الخميس، 29 سبتمبر 2011

أين رحمة الله؟

محاولة لفهم فكرة الصورة الكاملة

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يصدم المرء حين يرى حجم المآسي والأحزان التي تمزج حياة البشر، وتلك الأقدار التي كتبت على أكثرهم بأن يتجرعوا كئوس المرارة والحرمان والآلام..

حدثني صديقي عن موقف يدعو للبكاء في إحدى بيوت العزاء حين جاء ابن الرجل المتوفى وهو طفل لم يتجاوز عامه الخامس وأخذ ينقل نظراته في وجوه الحاضرين يبكي وينادي على أبيه، وهو لم يفهم بعد معنى الموت وأنه قد خطف منه أباه إلى غير رجعة، فما كان من الحاضرين إلا أن ذرفت عيونهم بالدموع وهم لا يملكون أن يجيبوا هذا الطفل بشيء..لماذا يكتب على هذا الطفل أن ينشأ محروماً من حنان أبيه وعطفه، وأن يتجرع مرارة اليتم في هذه السن المبكرة..أين رحمة الله في هذا الطفل، ونحن نعلم أن رحمته به أكبر من رحمتنا نحن، فكيف يستقيم ذلك مع أننا نحن البشر لو كنا نملك الأمر لأعدنا لهذا الطفل والده، فلماذا يكتب الله على هذا الطفل وأمثاله لا يحصون عبر التاريخ المعاناة والحرمان..

تشتد الحيرة حين نرى فصلاً آخر من فصول المعاناة الإنسانية، ولكن هذه المرة بفعل فاعل، وليس مجرد قضاء وقدر..حين نرى المجرمين يتمادون في إجرامهم ويطغون في البلاد فيكثروا فيها الفساد ويطول عهد فسادهم وعلوهم وسفكهم للدماء دون أن يحاسبهم أحد..

لقد صدم وعينا بمشهد الفتاة السورية زينب الحصني التي اختطفها المجرمون ومثلوا في جسدها أبشع تمثيل وأشبعوه حرقاً وضرباً وتقطيعاً قبل أن يلقوا بها إلى أهلها..من يرى هذا المشهد يقشعر بدنه وتقف الكلمات عاجزةً لا تستطيع أن توفي هذه الجريمة حقها من البشاعة. حتى أن هول مشاهد التعذيب الممارسة بحق جسدها قد أخرجت بعض ضعاف الإيمان عن رشدهم فقرأت لأحدهم يسأل: أين أنت يا الله من كل هذا، ماذا تنتظر حتى تهلك هؤلاء الظالمين..

لا شك بأننا في مرحلة عصيبة يزلزل فيها المؤمنون زلزالاً شديداً وتبلغ القلوب الحناجر..لكن هل الرب عز وجل في عليائه غافل عن هذه الجرائم الهائلة، وهل أعرض عنا وترك لهؤلاء الظالمين أن يصولوا ويجولوا ويعربدوا إلى الأبد..

من أين يأتي الخلل؟؟

مكمن الخلل يأتي من رؤية الصورة الجزئية، واقتطاعها من الرؤية الكلية الشاملة فيبدو المشهد عبثياً مثيراً للاستغراب والتناقض، وهذا الشعور بالتناقض لا يزول إلا برؤية الصورة الكلية والسياق الكامل..

لتوضيح المثال نستشهد بلعبة إعادة ترتيب الأجزاء أو ما تسمى بلعبة puzzle..فهذه اللعبة التي تتكون من أجزاء تكون أحياناً بالمئات فإذا تناولت منها أحد قطعها مجتزأةً فإنك لن تفهم منه أي معنى وسيوحي لك بالعبثية، ولا تظهر قيمة هذا الجزء إلا ضمن الصورة الكاملة حين يعاد ترتيبها..

هذه القطعة مع أنها غير محددة الملامح وعبثية في مظهرها إلا أنها ضرورية ولا تكتمل الصورة إلا بها..

ولو حدث أن فقدنا إحدى هذه القطع رغم ما يظهر من عدم جدواها فإن الصورة الكاملة ستتأثر ويتشوه جمالها وتناسقها..

كذلك مثل التاريخ الإنساني فهو صورة كاملة تتكون من قطع صغيرة جزئية، هذه القطع لا تظهر قيمتها إلا إذا وضعتها ضمن منظور شامل كلي..

وحتى نرى الصورة الكاملة فإنه لا بد من أن نحافظ على مسافة فاصلة بين ذواتنا ومشاعرنا البشرية وبين الواقع الموضوعي، وألا نسمح للعواطف بأن تستغرقنا وتتحكم فينا، هذه المسافة الفاصلة ضرورية لرؤية الصورة الشاملة، فإذا طلب من أحدنا أن يصف الشكل الخارجي الإجمالي لبيت وهو بداخله فإنه لن يستطيع ذلك إلا إذا خرج من هذا البيت ونظر إليه من مسافة كافية..

في إحدى القصص الرمزية يقال إنه طلب من أربعة عميان أن يتحسسوا فيلاً ويصفوه، فمن لمس منهم ذيل الفيل وصف الذيل ظاناً أن هذا هو كل الفيل، ومن لمس خرطومه وصف الخرطوم، ومن لمس أذنيه وصف الأذنين، ومشكلة هؤلاء العميان أنهم لم يحيطوا بالصورة الكاملة للفيل، فوصفوا أجزاءً مقتطعةً منه.

كذلك هي أحداث التاريخ فإن من يعيش في خضم تفاصيلها ويكوى بنارها فإنها تستنزف مشاعره حتى لا يكون قادراً على رؤية الصورة الكاملة، وإدراك السياق التاريخي لها، لكن بعد مرور عقود أو قرون تبدأ ملامح الصورة بالتشكل والاكتمال ويدرك الإنسان ما لم يكن قادراً على إدراكه بالأمس..

خذ مثالاً على ذلك من الحربين العالميتين الأولى والثانية وما اشتملته من فظائع ومجازر مروعة.. كم من الدماء نزفت فيهما، وكم من الأطفال تيتموا، وكم من النساء ترملت، وكم من الدموع سكبت، وكم من المدن دمرت..ما الحكمة من كل هذا المقدار من المعاناة والألم..

لم يكن أحد قادراً على تصور وجود أي فائدة من هاتين الحربين الطاحنتين في خضم دوي المدافع وقصف الطائرات، لكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبدأ الناس يعودون إلى رشدهم، فإننا صرنا قادرين على تلمس منحة من قلب المحنة، وأن هاتين الحربين على قساوتهما البالغة فإنهما لا يخلوان من فائدة تاريخية..

فهاتان الحربان العالميتان أدتا إلى كسر غرور الإنسان، وإقناعه بعبثية خيار الحرب وسفك الدماء، وأن للقوة سقفها الذي لا يستطيع تجاوزه، وأن طريق العنف هي طريق مسدود لا تنتج حلاً، وأدت هاتان الحربان إلى تعزز خيار الحلول السلمية وتراجع خيار الاعتماد على الحروب، كما شكلت هاتان الحربان دافعاً للدول الغربية لإنشاء الاتحاد الأوروبي ليحل التفاهم محل المواجهة، وهكذا أخرج الله الحي من الميت فولد الاتحاد الأوروبي من رحم الموت والقتل..

لكن هذا التفسير بدوره يظل تفسيراً نسبياً هدفنا منه إلى تقريب فكرة الصورة الشاملة إلى الأذهان، بينما الصورة في إجمالها لا تزال مروعةً قاسيةً، فهذه الفوائد على أهميتها لا تبرر إزهاق أرواح عشرات الملايين، ولا يعد ثمناً مقبولاً لها أن تدك المدن دكاً بالطائرات، وسبب هذا القصور هو أن الدنيا بمجملها تظل نسبيةً مجتزأةً لا يمكن فهمها والإحاطة بها إلا في إطار أوسع، وحين نتناول الأحداث بمنظور دنيوي وحسب فإن تفسيراتنا ستظل ناقصةً قاصرةً عاجزةً عن فك الكثير من الأسرار والألغاز..

فالملايين الذين قتلوا ظلماً عبر التاريخ لن يعودوا إلى الحياة مهما كانت الفوائد التي تحققت بعد مقتلهم، ومهما ألحقنا بالمجرمين من أمثال هتلر وشارون وبوش والقذافي من عقوبات فإنها تظل عقوبات ناقصةً لا توفي بحق من طالهم إجرامهم، فأي قتلة يمكن أن تعدل قتل الملايين الذين سفك هؤلاء دماؤهم..

هنا تأتي أهمية الإيمان باليوم الآخر وبالحساب والعقاب فيه، فهذا الإيمان يلبي حاجةً فطريةً في الإنسان لإشعاره بعدالة هذا الوجود، ودون الإيمان بهذا اليوم فسيظل الإنسان في حالة من الشعور بالتناقض والعبثية والقلق "وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ"..

إن الإيمان باليوم الآخر هو قطعة الpuzzle التي لا بد منها لرؤية الصورة الكاملة، ودون هذه القطعة فستظل الصورة مجتزأةً مشوهة..

حين يؤمن الإنسان بأن هذه الدنيا ليست نهاية المطاف، وأنها مجرد الخطوة الأولى في طريق شاق وطويل ينتظره لن ينتهي به إلا بالجزاء العادل على كل صغيرة وكبيرة فعلها إن كانت خيراً أو شراً فإن ذلك سيضفي عليه راحةً وطمأنينةً، وسيوفر له إجابات على أسئلته الوجودية الحائرة..

إن الإيمان بالمطلق ضروري لفهم النسبي في إطاره، ولو قدر لأحدنا أن يرى هذا الطفل الذي حرم من أبيه بعد ستين عاماً من الآن وهو رجل أعمال ناجح في حياته، وكيف كانت هذه المعاناة دافعاً له على الجد والمثابرة فسيدرك حينها أن كل صغيرة وكبيرة فإنها مقدرة لحكمة بالغة..

البشر بطبيعتهم محدودو النظر لأنهم يرون الأمور رؤيةً جزئيةً مما يؤدي إلى التعجل في إصدار أحكام خاطئة "بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة"، "سأريكم آياتي فلا تستعجلون"..

إن الله عز وجل أرحم بعباده منهم بأنفسهم، لكن الفرق بين رحمته ورحمتنا هو أن رحمته صادرة من علمه وإحاطته الشاملة المطلقة، بينما رحمتنا تستند إلى عواطفنا وتسرعنا، والبشر بطبيعتهم يتعجلون النتائج بينما الله عز وجل ينظر إلى عاقبة الأمور وصيرورتها النهائية "ولله عاقبة الأمور"..

إن مثل الاتحاد الأوروبي لا يكفي لشرح الفكرة شرحاً شاملاً ولكنه يعطي إشارات تقريبية تزيد الذين آمنوا إيماناً بأن ما يبدو عبثاً في حينه فإن الحكمة ستتضح منه ولو بعد حين..

"وإلى الله تصير الأمور"..

الخميس، 22 سبتمبر 2011


المؤمن لا يسعه إلا أن يكون ثائراً

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

الإيمان ليس مظاهر طقوسيةً خاليةً من الروح يؤديها صاحبها بشكل روتيني ممل، والإيمان ليست تلك الدروس النظرية التي يلقيها المشايخ التقليديون ويستفيضون فيها بشرح أقسام التوحيد من ألوهية وربوبية وأسماء وصفات، وما هي نواقضه من قبيل السجود للأحجار والأشجار، أو زيارة القبور أو التوسل لأولياء الله، فهذه أشكال ساذجة من الشرك تجاوزها كثير من البشر، ولم تعد هي القضية الأهم في عالم اليوم..

القرآن يؤكد في ثنايا كل آية من آياته على حقيقة لا إله إلا الله، وكل الأنبياء أرسلوا بهذه الكلمة العظيمة التي هي أساس الدين كله، فهل يعقل أن يكون كل هذا الثقل والمساحة التي أفردها القرآن هي لقضية أصبحت على هامش الحياة في عصرنا هذا..

لو كانت قضية التوحيد والشرك كما يتناولها أصحاب الفكر التقليدي المتحجر بأنها هي السجود للأحجار والأشجار وحسب لكانت قضيةً على هامش الحياة، ولما حافظت على قيمتها الكبيرة في عصرنا الحديث الذي يزداد توجه البشرية فيه نحو المدنية والانعتاق من الأيديولوجيات الجامدة..

إن قضية التوحيد التي تحتل كل هذا الثقل في القرآن الكريم لا تزال هي قضية البشرية الأولى، ولكن ليس بذلك المعنى القاصر والمخل الذي يتناوله بها أصحاب الفكر الجامد..

نعلم أن القرآن هو كتاب خالد لكل زمان ومكان، وهذا يقتضي أن تكون المشكلات التي يعالجها هي مشكلات إنسانية عامة تواجهها البشرية في كل زمان ومكان أيضاً، فكيف نفهم قضية التوحيد التي تحتل الصدارة في القرآن الكريم في هذا العصر فهماً يحافظ على إشراقها وحيويتها؟!

في عصر تتجه فيه الشعوب نحو المدنية وتنعتق من أغلال الأيديولوجيات يصبح من الضروري فهم قضية التوحيد فهماً مدنياً واقعياً، ليس بالتكلف وتحميل الألفاظ ما لا تحتمل من معان لنظهر أنفسنا للناس بأننا عصريون، بل بتدبر بسيط في المعاني التي تضمنتها هذه الكلمات في القرآن الكريم..

"لا إله إلا الله" في حقيقة معناها هي عقيدة ثورية ورسالة إصلاح اجتماعية وسياسية، فمن يؤمن إيماناً حياً، وليس مجرد إيمان طقوسي بأنه لا إله إلا الله فإنه لن يسعه بعد ذلك إلا أن يتمرد على كل أغلال العبودية، ويحطمها، ويأبى الضيم والذل والهوان..

كلمة لا إله إلا الله في معناها القريب والمباشر هو أن أحداً لا يملك الضر ولا النفع ولا الموت ولا الحياة ولا النشور ولا الرزق سوى الله، ومن كان هذا هو معتقده فإنه لن يسمح لأحد أن يبتزه في مصدر رزقه، أو أن يهينه في كرامته..

الإيمان يحرض في النفوس كوامن الثورة فمن يقرأ قول الله تعالى "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم" لن ينظر بعد ذلك إلى السادة والكبراء والملوك والوزراء نظرةً تخرجهم من بشريتهم إلى مصاف الألوهية، ولن يصغر نفسه ويحقرها استجداءً لرضاهم، فهم لا يزيدون عن كونهم عباداً أمثاله لا يملكون أن ينفعوه أو يضروه..

الإيمان يحرر الإنسان تحريراً نفسياً عميقاً فيشعره بالطمأنينة والرضا والسعادة لأنه قد علم بأنه ليس لأحد من سلطان عليه، وأنه هو سيد لنفسه، ولا يخضع إلا لإله واحد أحد صمد مطلق.

فلسفة تحرير الإنسان في القرآن تنبع من داخله، ولا تهدى إليه، فحرية الإنسان هي قراره الذاتي، وكل الظروف والعوائق لا تستطيع أن تحول بين إنسان وبين قراره بأن يكون حراً، ومن يتطلع إلى الحرية فرداً كان أو شعباً فإن المطلوب منه هو شيء واحد وهو أن يمارسها، لا أن ينتظر مهدياً أو مسيحاً أو مخلصاً أو خليفةً أو صلاحاً..ربما يستطيع الطغاة أن يسجنوا إنساناً أو يقتلوه، ولكنهم أبداً لن يستطيعوا أن يغيروا قناعاته بوسائل بطشهم، فإذا قرر إنسان بأنه حر صار حراً بالفعل.

حين يتحرر الناس من الداخل فإن هذه هي الخطوة الأولى والحاسمة لعملية تحرير شاملة في الميدان الاجتماعي والسياسي..فالتوحيد بهذا المعنى الحي يؤسس لعلاقات سوية بين بني البشر تقوم على المساواة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، وإلغاء الطبقيات، وعدم تقديس الأفراد مهما علا شأنهم..

إن مشكلة البشر اليوم لا تزال هي مشكلة الشرك، تماماً كما كانت هذه هي مشكلتهم زمن الأنبياء، وفي كل زمان، ولكن شرك اليوم ليس هو ركوع الجسد أمام الأصنام الحجرية والشجرية والبشرية، بل هو خضوع النفوس للمستكبرين في الأرض الذين يقولون للناس اتخذونا آلهةً من دون الله..

إن أصنام اليوم لم تعد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بل هي الحكام المستبدون الذين يقولون للناس نحن بيدنا الموت والحياة، وبيدنا الضر والنفع، ونحن نملك أن نرزقكم، ونحن لا معقب لحكمنا وبيدنا الأمر..

والشرك الأكبر في هذا العصر كما يقول المفكر جودت سعيد هو حق الفيتو في مجلس الأمن الذي ينصب خمسة آلهة كبار لا يريدون أن يكونوا على قدم المساواة مع بقية الدول، فإذا أجمعت البشرية كلها على أمر فإن دولةً واحدةً تستطيع بهذا الحق الباطل أن تلغي إرادة هذه الشعوب وأن تمضي رأيها دون أن يكون هناك معقب لحكمها..

وهل التأله في الأرض إلا أن يتعالى الإنسان على البشر ويظن أنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون..

معنى التوحيد هو معنى متجدد وخالد له في كل عصر تطبيقاته، ومن يتشرب هذه المعاني فإنه يكتسب طاقةً تحرريةً يكسر بها القيود والأغلال ويتمرد على واقع الظلم والاستعباد، وينادي في الناس برسالة القسط والعدل "ألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله"..

لقد أنتج التوحيد في تاريخ الإسلام نموذج بلال بن رباح وكلمته الخالدة أحد أحد حين تحدى بها سلطان السادة والكبراء، وها هو ينتج في زماننا نماذج مشرقةً تسير على خطى بلال وهي تتحدى سلطان المتألهين في الأرض وتهتف حرية حرية..

ولأن التوحيد عميق في فطرة النفس الإنسانية فإنه يعبر عن نفسه حتى عند غير المسلمين، فحين تخرج الشعوب غير المسلمة وتسقط حكامها المستبدين فإنها بذلك تؤكد حقيقة التوحيد وأن هؤلاء الحكام ليسوا آلهةً من دون الله..

إن الشباب البسطاء الذين يخرجون في الميادين العامة ويهتفون ضد الاستبداد والاستعباد هم أقرب لمعنى التوحيد من المشايخ المعممين أصحاب الفكر التقليدي الذين يشرحون هذه المعاني العظيمة بأسلوب بارد وجاف متجمد في التاريخ يفقدها روعتها ويفرغها من فعاليتها النفسية والاجتماعية والسياسية..

ولا غرابة في ذلك فهذه هي سنة الله في الذين خلوا من قبل بأن من يحمل لواء التجديد دوماً هم الناس البسطاء الذين لا يؤبه لهم، وليس أصحاب المكانة الاجتماعية ممن يسمون أنفسهم عظماء أو مثقفين أو نخبةً وغير ذلك "أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا"، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي"، "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"..

إن حقيقة الإيمان لا ترضى لصاحبها إلا أن يكون ثائراً رافضاً للانصياع للمستكبرين في الأرض عزيز النفس "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"..

والحمد لله رب العالمين..

الأربعاء، 7 سبتمبر 2011

هل تعرفون قصة الفيل نيلسون؟!

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يورد الدكتور إبراهيم الفقي في كتابه الرائع قوة التحكم في الذات قصة فيل يدعى نيلسون أسره أحد الصيادين وربطه بسلسلة حديدية، فحاول الفيل التخلص من هذه السلسلة دون جدوى، وظل يحاول جاهداً كل يوم من أوله إلى آخره، ومع تكرار المحاولات وتكرار الفشل أدرك نيلسون عجزه عن التحرر من قيده فما كان منه إلا أن استسلم وتوقف عن محاولاته.حينها استبدل الصياد سلسلةً خشبيةً بالسلسلة الحديدية، وكانت السلسلة الجديدة من الهشاشة بحيث يستطيع الفيل أن يكسرها بسهولة ويتحرر من قيده، لكنه لم يفعل وظل في أسره، وحين سأل الطفل أباه مستغرباً عن السبب الذي يدفع الفيل للبقاء في أسره بينما هو قادر على التحرر منه بسهولة، أجابه الأب: إنني أعرف أن الفيل قادر على التحرر من قيده، وأنت تعرف ذلك، لكن المهم أن الفيل نفسه لم يكتشف بعد هذه القدرة..

إن هذا الفيل لم يكن في واقع الأمر مقيداً بالسلسلة الخشبية سهلة الانكسار، بل إن قيداً آخر هو الذي كان يمنعه من التحرر وهو قيد برمجته السلبية وقناعاته الراسخة بعجزه فلم يكن يفكر مجرد تفكير في محاولة التخلص من قيوده والانطلاق نحو الغابة الواسعة..

مثل هذا الفيل ينطبق على كثير من البشر الذين تقيدهم أفكارهم السلبية وثقافة العجز وفقدان الثقة بالذات وغفلتهم عما حباهم الله به من إمكانيات وقدرات، فتؤدي هذه النظرة إلى إحجامهم عن مجرد محاولة النجاح والانتصار في الحياة، ويظلون أسارى لأوهامهم ظناً منهم بأنه قدر عليهم أن يظلوا طوال حياتهم فاشلين مهزومين وأن النصر والنجاح هو حليف أعدائهم إلى الأبد..

والعوائق التي تحول دون نجاح هؤلاء هي عوائق ذاتية وليست موضوعيةً..فنحن من نصنع الهزيمة أو النصر بالقدر الذي نقرره لأنفسنا، وأعداؤنا هم أقوياء بالدرجة التي نرسمها في أذهاننا لحدود هذه القوة، وقدرتنا على الانتصار عليهم مرهونة بمدى تحرر نفوسنا من العبودية لهم، وحين رأينا في عام 2011 سقوط أنظمة استبدادية عاتية كانت تحكم شعوبها منذ عقود بالحديد والنار، فهذا ليس لأن هذه الأنظمة قد ضعفت فجأةً بعد أن كانت قويةً طيلة السنوات الخالية، لكن الذي تغير هو أن الشعوب قد أدركت أخيراً سر قوتها، فما كان منها إلا أن حطمت السلسلة الخشبية وانطلقت نحو الحرية..

يذكر لنا التاريخ إلى أي مدىً يصل أثر برمجة الهزيمة على الإنسان ففي زمن اجتياح التتار يروى أن أحد جنود التتار حين كان يقابل أحد المسلمين في الطريق كان يطلب منه أن يظل واقفاً في مكانه حتى يذهب ويحضر سيفه ليقتله..فما يكون من هذا الرجل إلا أن يظل متسمراً لا يتزحزح من موضعه حتى يعود الجندي بسيفه فيقتله..هذا الرجل كان يستطيع على الأقل أن يحاول الفرار لا أن يستسلم بهذه الطريقة الذليلة، لكن الهزيمة النفسية التي ملأت قلبه بتصورات عن قوة التتار الخارقة، وعبث أي محاولة للتغلب عليهم شلت قدرته عن بذل أي محاولة للنجاة بنفسه..

إن أكبر معيق يواجه الإنسان في حياته هو برمجته بالأفكار السلبية لأن هذه الأفكار هي التي تصنع سلوكه وهي التي تحدد مستقبله، والفرق بين إنسان ناجح وآخر فاشل ليس ميزات إضافيةً وهبها الخالق للأول ونزعها من الثاني، بل إن الفرق هو أن الأول اكتشف مواطن قوته فاستثمرها، بينما الثاني لم يكتشفها فظل متخبطاً في ظلمات فشله وهزيمته..

يقدم لنا القرآن الكريم نظرةً إيجابيةً تجاه الإنسان حتى تكون هذه النظرة دافعاً لنا للنجاح، فالإنسان في القرآن هو سيد الكون، وهو الذي سخر له الخالق ما في الأرض جميعاً منه، وهو الذي كرمه الله ونفخ فيه من روحه، وفضله تفضيلاً، ولم يجعل لأحد من سلطان عليه، حتى الشيطان فإن كيده كان ضعيفاً.

وهذه النظرة الإيجابية للإنسان في القرآن الكريم كفيلة لمن يتدبرها بأن تحرره من قيوده وتضع عنه الإصر والأغلال، وتبعث فيه القوة للانطلاق نحو النجاح وهزيمة كل الظروف والعوائق فقط عليه ألا يظلم نفسه، وأن يضعها في المكان اللائق بتكريم الله عز وجل لها..

إن خطورة البرمجة السلبية هي أنها تجعل على قلوب أصحابها أكنةً فيصابوا بالعمى، ولا يروا الحياة إلا بمنظار أسود قاتم، ولا يعودوا قادرين على اكتشاف مواطن القوة الذاتية واستثمارها فيهزموا من داخلهم بفعل هوانهم لا بفعل قوة الأعداء.

لقد مرت بي آية في كتاب الله لمست فيها معنىً جديداً وهي قول الحق عز وجل: " إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ"..هذه الآية تبين الدور الخطير للبرمجة السلبية في خذلان الإنسان ساعة المواجهة، ويشير القرآن في هذه الآية ذاتها إلى ضرورة التحرر من أثقال الماضي بفتح باب العفو "ولقد عفا الله عنهم"..ومفهوم التوبة في الإسلام ما هو إلا تعبير عن التحرر من أغلال الماضي، والانطلاق بأفكار إيجابية نحو المستقبل..

إن اكتشاف القدرة على الانتصار والنجاح هو أكثر من نصف الطريق نحو تحقيقهما، والقيمة الاستراتيجية للثورات العربية قبل أن تقاس بما أحدثته من تغييرات سياسية فإنما تقاس بأنها حررت الشعوب من حقبة الهزيمة النفسية وفقدان الثقة بالذات، ونبهتها إلى مواطن القوة الكامنة فيها، مما أعطى هذه الشعوب قوة دفع في اتجاه تحقيق النهضة وصناعة الحياة..

والله أعلم