنموت بها، وهذا ما توضحه قصة الأعرابي الذي ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه اتبعه على أن يصاب بسهم في حلقه فيخرج من نحره فكان الجواب النبوي: إن تصدق الله يصدقك ، وهو ما كان له فمات بالطريقة التي يريدها بالضبط، ونفس المعنى في الحديث أن صدقة السر تقي مصارع السوء أن الإنسان يملك بعمله أن يختار طريقة موته.

إذا كان الإنسان يمكن أن يبلغ درجةً يختار فيها حتى طريقة موته، وإذا كان هناك من عباد الله الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبره، فهذا يعني أنه لم تعد هناك دائرة للغموض والقلق والعشوائية في هذه الحياة، وأن الإنسان يملك أن يمسك زمام قدره بيديه، وهذه هي قمة التكريم الإلهي للإنسان الذي نفخ فيه من روحه، وكون الإنسان فيه نفخة إلهية فهذا يعني أن فيه أثراً من صفات الله، وكما أن الله يفعل ما يريد، فإنه قد أعطى للإنسان القدرة على أن يفعل ما يريد، طبعاً في حدود بشريته وعبوديته "وما تشاءون إلا أن يشاء الله"..

وكما ذكرنا مثالاً من المستوى الفردي فإننا نذكر مثالاً آخر من المستوى الجماعي وهو قول الله عز وجل:"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، والمعنى أن الإنسان يستطيع أن يؤثر في الظواهر الطبيعية بتغيير رصيده النفسي..وبذلك تصير الطبيعة مسخرةً للإنسان، ويكون مسيطراً عليها بدلاً من أن يكون تائهاً حائراً مصدوماً أمام غضبها كما هو حاله اليوم .

جميل أن خبراء التنمية البشرية أدركوا جانباً من هذا المعنى الإيجابي للقدر فخرجوا لنا بقانون الجذب الذي يقول في خلاصته أننا نحن الذين نختار مستقبلنا إيجاباً أم سلباً، نجاحاً أم فشلاً..

إن هذا الفهم الإيجابي للقدر يؤكد لنا أن الحياة لا تسير على نحو غامض فتشقينا يوماً وتسعدنا آخر، أو أن الحظ يبتسم لنا يوماً فننجح، ويتجهم آخر فنفشل، ولكننا نعيش وفق اختياراتنا، وبذلك نتحرر من أغلال السلبية والتواكل والتكاسل، وتنطلق طاقاتنا باتجاه التغيير لبناء مستقبل أفضل..

والله أعلى وأعلم..

الجمعة، 17 سبتمبر 2010

تمزيق المصحف وتمزيق الأمة

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

ثارت ثائرة الثائرين حين أعلن شخص معتوه لم يكن العالم يسمع به قبل أيام قليلة فقط عن اعتزامه إحراق المصحف، وتعامل البعض مع هذه الخطوة وكأنها تهدد بناء الإسلام بالانهيار، وكأن إحراق أوراق المصحف سيؤدي إلى شطب القرآن من الوجود.

أغلب الظن أن هذا القس والذي وصفته ابنته بأنه فقد عقله، والذي يقل عدد مرتادي كنيسته عن الخمسين شخصاً أعلن عن هذه الخطوة طلباً للشهرة وهو الهدف الذي نجح في تحقيقه بامتياز، ساعدته في ذلك آلة إعلامية جبارة كل همها هو الإثارة فحسب دون أي استشعار للمسئولية، كما ساعده بعضنا من حيث لا يدري بإعطائه أهميةً لا يستحقها، وحين يرى شخص يعاني من اضطرابات نفسية تظاهرات تخرج ضده فإن ذلك لن يكون مصدر إزعاج له، بل إن تلك التظاهرات ستشبع نفسيته المريضة وستشعره بالنشوة وستخلق لديه إحساساً بأنه شخص ذو قيمة وتأثير، وأنه صار قاهراً للأعداء..

يحق لذلك القس-والذي تعمدت ألا أحفظ اسمه لأن هناك ما يكفي من الأولويات لأشغل بها حيزاً من ذاكرتي- يحق له بعد اليوم أن يفتتح معهداً للتدريب على كيفية نيل شهرة عالمية في أقل من أسبوع، وأتوقع له نجاحاً كبيراً في أوساط جمهور فارغ باحث عن الشهرة.

لكم أن تتصوروا لو أنه قام بفعلته بعيداً عن كل هذا الصخب والضجيج، وأن أحداً لم يعره أي اهتمام هل كان سيضر الإسلام شيئاً، وماذا علينا لو امتثلنا للهدي القرآني فأعرضنا عنه "وأعرض عن الجاهلين"..

إن الكرة الأرضية يسكن فيها ستة مليار إنسان ولن تعدم بين هذا العدد المهول حاقدين ومرضى نفسيين، ولن نستطيع أن نجمع الناس على عدم الإساءة إلى رموزنا، وكما قال الشاعر لو كل كلب عوى ألقمته حجراً لأصبح الصخر مثقالاً بدينار، فالحل الأمثل في التعامل مع هؤلاء هو التجاهل والإعراض، لأن الرد عليهم سيغري مزيداً من السفهاء باقتفاء أثرهم لتحقيق ما حققوه من شهرة وإحساس بالأهمية، وهذا ما نراه من الموجة المجنونة الحالية من الإساءة لرموزنا التي تجتاح العالم .

إننا نقع في ذات الخطأ الذي وقعنا فيه أثناء أزمة الرسوم الساخرة، فنصنع من أشخاص تافهين أبطالاً في نظر شعوبهم، في أزمة الرسوم المسيئة حوَّلنا شخصاً مجهولاً في بلد مجهول إلى أشهر من نار على علم فأحرقنا صوره في التظاهرات ونشرناها في المواقع الالكترونية وفي الفضائيات فصار موضع ثناء وإعجاب عند قومه ينال الأوسمة والجوائز من المؤسسات والزعماء الغربيين وآخرهم المستشارة الألمانية.

لكن وللاستدراك فإنني أسجل شهادةً بأننا كنا هذه المرة أقل انجراراً إلى الاستفزاز، فآثر كثيرون التجاهل وعدم إبداء أي اهتمام تجاه الحادثة لكن كثيرين في المقابل لم يتعلموا الدرس بعد فكانت هذه الكلمات ذكرى وموعظةً لهم.

إننا نخطئ حين نقلب الأولويات ونحشد طاقات الأمة في معركة جانبية بينما نغفل المعركة الرئيسية، وكأن مشاكلنا بدأت للتو مع أمريكا بفعلة ذلك الشخص مع أنه من المهين بحق أمة يبلغ تعدادها مليار ونصف مليار إنسان أن ينجح فرد واحد أو مجموعة أفراد باستفزازها واستثارة غضبها..

إن حقيقة مشكلتنا مع أمريكا ليست في هذه الحادثة، ولكنها في سجلها الأسود الحافل بالظلم والإجرام ضد الإنسانية..

إن مشكلة أمريكا ليس مردها إلى هذه الأفعال الصبيانية، ولكنه في سياساتها الداعمة للكيان الصهيوني على أرضنا، وفي نهب ثرواتنا وحمايتها لأنظمة القمع والاستبداد الجاثمة على صدورنا..

لعل من موافقات القدر أن يتزامن هذا الصخب حول إحراق المصحف مع تصريحات لوزيرة الخارجية الأمريكية تبشر فيها بانقسام السودان وتوحي لسكان الجنوب بالتصويت لصالح الانفصال بالقول إنه صار أمراً محتوماً، وبينما نحن مستنفرون إلى آخر مدىً في معركة إحراق المصحف فإن هيلاري بدأت بتقسيم الغنائم قبل بدء المعركة وأخذت تتحدث عن ثروات جنوب السودان ونفطه.

هذه المواقف الأمريكية الرسمية الساعية إلى تفكيك المفكك وتجزئ المجزأ من بلادنا لم نجد فيها ما يستفزنا ومرت دون أي موقف رافض مع أنها أخطر بدرجة لا تقارن من تصرفات فردية رعناء أقدم عليها شخص أرعن.

فبينما لا يملك ذلك القس أكثر من قلب أسود معبأ بالكراهية ، وبعض التصرفات الصبيانية، فإن أمريكا الرسمية التي تمثلها هيلاري تسخر كل إمكانياتها الجبارة ومخططاتها، ومكر الليل والنهار في خلق وقائع عملية ملموسة تعزز واقع الضعف والتفكك العربي وتجهض أي محاولة للنهوض.

ولأن أمريكا الرسمية أكثر دهاءً ومكراً من بعض مواطنيها المعتوهين فإنها غير معنية بمثل تصرفات القس التي لا تحقق لها أي مصلحة سياسية لذا وجدنا إدانةً لها. وقد جاءت إدانته على لسان الوزيرة هيلاري كلنتون أيضاً، فما دام تنفيذ المخططات جار على قدم وساق فلا ضير من إظهار احترام الأديان والمقدسات، حتى تظل الأمة في سباتها العميق، فإسكات مثل هذه الأصوات المتطرفة هو مصلحة لمشروع الهيمنة الأمريكي قبل أن يكون مصلحةً للأمة.

إن تمزيق الأمة أخطر ألف مرة من تمزيق أوراق المصحف على بشاعته، وإن انتصارنا للقرآن لا يكون بردود أفعال عاطفية هوجاء ولكن بإحياء معانيه في حياتنا فنعتصم ونتوحد ونجاهد الظلم ونسير على الصراط المستقيم الذي دعانا إليه.

لقد مزقنا القرآن قبل أن يمزقوه باتخاذه مهجوراً وبتعطيلنا للطاقة الحضارية الهائلة التي يحتويها ولو قمنا بواجبنا تجاه القرآن حق القيام لاختلف حال العالم وتغير وجه التاريخ..

متى نفقه أولوياتنا ونتجاوز حالة ردود الفعل العاطفية إلى الجهد الواعي المنظم لننهض بواقعنا، ونوجه بوصلتنا إلى وجهتها الصحيحة فلا ننحرف عن المعركة الرئيسة إلى معارك جانبية يفرضها علينا أشخاص تافهون..

"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد"..

والله تعالى أعلم..

الثلاثاء، 7 سبتمبر 2010

الزيف الضارب في مجتمعاتنا
أحمد أبورتيمة
حين يغيب الصدق والوضوح من حياة الناس تطغى المجاملات الرخيصة والنفاق، وحين يكون الجوهر فارغاً والعمل الحضاري الفاعل معدوماً يرتدي الإنسان أردية الزيف والتكلف في محاولة لتعويض نقصه الداخلي..
هكذا هو حال كثير من أفراد مجتمعاتنا..يعيشون حياة الزيف والمظاهر الكاذبة، ويغيب عنهم الصدق والمكاشفة والجدية.
مواقف كثيرة نلمسها تكشف حقيقة هذا الصنف من الناس، هذه المواقف وإن كنا نحسبها هينةً ونرى أنها لا تستحق التعليق إلا أنها مؤشر على طبيعة مكونات شخصيات أصحابها..
لعلنا جميعاً تعرضنا لهذا الموقف حين نستقل سيارة أجرة، يتفق أن يعرف السائق أحد الركاب، وربما تبدأ المعرفة للتوّ في السيارة أثناء تداول الحديث في الشأن العام، وبعد أن يشبعا قضايا الأمة تعليقاً وتحليلاً يحين موعد دفع الأجرة فيمد الراكب يده بالأجرة، وبدلاً من أن يتعامل السائق مع الأمر ببساطة ويأخذ الأجرة التي هي مصدر رزقه فإنه يصر على ارتداء ثوب من التكلف المقيت والادعاء الزائف فيقول للراكب:خلّي علينا، ولأن الراكب بدوره يعلم أن طلب السائق هزل وما هو بالجد فإنه يجاري السائق فيقسم بالله عليه أن يأخذ أجرته، ويحلف السائق بالطلاق من امرأته أن يخلي الراكب الأجرة عليه..وبعد سلسلة من الأيمان المغلظة والأخذ والرد تنتهي المسرحية المملة كما هو مرسوم لها ويأخذ السائق أجرته ويرجع الفكة.وينزل الراكب لتبدأ المسرحية مع أشخاص آخرين في دورة لا تنتهي من الزيف والتمثيل.
واللافت أن نفس السائق الذي يظهر كرماً في غير موضعه هو الذي يزاحم السائقين بعد قليل وربما تسبب في حادث مروري من أجل أن يسبقهم إلى راكب واحد من على الطريق مما يؤكد أن ادعاء الكرم كاذب.
ولو حصل افتراضاً أن الراكب صدق دعوة السائق وأخذ بظاهر النص وأعاد النقود إلى جيبه لظل السائق طوال الطريق وصدره يغلي غيظاً وغضباً ويؤنب نفسه على هذه الصفقة الخاسرة وهو يعلم أن أحداً لم يجبره على هذا التصنع.
وهكذا فإن ارتداء الإنسان للباس مصطنع غير لباسه وبعده عن التلقائية يدخله في تناقض وصراع ويجعل صدره ضيقاً حرجاً.
أحياناً حين أتعرض لمثل هذا الموقف أتعمد إحراج السائق لأنني أعلم بأنه لا يعني ما يقول فأقول له مبتسماً إذاً لماذا تعمل في هذه المهنة ما دمت لا تريد أن تأخذ الأجرة.
ونحن لم نذكر السيارة إلا على سبيل المثال، لأن نفس السلوك تجده في مختلف التعاملات التجارية في الأسواق والمحلات التجارية، فالجميع يتصنع ويتكلف، والوضوح والبساطة لا تجدها إلا قليلاً.
من أمثلة الزيف والتكلف أيضاً أن يعزم أحدهم صديقه إلى بيته أثناء سيرهما في الطريق ويقسم عليه أن يتناول الطعام عنده، وهو يعلم في قرارة نفسه أن وقته غير مناسب لهذه الدعوة الحاتمية، فربما كان متأخراً عن عمله وربما كان مرهقاً بحاجة إلى قسط من الراحة، فلو حل صديقه ضيفاً عليه لكان من ذلك في حرج، ولضاق صدره بصديقه،وكان الأولى به إن كان صادقاً أن يشيعه بكلمة طيبة وابتسامة صادقة ولا مانع أن يدعوه إلى وقت أفضل..ويبلغ التصنع ببعضهم أن يدعو صاحبه إلى بيته أثناء الانصراف من صلاة الفجر أو في وقت متأخر من الليل وهي أوقات لا تصلح فيها زيارات المجاملة.
ولأن الزيف شاع وانتشر فقد تشوهت علاقاتنا الاجتماعية وتحولت إلى علاقات صورية باهتة نزعت منها روح الحياة، فهي أقرب لتأدية طقوس روتينية منها إلى استشعار الروح، وهذا ما نراه جلياً في ولائم الأفراح التي يكثر فيها البذخ والترف ويثقل صاحب الوليمة كاهله بالاستدانة حتى يقال جواد كريم، مع أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وكان يكفيه أن يولم بشاة دون حرج، وتبدأ الجموع الغفيرة بالتوافد لأداء الطقوس، ويقف أمامهم شخص يمسك في يده كراساً وقلماً، أما وظيفته فهي أن يسجل اسم كل واحد من الحاضرين وأمامه نوع الهدية التي أحضرها ولا يخجل إن تعذر عليه معرفة أحدهم أن يبادر إليه ليسأله عن اسمه، بل إن الحاضرين وهم يشاركون في إخراج المسرحية يتعمدون إظهار أنفسهم أمام هذا الشخص حتى يسجل أسماءهم ولا يضيع مسعاهم سدىً، فإذا انقضت الوليمة حفظ السجل في مكان أمين ليرد لكل صاحب هدية هديته بالضبط في المستقبل، فهي في حقيقتها لم تعد هدايا للمحبة ولكنه دَين واجب الأداء، فحتى لو كنت فقيراً معدماً لا تجد قوت يومك فإنك يجب أن تستدين لتعيد للغني هديته التي أهداها إياك، وإلا فإنك لا تعرف في الأصول والذوق، وربما تسبب عدم رد الهدية بخصومة وكراهية مع أن العدل هو أن يعطي كل إنسان حسب استطاعته فالقضية ليست سداد دين، وإن لم يستطع فما عليه من حرج "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله".
بالتأكيد فإن ما تقدم ليس دعوةً للبخل، ولكن أن يكون الكرم نابعاً من إحساس داخلي ورغبة ذاتية لا أن يكون متكلفاً مصطنعاً وخالياً من الروح.
ولأننا نتحدث عن الزيف والشيء بالشيء يذكر فقد شهدت موقفاً ينصح فيه رجل رجلاً بأن يلتزم دوره في الطابور فما كان من ذلك الرجل ومن باب التخجيل الذي يتقنه الزائفون إلا أن عرض على ذلك الناصح أن يأخذ دوره في الطابور معقباً بمجاملة رخيصة بأن أكثر ما يهمه هو رضا ذلك الرجل (وإنه ما يطلعش زعلان)، وهذا إسفاف بالقيم، فالقضية ليست شخصيةً حتى يهمه رضا ذلك الشخص أو غضبه، ولكنها قضية مبدأ ينبغي أن يحترمه الإنسان رضي عنه من رضي وسخط من سخط.
رب قائل يقول:لماذا التركيز على هذه الأمور البسيطة، لماذا التعقيد والتحبيك (خذوا الأمر ببساطة)، ولكنني أقول إن هذه السلوكيات البسيطة تدل على ما هو أكبر، فهي تكشف عن خلل في بناء المجتمع، ومن يتربى على المجاملات الكاذبة والتكلف في مواقف صغيرة فإن حياته كلها ستصير زيفاً ونفاقاً.وخطورة الزيف أنه يصنع شخصيةً زائفةً لا تحترم نفسها ولا تزن كلمتها، والصدق الذي أمرنا الإسلام به عميق فهو يبدأ بالصدق مع النفس قبل الصدق مع الناس، والصدق مع النفس يعني أن يكون ظاهر الإنسان كباطنه لا يخفي في قلبه البغضاء بينما يظهر الابتسامة الكاذبة والمجاملة الرخيصة للناس..
وحين تطغى في حياتنا المجاملات الشخصية فإن ذلك يكون على حساب الحقيقة ومصلحة المجتمع، فيرى الإنسان الخطأ أمامه ويظل أخرس لا يتكلم لأنه لا يريد أن يخسر صديقه، بل يجامله كذباً ونفاقاً ويؤيده في موقفه تجاه خصمه، ولو قلبت الأدوار وكان صديقه في موقف الخصم لجامله أيضاً، ونحن نستطيع أن نكون بين ذلك قواماً فلا نخسر أصدقاءنا، وفي ذات الوقت لا نخسر مبادئنا وهو الأهم، فننقد أخطاءهم بالقول اللين أو بالتلميح، وأضعف الإيمان إن لم نقل خيراً أن نصمت ولا نجامل نفاقاً..
إن حل المشكلات يتطلب مواجهةً صريحةً بعيدةً عن المجاملات الشخصية، وما لم نغلب المصلحة العامة ونعتمد الأسلوب الموضوعي المتجرد فإن أحوالنا ستظل في تأخر وتراجع مستمر..
أما المجاملات السخيفة فهي تعزز المشكلات بدل مواجهتها وحلِّها وبذلك يمضي المجتمع قدماً نحو الهلاك.
إن الزيف والتكلف يفسد الفطرة السليمة ويخلق ازدواجيةً في الشخصية وتناقضاً بين الظاهر والباطن مما يولد اضطراباً وتشويشاً داخلياً ينسي الفرد هويته ويفقده ذاتيته.
إن التلقائية في الأقوال والأفعال والتعبير عن الذات بطريقة مباشرة سهلة هو الذي يهدي الإنسان إلى الإيمان إذ أن صدقه مع نفسه سيدفعه إلى التسليم بالآيات والبراهين حين يتبين له أنه الحق، كما أن التلقائية تكشف الإبداع الكامن في النفوس وتنميه، ولا يمكن لإنسان أن يكون متصنعاً متكلفاً، ويكون في ذات الوقت مبدعاً مجدداً، لأن الإبداع هو التعبير عن الجوهر، والتكلف يلبس الإنسان أقنعةً تمنعه من التعبير عن نفسه.
ما أحوجنا إلى أن نربي أنفسنا على الصدق والصراحة والمباشرة والتلقائية في كل معاملاتنا صغيرةً أو كبيرة، وأن يكون الإنسان نفسه، وأن نجاهد أنفسنا ليكون ظاهرنا كباطننا، وألا نقول ما لا نفعل "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وألا نقول إلا حقاً وإن كنا مازحين.فإن الصدق يشرح الصدر فيشعر الإنسان بالتوافق الداخلي والانسجام مع ذاته ويتحرر من التناقض والتكلف ويخلع رداء الزيف والنفاق، وبذلك يتقدم ويرتقي ويركب طبقاً عن طبق صعوداً إلى ربه ، وتتفتح أمامه أبواب الإبداع والتفوق ويكون على خلق النبي صلى الله عليه وسلم "وما أنا من المتكلفين".
والله أعلى وأعلم..

الجمعة، 3 سبتمبر 2010

شكراً..كلامك رائع

لا أسعد كثيراً حين يعلق أحد الإخوة أو الأخوات على مقال لي بالقول: ما شاء الله ..كلامك جميل.. مقالاتك رائعة.. شكراً لك..

أحياناً يكون لمثل هذه العبارات دور إيجابي في إعطاء دفعة معنوية تساعد على المواصلة وتستفز لمزيد من الإبداع.
أما الإكثار منها والاقتصار عليها دون تجاوزها إلى جوهر الفكرة فإن ضُرَّه أكبر من نفعه
إن المجاملات وعبارات الثناء لا تضيف للفكرة جديداً وربما أصابت صاحبها بالغرور، وهنا يأتي سياق الحديث الشريف(احثوا في وجه المداحين التراب)..
ومما يؤسف له أن المواقع التفاعلية مثل الفيس بوك وغيره تساهم في تعزيز هذا الاتجاه السلبي، وذلك بابتكار تقنية (أعجبني هذا) فيصير دور القارئ مقتصراً على ضغطة زر لإبداء إعجابه بالموضوع دون مناقشة الفكرة أو نقدها..وفي هذا قتل لروح النقاش والتفكير، وتعزيز لثقافة الاستهلاك، فصرنا حتى في قرائتنا مستهلكين لما يكتبه الآخرون دون إنتاج..
إن ما نحتاجه هو أن نتجاوز لغة المجاملات وأن نتعمق في مناقشة الأفكار من أجل الخروج بحلول مفيدة لمشكلاتنا الاجتماعية..
إن المشكلات الاجتماعية لا تحل بعبارات الثناء والكلمات الإنشائية ولكنها تحل بالولوج إلى أصل المشكلة ومواجهتها والبحث الجاد المستفيض فيها.
حين ألاحظ أن تعليقات بعض الإخوة الطيبين لا تتجاوز الشكر والثناء فإنني أتأسف لأنني أشعر أنهم لم يفهموا ما أريد أن أقوله، وأنه لا يوجد لديهم ما يضيفونه أكثر من تطييب خاطري.
أما المثقفون حق الثقافة فإنهم يناقشون الفكرة ويثرونها.
إن نقد الفكرة وتخطيئها خير من الثناء الفارغ عليها.. لأن تخطيئ الفكرة يعني أنها فَهمت، ولا ضير بعد أن تفهم أن يتم تجاوزها، وفي جميع الأحوال سيكون لي فضل أنني نبهت إليها، أو شققت طريقاً جاء بعدي من يكمل السير فيه.
أما (شكراً كلامك جميل) فتعني أن القضية صارت مجاملات شخصية وتطييب خواطر لا أكثر
إننا بحاجة إلى تجاوز المظاهر الاحتفالية وأن نخرج من المظهر إلى الجوهر..
والله أعلى وأعلم..