السبت، 15 أكتوبر 2011


استبداد الأكثرية


الشرعية الشعبية والشرعية الأخلاقية

أحمد أبورتيمة

كثيراً ما يتحدثون عن استبداد الأقلية وكيف أن رئيساً أو حزباً لا يمثل سوى تيار محدود من الشعب يحكمه ويصادر حريته في التعبير عن رأيه ويفرض عليه بالقوة أن يدين له.. لكن ماذا عن استبداد الأكثرية، هل يكفي أن يكون الإنسان ممثلاً لأغلب الشعب ليفعل ما يحلو له، ويقمع الأصوات الأخرى؟ هل الوصول إلى الحكم بطريقة منتخبة يمنح صاحبه صلاحيات مطلقة؟!..

انتخاب الشعب لحزب ما يعطيه الحق في تطبيق برنامجه الانتخابي، لكنه لا يعطيه الحق في إلغاء الأصوات الأخرى مهما كانت هذه الأصوات محدودة التمثيل للشعب..

يعبر استبداد الأكثرية عن نفسه حين يكثر الحديث من قبل أنصار الحزب المنتخب عن مجيئهم إلى الحكم بطريق الانتخابات، وأن الآخرين ليس لهم رصيد شعبي ذو قيمة، ويقل الحديث في المقابل عن مضمون البرامج والأفكار..

هذه الطريقة في الحديث ليست ديمقراطيةً وليست مبررةً حتى لو كان الحزب الحاكم يمتلك تأييداً شعبياً بنسبة تسعة وتسعين في المائة فهي تدلل على غرور بالنفس وتبعد المجتمع عن مناقشة الأفكار والاستفادة منها، وتدخله في دائرة التفاخر بالمظاهر فيصير حالنا شبيهاً بمن تحدث عنهم القرآن: "قالوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا"..

كما أنها تدلل على حالة إفلاس وعجز عن تقديم إجابات شافية لأسئلة الجماهير الملحة، والفوز بالأكثرية لا يكفي وحده ليكون دليلاً على صحة البرنامج الانتخابي لإحدى الأحزاب، لأن هناك عوامل كثيرة تؤثر على قرار الناخب فربما كان اختياره لإحدى الأحزاب نكايةً بالحزب الحاكم وقتها، وربما غلب عليه الجانب العاطفي أثناء تصويته، وربما تغيرت الظروف والقناعات بعد التصويت، ففوز إحدى الأحزاب لا يعطيه شرعيةً أبديةً، بل هو تفويض محدود بجدول زمني ليطبق ما دعا إليه من برامج وأفكار، فإذا لم ينجح في تطبيق برنامجه فإن الجمهور سيفقد الثقة به..

لكن إذا أردنا مناقشة الموضوع من ناحية مبدئية، فلو لم تتغير قناعات الجمهور واستمر تأييد إحدى الأحزاب وأعيد انتخابه ثلاثين مرةً متواليةً، حتى في هذه الحالة فإنه لا يملك الحق في اضطهاد الصوت الآخر حتى لو كان هذا الصوت الآخر لا يمثل إلا صاحبه، لأن شرعية الفكرة لا تستند إلى عدد المقتنعين بها، بل تستمد من ذاتها..

في القرآن الكريم كثيراً ما يأتي ذم الأكثرية "ولا تجد أكثرهم شاكرين"، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون"، أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون"، ولا يستوي الخبيث ولا الطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث".. ونحن بالاستدلال بهذه الآيات لا نقصد أن ننزل أوصافها على الناس اليوم بأنهم لا يسمعون أو لا يعقلون.. فقط نريد من هذه الآيات التدليل بأن الأكثرية والأقلية ليست وحدها مقياساً كافياً لمحاكمة الأفكار. فإذا وجدنا حزباً لا يمثل سوى واحد% من أصوات الشعب فهذا لا يعني أن تناله سخريتنا وأن نزهد في محاورته والاستفادة من أفكاره، والعكس صحيح فلو كان حزب يمثل التيار الجارف فهذا لا يعني أن أفكار هذا الحزب صارت مقدسةً لا يجوز مناقشتها ونقدها..

إن كون إحدى الأحزاب يمثل الأكثرية في إحدى البلاد يعطيه الحق في حكم تلك البلاد فترةً زمنيةً محددةً، لكنه لا يعطيه الحق في إلغاء الصوت الآخر وفرض رأيه على الآخرين.والذين يمثلون الأقلية لا يحق لهم أن يحكموا البلاد بطريقة غير شرعية مهما كان إيمانهم بصحة أفكارهم، لكن حقهم في الدعوة إلى أفكارهم والعمل على تحشيد رأي شعبي حولها لا يقل عن حق الأكثرية، ولهم الحق في امتلاك نفس وسائل الإعلام وقنوات الاتصال مع الجمهور ليبلغوهم أفكارهم..

إن من غياب فقه الديمقراطية الحقيقية في بلادنا أن نظن أن الديمقراطية تعني الأكثرية وحسب فيغلب على محاورتنا للآخرين منطق "أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً"، ويغيب عن محاوراتنا صوت الحجة والإقناع..

مجرد التلويح بورقة أننا نحن الأكثرية وأنتم الأقلية في حد ذاته علامة استبداد واضطهاد فكري لأنها رسالة إرهاب للآخرين بألا يعبروا عن آرائهم خشية سطوة المجتمع..

والاستبداد ليس آفة الحكام وحدهم، لكن المجتمعات نفسها قد تكون مستبدةً حين يغيب الوعي ولا تحترم حق كل فرد في التعبير عن رأيه مهما كان هذا الرأي..

استبداد الأكثرية ربما يكون أخطر من استبداد الأقلية، لأن وجود قلة تستفرد في حكم البلاد وتتحكم بمصائر العباد هو عامل تحريض واستفزاز للجماهير لتثور على هذه القلة، أو تفرض حولهم عزلةً اجتماعيةً على الأقل، لكن خطورة استبداد الأكثرية هو أنه يعبر عن خلل بنيوي عميق في ثقافة المجتمع وتقبله للآخر، والتحرر من استبداد الأكثرية بخلاف استبداد الأقلية بحاجة إلى عملية انقلاب شاملة في المجتمع..

مثال استبداد الأكثرية هو الأقوام التي يحدثنا عنها القرآن في مواجهة أنبيائها، فقد كانت الأقوام تمثل الأكثرية الساحقة، لكنها كانت تسيء استعمال هذه الأكثرية وتظن أنها تعطيها الشرعية لمحاربة الأنبياء أصحاب الدعوة الجديدة "وإنا لنراك فينا ضعيفا"..

لو أن مقياس الأكثرية والأقلية يكفي وحده لمحاكمة الأفكار لما كان هناك مبرر لظهور المصلحين و الأنبياء، ولما تقدم التاريخ الإنساني، لأن كل الدعوات عبر التاريخ كانت تبدأ بالقلة المؤمنة قبل أن تكسب المؤيدين وتنتشر، وربما لا تكسب المؤيدين إطلاقاً وتظل أقليةً مثل دعوة نوح عليه السلام الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فما آمن معه إلا قليل، فهل كان هذا مقياساً كافياً لنزع الشرعية عن دعوة نوح عليه السلام..

إن نوح عليه السلام مثله مثل كل الأنبياء والمصلحين لم يكن يستمد شرعيته من الشعب، بل كانت شرعيةً أخلاقيةً مبدئيةً لا يضيرها ألا يؤمن معها إنسان واحد..

يكفي ليكون الإنسان صاحب شرعية أخلاقية أن يكون مؤمناً بفكرة وحسب، فيحق له أن يدعو الناس إليها دون أن يرهبه أحد بسطوة السلاح أو المجتمع، فإذا كانت أفكاره صحيحةً فإن العاقبة لها وستتحول يوماً ما إلى أكثرية، وإن لم تكن كذلك فإن الأيام كفيلة باندثارها دون أن تكون هناك حاجة لقتلها واضطهادها..

"فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"

والله أعلى وأعلم..

الاثنين، 3 أكتوبر 2011

كيف ينسى الإنسان نفسه؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يقول الله عز وجل في الآية التاسعة عشر من سورة الحشر: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ "

كم في هذه الآية من الأسرار..كيف ينسى الإنسان نفسه.. إن أكثر الناس قد نسوا أنفسهم فهم يعيشون في سكرة وغمرة ساهون..يأكلون ويشربون ويلعبون ويضحكون ويتمتعون..ولكنهم في وسط ضجيج الحياة يكونون قد غفلوا عن أهم شيء فيها..عن حقيقة كينونتهم..عن جوهرهم العميق....

كل واحد فينا يعيش لحظات نسيان نفسه ثم يتذكرها فجأةً فينكر نفسه ولا يصدق أنه هو الذي كانت تصدر منه تلك الكلمات والأفعال ويقول هل حقاً أنا من فعلت هذا؟..كيف سولت لي نفسي أن أظلم أو أقتل أو أبغي..

ألم يجرب أحدنا لحظة توبة صادقة بعد حين من الغفلة والضياع..ما هو الشعور الذي ينتابه في ذلك الموقف..إنه شعور من وجد نفسه أخيراً..

إن نسيان الله يؤدي بالضرورة ووفق سنن علمية حتمية إلى نسيان النفس..لأن الإيمان بالله هو حاجة فطرية عميقة في داخل كل إنسان لا تستقيم حياته إلا بها..فإذا قطع صلته بهذا الخالق تنكرت له نفسه وجحدته فيشعر بجفاف روحي يحاول أن يعوضه بالإكثار من الطعام والشراب والمال والشهوات، ولكنه يحاول عبثاً لأن في النفس فراغاً لا يملؤه إلا معرفة الله..

أمثلة نسيان الإنسان لنفسه بينة في حياتنا..فكم في هذه الدنيا من أناس هائمين على وجوههم يأكلون ويتمتعون وينامون، ولكنهم هم أنفسهم يدركون أنهم يسيرون في هذه الحياة بلا معنى، تجد أحدهم حريصاً على قتل وقته بكل وسيلة، وكأن هذا الوقت عبء عليه يتعجل انقضاءه، وهو حين يفعل ذلك فإنما يقضي على حياته ذاتها لأن الوقت هو الحياة..

ألا ترون إلى الإنسان حين يأكل بشراهة أو يقهقه بصوت عالي أو يحرص على إشغال أوقاته بالسهرات والحفلات والسمر مع الأصحاب..ما هو الدافع العميق وراء كل هذه السلوكيات..يحاول الإنسان من وراء ذلك إخفاء حقيقة الفراغ النفسي الذي يشعر به في أعماقه فيلجأ إلى تعويض هذا الفراغ بوسائل المتع المادية..بينما المؤمن الذي وجد الله فإنه قد وجد نفسه فيشعر بامتلاء روحي وطمأنينة قلبية تضفي هدوءً وتوازناً على سلوكه الخارجي فلا يعود بحاجة إلى الإفراط في الملذات والشهوات..

ينسى الإنسان نفسه حين يغفل عن مواهبه وملكاته الحقيقية التي حباه الله إياها فلا يستثمرها..كم بيننا من أناس يمتلكون من المواهب والقدرات ما يمكنهم من إنجازات عظيمة، ولكنهم دفنوها وضيعوها بإهمالهم لأنفسهم وإشغالها عن معالي الأمور بشهوات تافهة عاجلة..ألا يعد من يفعل هذا قد نسي نفسه بعد أن نسي الله فغفل عن رسالته في الحياة..

إن من نسي نفسه يستولي عليه جفاف الروح وقسوة القلب حتى لا تعود الرحمة تعرف إلى قلبه سبيلاً فيظهر ذلك في سلوكه الاجتماعي من إهمال الزوجة والأولاد والأرحام، تجده لا يعود إلى أهله إلا في منتصف الليل، ولا يهتم بالسؤال عن أولاده، وهو في ذلك قد نسي فطرته وإنسانيته، وحكم على نفسه بالشقاء نتيجة جفافه العاطفي، فمن استيقظ ضميره فجأةً ولاحت له لحظة تصالح مع فطرته العميقة تنبه إلى غفلته، ودبت الرحمة في قلبه فينكر نفسه، ولا يملك إلا أن يذرف دموع الرحمة على ما جناه على نفسه..

إن دموع الرحمة التي يذرفها الإنسان في لحظة التوبة الصادقة هي علامة عثوره على نفسه بعد أن يكون قد نسيها وضيَّعها "ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق"..

لا غرابة أن يستعمل القرآن تعبير "ذكر" لوصف وظيفته "لقد جاءكم كتاب فيه ذكركم"..فالقرآن هو تذكير للإنسان بحقيقة نفسه يبصره بحاجاتها الفطرية وأشواقها الروحية الخالدة التي لا تصلح إلا بتلبيتها..

يقول صاحب الظلال سيد قطب في معرض تعليقه على الآية الكريمة "نسوا الله فأنساهم أنفسهم":

وهي حالة عجيبة ولكنها حقيقة فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى وفي هذا نسيان لإنسانيته..

والله أعلم..