الثلاثاء، 26 أكتوبر 2010

التعامل السنني مع القرآن الكريم

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يقول الله عز وجل في سورة الإسراء: " وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً..سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً"..

ألمس في هاتين الآيتين الكريمتين إشارةً لسنة اجتماعية وتاريخية مطردة ما أحوجنا إلى فقهها في زمننا المعاصر..

هذه السنة تقول أن وجود الآخر الذي يحمل فكراً جديداً مختلفاً عن النمط السائد يمثل سياجاً حامياً للمجتمع من الضمور، وأنه ضرورة لنمو المجتمع وتقدمه وليس كما ينظر إليه الأكثرون بأنه عبء ثقيل يهدد قيم المجتمع فيسعون للتخلص منه..

حين ندرك أهمية وجود الآخر في المجتمع تتغير النظرة فبدلاً من مقاومته والسعي للقضاء عليه، فإننا نعزز وجوده ونعطيه الحرية للتعبير عن نفسه، وحتى إن لم يكن موجوداً فإننا نسعى لإيجاده.

قيمة وجود الفكر الجديد الذي يخالف النمط السائد أنه يعطي الجرعة التوازنية لسير المجتمع فيحميه من الانحراف والمغالاة، كما أنه يلقي صخرةً في المياه الراكدة فيحدث حراكاً فكرياً وتدافعاً اجتماعياً يؤدي إلى تقدم المجتمعات ونضجها ويحميها من الجمود والانغلاق..

كذلك فإن أهيمة وجود المجدد في المجتمع أنه ينبه إلى وجود الأخطاء ويضعها في دائرة الضوء بعد أن تكون من اللا مفكر فيه، والتنبه للأخطاء هو الخطوة الأولى لمعالجتها وما يتبع ذلك من الارتقاء بالمجتمع، أما في حال غياب المجددين فإن مثل المجتمع يكون كمثل المركبة التي تسير دون فرامل، فتتراكم الأخطاء وتتجذر في بنية المجتمع دون أن يتنبه إليها حتى تودي به إلى الهاوية.

لذلك فإن المجتمع الذي يخلو من الآخر ويقتل أي محاولة للتجديد ويجمد على أوضاع معينة فإن المطاف ينتهي به حتماً إلى التقوقع والانغلاق، وهذا هو الموت..

في الآية التي بين أيدينا فإن الله عز وجل يحذر بأن إخراج النبي من مكة أو المدينة-ونحن لا يهمنا كثيراً هذا الخلاف بين المفسرين لأنه لا يؤثر على القيمة الموضوعية التي تتضمنها الآية-المهم أن إخراج النبي سيتبعه حتماً هلاك من أخرجه، ويؤكد القرآن في الآية التي تليها أن هذا ليس وضعاً استثنائياً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ولكنها سنة تاريخية مطردة حصلت مع جميع المرسلين..

مع الأسف أن الثقافة السائدة بين المسلمين وحتى بين المفسرين تجعلنا نركز على الجانب الغيبي للآيات القرآنية دون أن نتفكر في المحتوى السنني لها، فنتصور أن الله لا يعمل إلا وفق أساليب خارقة للعادة خارجة عن سنن المجتمع والتاريخ لا نستطيع دراستها دراسةً علميةً تجريبيةً، وفي ضوء هذه الثقافة السائدة فإننا حين نتلو هذه الآية مثلاً فإننا نتخيل أنه تعامل استثنائي من الله تعالى مع النبي أو الأنبياء، وفق مشيئته المطلقة التي لا يخضعها للسنن والقوانين، وأن الله سيهلك قوم النبي إذا أخرجوه بصاعقة من السماء أو بخسف الأرض بهم أو بطوفان أو زلزال أو غير ذلك من الصور الخارقة التي ليس فيها علاقة واضحة لنا بين المقدمة والنتيجة. ولا يخطر ببالنا أنه بشيء من التدبر للقرآن والمقارنة بين العمل البشري والجزاء الإلهي فإننا نكتشف رابطاً سننياً يحول ما نظنه غيباً وخوارق إلى سنن نفسية واجتماعية ملموسة لا تتبدل ولا تتحول، وأننا نستطيع أن نفهم سنة الله في إطار المألوف من صيرورة التاريخ والتحول التدريجي للمجتمعات، وليس فقط عبر الخوارق والمعجزات والضربات الكبرى المفاجئة..

وهذا ما حدث فعلاً إذ أن هزيمة قريش والتمكين لرسالة الإسلام لم تكن بالضربة القاصمة التي ما لها من فواق كما في الأقوام السابقة، ولكنها كانت بطريقة التحول الاجتماعي البطيء الذي يمكن أن يحدث مع أي حركة تجديدية حتى لو لم يكن قائدها نبياً يوحى إليه..

فهل هناك علاقة مشاهدة بين إخراج النبي من المجتمع وبين إهلاك قومه بعد ذلك بقليل "إذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً"؟

إذا استعنا بما نفهمه من سنن اجتماعية فإننا نجد مقاربةً مباشرةً يمكن إدراكها عقلاً..فإخراج النبي من قريته يعني أن هذا المجتمع منغلق فكرياً لا يرحب بالآخر وأنه غير مهيأ للتجديد، وأنه طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وسدت منافذ أفهامهم. وما دام المجتمع على هذه الشاكلة فإنه سيجمد ويتقوقع على نفسه، ولن يكون فيه أي حراك فكري واجتماعي، والحركة هي الحياة بينما السكون هو الموت، وبذلك فإنه سيظل يعيد إنتاج نفسه في قوالب ميتة فاقدة للحياة وسيفقد قدرته الإبداعية ويتوقف نموه الحضاري فيتقوقع ويموت..

هذه محاولة متواضعة للفهم السنني لآيات القرآن الكريم، وهي بكل تأكيد محاولة يشوبها كثير من النقص، ولكن حسبي في هذه المرحلة أن ألفت الأنظار إلى التعامل مع القرآن وفق السنن العلمية، والقرآن الكريم جاء ليعلن انتهاء عصر الخوارق وبدء عصر العلم، وهذا ما نجده في المقارنة بين طريقة إجابة القرآن على ذات السؤال في مرحلتين تاريخيتين مختلفتين، فحين سأل إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كان الجواب على هيئة معجزة أن أعاد الله الحياة للطيور حتى يطمئن قلب إبراهيم، ونفس الشيئ مع عزير إذ أماته الله مائة عام ثم بعثه.ولكن حين سأل أحد المشركين ذات السؤال للرسول صلى الله عليه وسلم لم يجب عليه القرآن بمعجزة، ولكن أجابه بمنطق علمي سنني:"قل يحييها الذي أنشأها أول مرة"، ونفس طريقة الإجابة تتكرر في القرآن إذ يوجه أنظارنا إلى ظواهر طبيعية مثل اخضرار الأرض بعد موتها ويدعونا لأن نستنج من ذلك إمكانية إحياء الموتى.

هذه الطريقة السننية في التعامل مع آيات القرآن الكريم هي التي تمكننا من إدراك القيمة العلمية الموضوعية التي يحتويها واكتشاف كنوزه ، بالطبع فإننا لا نقصد بهذه الطريقة أن ننفي البعد الغيبي للقرآن، ولكننا نثري هذا البعد بالشواهد الحاضرة وفق المعادلة القرآنية "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق". ففهم القرآن وفق سنن الآفاق والأنفس يبين للناس أنه الحق، فنحن نخدم القرآن بهذه الطريقة ، وتبقى دائرة الغيب الواسعة ضرورية لاستفزاز العقل وحثه على مزيد من التفكر وليظل في تقدم متواصل، كما أنها تظل ضروريةًَ لإشعار الإنسان بالتواضع وبأنه لم يؤت من العلم إلا قليلاً..

والله أعلى وأعلم..


الثلاثاء، 19 أكتوبر 2010

مليار جائع..ذنب الطبيعة أم الإنسان
أحمد أبورتيمة
بمناسبة يوم الغذاء العالمي الذي وافق السادس عشر من أكتوبر قبل أيام أطلقت منظمة الأغذية الدولية الفاو تحذيراً مرعباً بإعلانها أن عدد جوعى العالم بلغ مليار إنسان وهو رقم مهول يعني أن واحداً من كل ستة أشخاص في كرتنا الأرضية لا يتوفر لهم الحد الأدنى من الغذاء..
هذه المشكلة الخطيرة التي تهدد هذا العدد الهائل من البشر بالموت غالبيتهم من دول الجنوب في أفريقيا وآسيا تأتي في الوقت الذي يتهدد فيه الموت آخرين ولكن لسبب آخر وهو التخمة الناتجة عن الإسراف والتبذير إلى حد الطغيان، وبذلك صارت المعادلة على هذا النحو:الجوع للكثيرين والتخمة للقلة.
بعض الإحصاءات التقريبية تبين لنا مدى اختلال القسمة.هذه الإحصائيات تقول إن 20% من سكان الأرض، وغالبيتهم من الشمال يحوزون على أكثر من 80% من الثروات، بينما ال80% الآخرون يحوزون على أقل من 20%..
هناك قول مأثور لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بأنه ما افتقر فقير إلا بغنى غني، هذه المقولة الحكيمة تعني أن مشكلة الجوع ليست بسبب نقص الموارد أو لزيادة أعداد البشر كما يزعم المترفون ليخلوا ساحتهم من المسئولية، ولكنها نتيجة اختلال العدالة وسيطرة الجشع، وهذه الحكمة تؤكدها الأرقام التي تثبت بأن موارد الأرض تكفي لإشباع سكانها وزيادةً، وأن الخلل هو في سلوك الإنسان وليس في الطبيعة.
يقول الباحثان فرانسيس مور لابيه وجوزيف كولينز في كتابهما الذي اختارا له اسم (صناعة الجوع.. خرافة الندرة)، وهو كتاب معبر في عنوانه وقيم في مضمونه، يقولان إن العدد الهائل للجوعى في العالم يوجد في مواجهة وفرة الموارد وهنا تكمن الإهانة.
وبحسب الإحصائيات الواردة في الكتاب فإن العالم ينتج كل يوم رطلين من الحبوب لكل رجل وامرأة وطفل على وجه الأرض، هذا عدا البقول والفواكه والخضروات واللحوم، وهذا الإنتاج الوفير لكوكب الأرض الذي يدحض فكرة أنه لا يوجد غذاء للجميع يأتي رغم أن الأرض لم تستنفد طاقتها فعدد الأراضي المزروعة في الأرض لا تبلغ نسبتها أكثر من 44% من الأراضي الصالحة للزراعة..
ما دام الإنتاج الغذائي بهذه الوفرة إذاً أين تكمن المشكلة؟
يقول جيفري ساكس مدير معهد الأرض فى جامعة كولومبيا الأمريكية وأحد أكثر مائة شخصية تأثيرا في العالم في كتابه " نهاية الفقر " إن الدول الغنية قادرة وخلال فترة وجيزة على القضاء علي الجوع و الفقر لكنها لا تريد..
إذاً فالمشكلة هي مشكلة إرادة وليس قدرة..
وقد كشف الدكتور جاك ضيوف المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة الفاو في لقائه مع الإعلامي أحمد منصور مدى الخداع الذي تقوم به الدول الكبرى وهي تتحدث عن مكافحة الفقر والجوع بينما لا تبذل جهداً حقيقياً في هذا الاتجاه.
يقول جاك: إن ميزانية أكبر منظمة معنية بمحاربة الجوع في العالم لا يزيد عن 350 مليون دولار في العالم في الوقت الذي يبلغ فيه عدد الجوعى مليار إنسان مما يعني أن نصيب كل جائع سنويا لا يزيد عن أربعين سنتا هذا في حالة أن المنظمة لا تنفق شيئا علي إدارتها..
ويبدو أن مسئولية الدول الغنية عن مشكلة الجوع لا تقتصر على ضعف الإرادة عن بذل جهود حقيقية لمكافحته، ولكنها تتعدى ذلك إلى كونها تستعمل الغذاء كسلاح سياسي لتحقيق أطماعها في فضيحة أخلاقية يندى لها جبين الإنسانية، فهذه الدول المترفة لا تقدم معونةً للدول الفقيرة لوجه الله تعالى، وهي لا تفعل ذلك إلا بعد حسابات سياسية واقتصادية تضمن لها مزيداً من السيطرة والنفوذ..
وفي ذلك يذكر كتاب صناعة الجوع أن السيناتور هيوبرت همفري في منتصف القرن الماضي انتقد الذين يريدون أن تكون المعونة الغذائية مجرد وسيلة للتخلص من الفائض، ورأى في الغذاء سلاحاً سياسياً قوياً، وهذا ما ترجمته السياسة الأمريكية حين قطعت المعونة عن تشيلي فجأةً عندما انتخبت حكومةً لا تتوافق مع أهواء مصالح الشركات الأمريكية..
ولهذا السبب أيضاً رفضت الولايات المتحدة عام 1974 توسيع برنامج الغذاء العالمي الهادف لمعاونة مناطق المجاعات لأنهم لا يريدون المساهمة بالغذاء في المناطق الأقل خضوعاً لسيطرتهم والتي لا يستطيعون فيها التأثير بشكل ملموس في توزيع المعونة..
ليس هذا فحسب بل إن أمريكا تعمل جاهدةً على منع قيام اكتفاء ذاتي من الغذاء في بلدان العالم الثالث لضمان ألا تكون تنمية حقيقية، فتضع القيود على زراعة القمح، ويدل على ذلك رهن نفقتها السنوية على مصر بعدم التوسع في زراعة القمح..
إن أمريكا تمارس تجاه بلدان العالم الثالث ما يمكن وصفه بسياسة حماية التخلف لإبقائها سوقاً استهلاكيةً لصادراتها، وحتى تظل يد أمريكا هي العليا ويد هذه البلدان السفلى..
إن العدالة الإلهية قد أودعت في الأرض من الكنوز والثروات ما يحقق الكفاية والرخاء للناس جميعاً، وإن الأرض رحبة لم تضق يوماً على سكانها، وما كان الله ليظلم الناس ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وما مشكلات العالم إلا من صنع أيدي البشر ليذيقهم بعض ما كسبوا من الجشع والطمع واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا فلم يظلم بعضهم بعضاً لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض..
إنه لمن العار على حضارة القرن الواحد والعشرين التي غزت الفضاء وقفزت إلى مستويات خيالية من العلم والتكنولوجيا ألا تحل مشكلة هذا العدد المهول من الفقراء فضلاً عن أن تكون سبباً في إيجادها، وإنه لا قيمة لحضارة تتقدم فيها المادة ويهان فيها الإنسان الذي هو سيد الكون. وإن كل هذه الحضارة المادية لا تعني شيئاً ما دامت عاجزةً عن إطعام الناس من جوع وتأمينهم من خوف، وما دامت هذه الحضارة قائمةً على الجشع بعيدةً عن الأخلاق والإنسانية فإنها تفتقد إلى مبررات البقاء، وتسير نحو الهاوية، وهي كما وصفها المفكر روجيه جارودي تحفر قبرها بيديها..
أليس غريباً بعد كل هذا أن يتساءل الغرب عن سر كراهية الشعوب لهم، وعن سبب انتشار العنف والإرهاب، ألا يحق لمن لا يجد قوت يومه أن يخرج على الناس شاهراً سيفه؟
والله أعلى وأعلم..

الثلاثاء، 5 أكتوبر 2010

غير المسلمين..هل هم كفار دائماً؟
أحمد أبورتيمة
هل هي ثنائية حتمية إما كفار وإما مسلمون..وهل كل من ليس معنا فهو علينا بالضرورة..هذه النظرة الحدية في التعامل مع الآخر بحاجة إلى مراجعة وتدقيق خاصةً في عصر يكثر فيه الحديث عن قيم التعايش والتسامح والتنوع الثقافي، ولا نقصد بالمراجعة أن نأتي بدين جديد يتناسب مع العصر، ولكن أن ننفض عن الدين ركام العصور وأن نرجع إلى المنهج القرآني الصافي لنقارن بين تعاليمه المجردة وبين تصوراتنا الذهنية المتراكمة عبر التاريخ والتي هي خليط من الصواب والخطأ.
لا أقصد في هذا المقال إصدار فتوى أو حكم قاطع في المسألة فالمسألة أكبر من تحسمها مقالة متواضعة، ولكن غاية ما أرجوه هو أن أنجح في إعطاء إشارات تحرك العقل وتلفت نظره إلى أبعاد جديدة، وتحرره من قيود النظرات المسبقة، والقوالب الجامدة.
لو تدبرنا القرآن لفهم معنى الكفر والكافر الذي يقصده الإسلام فإن كلمة الكفر ومشتقاتها تجيء في سياق الحديث عن تكذيب الإنسان بالآيات البينات والأدلة الواضحة واستكباره ومعاندته، ومن هنا جاءت عبارة (الكفر عناد)، وحتى في المعنى اللغوي فإن فعل (كفر) معناه التغطية والدفن، لأن الكافر يقوم بدفن الحق الذي يعلمه ويؤثر إتباع هواه والمعاندة، لذلك فالكفر هو سلوك غير عقلاني يقوم به الإنسان وليس قناعةً عقليةً، فلا نسمي المختلف معنا في قناعة توصل إليها بالتفكير الموضوعي المتجرد من الهوى بأنه كافر وهذا المعنى أستدل عليه من القرآن فالقرآن دائماً يذم الكفار بأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون، فالمشكلة ليست في التفكير ولكنها في عدم التفكير ويوم القيامة يقولون "لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"، ..فلو كان الكفر في الدنيا ثمرةً لاجتهاد عقلي لما قالوا هذه العبارة، ولكنهم قالوها لأنهم كانوا يتصرفون خلاف قناعاتهم العقلية التي كانوا يخفونها في قرارة أنفسهم:"بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل"، وتبرز حقيقة معنى الكفر في حديث القرآن عن آل فرعون الذين كانوا يعلمون الحق ولكنهم يجحدون به:"وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً"..
بهذا الفهم فإن الكفر والإيمان لا يتحددان إلا حين يتبين للإنسان الحق وتأتيه الآيات البينات فإذا سلم بها كان مؤمناً وإن أصر على الضلال وعاند واستكبر كان كافراً.
الكفر يكون بعد معرفة "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" أما من لم تبلغه الأدلة بعد فلم أجد في القرآن وصفاً له بأنه كافر، ربما تكون التسمية الأكثر دقةً له هي أنه ضال أو مشرك.فالشرك يمكن أن يكون نتيجة جهل، لذلك فإن القرآن يضع احتمالاً لهداية المشرك حين يتخلص من جهله فيقول "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون"، ولا ينطبق نفس الشيء على الكافر لأنه قد عرف الحق فعلاً من قبل فجحد به ودفنه، ولذلك سمي كافراً.
ولأن الكفر لا يكون إلا بعد معرفة، فهذا يقتضي أن تكون هناك إشراقة عقلية في بادئ الأمر حين تتضح الأدلة الساطعة فيقتنع بها الإنسان اقتناعاً لحظياً لكنه ينتكس ويطفئ نور فطرته ويختار البقاء على الضلال. وهذا الاقتناع اللحظي يقيم الحجة على الإنسان لأنه عرف الحق، ولم تعد المشكلة لديه في نقص الأدلة، ولكنها في معاندته واستكباره..
ومثال هذه الومضة الإيمانية التي يطفئها الكافر نراها في قصة إبراهيم مع قومه حين أقام عليهم الحجة العقلية ببطلان أصنامهم.لنتأمل هذا المشهد التصويري: "فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ*ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ*"..إنها لحظة الصفاء والإشراق العقلي التي يعلم فيها الإنسان الحق، ولكنه ينكس بعدها على رأسه فتحق عليه الضلالة..
وجميع الأقوام التي يقص علينا القرآن خبر كفرها فإنه يصفها بالكفر بعد مجيء الأنبياء لهم بالآيات والدلائل، وليس قبل ذلك، أما قبل أن يأتيهم الأنبياء فقد كان الناس أمةً واحدة.
وقوم قريش مثلاً سموا كفاراً بعد أن استبانت أمامهم الطريق، ولم يسعهم في إحدى المرات حين سمعوا سورة النجم ووصل النبي إلى آخرها "فاسجدوا لله واعبدوا" إلا أن يخروا سجداً، وبذلك أقيمت عليهم الحجة في أنفسهم..
والقرآن يستعمل تعبير البلاغ المبين وهذه هي مهمة الأنبياء التي يجب أن يؤدوها قبل أن يحق على أممهم العذاب، والبلاغ المبين يعني أن يشرح لقومه الحقائق شرحاً مفصلاً لا تبقى معه شبهة إلا أزالها ولا حجة إلا ذكرها، فهو بلاغ بين واضح وضوح الشمس لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
والقرآن يقرر بوضوح أن الحساب والعذاب مشروطان بإرسال الرسل، فالله العدل لا يعذب إنساناً إلا بعد أن يتبين له الحق فيرفضه "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"
إذاً فالمؤشر الدقيق الذي يعتمده القرآن لإطلاق كلمة الكفر هو التكذيب بالآيات البينات والدلائل الساطعة بعد مجيئها "بل كذبوا بالحق لما جاءهم" فإن لم يأتهم الحق أصلاً، فعلى أي أساس نسميهم كفاراً..
هذه الإضاءات القرآنية تفيدنا في التعامل مع واقع البشرية المعاصر، فهناك المليارات من غير المسلمين على وجه الأرض هل نعتبرهم جميعاً كفاراً لمجرد أنهم غير مسلمين..إذا افترضنا أن نسبةً منهم قلت أو كثرت قد عرفوا الحق ولكنهم لم يتبعوه عناداً واستكباراً، فماذا نقول في مليارات آخرين إما أنهم لم يعرفوا أن هناك إسلاماً أصلاً، أو أنهم سمعوا عنه بصورة محرفة مشوهة، فهو في نظرهم دين الإرهاب والفوضى والتخلف الحضاري فكيف يؤمنون بدين هذا ما بلغهم عنه..وعلى أي أساس نصفهم بأنهم كفار وهم لم تأتهم الآيات البينات بعد، ولم نقم بالبلاغ المبين تجاههم؟ وبأي مقياس نعتبر عجوزاً تقطن في أدغال أفريقيا أو مجاهل الهند كافرةً وهي لا تدري عن الإسلام أو القرآن شيئاً.
في إحدى المرات قال لي أحدهم مبرراً تكفيره للبشرية: لماذا لم يبحثوا عن الإسلام ويفهموا حقيقته؟ قلت له: وهل فكرت أنت مثلاً في يوم ما أن تقرأ في معتقدات الهنود، فكيف تطالب عجوزاً بالبحث عن الإسلام، ولا تسأل نفسك وأنت متعلم لماذا لم تفكر يوماً في البحث والقراءة للآخرين.قال: لأن ديني هو الدين الحق فلا حاجة لي في البحث في المعتقدات الضالة.قلت له صحيح أن ديننا هو الدين الحق، ولكن تلك المرأة العجوز تظن أن دينها هو الحق فلا ترى حاجةً للبحث عن دين آخر..
وحتى لا يكون نقاشنا جدلياً فإن ما يهمنا في هذا الموضوع هو الجانب العملي الإيجابي، والسؤال الإيجابي ليس هو لماذا لم يبحثوا عن الإسلام، ولكن لماذا نحن لم نذهب إليهم ونقوم بواجب البلاغ المبين، فنبين لهم حقائق الإسلام وأنه دين الرحمة للعالمين، ودين الحق والعدل والسلام..
إننا نحن الملومون والمحاسبون تجاه هذه الأمم التي لا تعرف حقيقة الإسلام، فبدل أن نكفرهم علينا أن نخطئ أنفسنا لأننا أعرضنا عن الآيات البينات التي تأمرنا بالدعوة وبالبلاغ المبين تجاههم..
كثيراً ما نسمع عن أناس من غير المسلمين يعتنقون الإسلام، وننشر هذه الأخبار بفرح وسرور، ولكنني سأستدل من هذه المسألة على شيء آخر، فهذا الذي يدخل الإسلام بعد أن يكون كافراً في نظرنا فإن إسلامه يعني أنه كان يملك القابلية للإيمان، وأن المشكلة لم تكن عناداً وكبراً، ولكن لأن الحق لم يكن قد تبين له فلما تبين له الحق أسلم له واتبعه..وإذا كان هذا الإنسان قد أسلم فور تبين الحق له فما الذي يمنع أن يكون مثله في قومه كثيرون يمتلكون هذه القابلية للإيمان وهم بحاجة إلى من يقوم تجاههم بواجب البلاغ المبين ليصيروا مؤمنين بالفعل..وهل يعقل أن نسمي من يمتلك قابليةً للإيمان كافراً..
إن هذا الفهم لقضية الكفر هو أكثر إنسانيةً وأنسب لخطابنا الحضاري في هذا العصر، فهو يحررنا من الشعور بالتناقض حين نتحدث إلى العالم عن التعايش والسلام ونبذ الكراهية والمساواة الإنسانية بينما نخفي في صدورنا أن هؤلاء كفار وأنهم أقل منا شأناً وأنهم إلى النار خالدين فيها وبئس المصير..أما حين نفهم الكفر فهماً إنسانياً خالياً من التعصب والانغلاق فإننا لن نكون في حرج، ولن يكون عندنا ما نخفيه عن الناس، فإذا سألنا أحدهم لماذا تكفرون الناس قلنا له إن الكفر في ديننا هو المعاندة والاستكبار والجمود الفكري، وهذه المعاني مذمومة إنسانياً لا يقبلها صاحب فطرة سليمة، حتى وإن كان غير مسلم ..
لعل ما شجعني على تناول هذه القضية هو استئناسي بآراء عدد من العلماء تنبهت منهم إلى هذا الفهم هم العالم السوداني الفاضل جعفر شيخ إدريس، والداعية الفاضل أحمد بن عبد العزيز بن باز والذين دعوا إلى مراجعة تعريف الكافر في ضوء هذه المعاني القرآنية.
لكنني رغم قوة الأدلة التي أجدها في هذه المسألة، ولأنني أتناول أمراً يخالف نظرةً شائعةً بين الناس فإن الأسلم هو الابتعاد عن أسلوب القطع فيه، لذلك لا أدعو إلى الأخذ بهذا الرأي بيقين ولكنني أعطي إشارات لتحرك العقل ولتنبه إلى إمكانية فهم جديد..ولعله كان مريحاً لي أن أصمت ولا أتناول مثل هذه المسائل، ولكن ماذا أفعل: لئن أبين فأخطئ أهون علي من أن أسكت فأكتم.
والله أعلى وأعلم..