الخميس، 11 أغسطس 2011

قراءة في المواقف الغربية تجاه الثورات العربية "1"

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

من يتجاوز التصريحات الدبلوماسية والشعارات البراقة التي تصدر عن قادة الدول الغربية تجاه الثورات العربية ويتأمل في السلوك العملي لها فإنه على الأغلب سيخرج بانطباع بأن مواقف هذه الدول هي مواقف لا إنسانية وأنها تؤكد حقيقة أن العالم الغربي لا يزال يعيش بالعقلية الاستعمارية التي لا ترى على الخارطة شعوباً تتوق للحرية والكرامة فهي لا ترى سوى أنانياتها ومصالحها الضيقة وحقولاً من النفط والموارد الطبيعية..

يمكننا تتبع المواقف الغربية ابتداءً من الثورة التونسية حيث تمثل الموقف الغربي في أوضح تجلياته في الموقف الفرنسي، وذلك لما يربط فرنسا بنظام الرئيس التونسي المخلوع من علاقات خاصة، بخلاف أمريكا التي لم يكن اهتمامها تجاه الأحداث في تونس يرقى لوضع يمكن أن يكشف عن مكنوناتها ويعري حقيقة مواقفها..

اختارت فرنسا الرسمية الاصطفاف إلى جوار بن علي دون أن تكون قد أدركت بعد حجم هذه الأحداث في تونس وأنها تتطور باتجاه ثورة شاملة تسقط واحداً من أعتى الأنظمة الاستبدادية في العالم العربي..

ولم تستطع فرنسا أن تخفي دعمها لبن علي، فكانت تصريحات لكبار المسئولين فيها تصفه بأنه صديق حميم وتبدي إعجابها تجاه دوره القمعي للحركات الإسلامية، بل إن الموقف الفرنسي ذهب أبعد من ذلك حين وجهت الوزيرة الأولى انتقاداً ضمنياً للشعب التونسي ووصفت ما يحدث بأنه أحداث أمنية وأبدت فرنسا استعدادها لدعم بن علي في مواجهة هذه الهبة الشعبية..

أما الشعب التونسي بطبيعة الحال فلم يأبه لهذه المواقف وواصل ثورته الباسلة حتى استطاع أن يسقط النظام الاستبدادي في بلاده، وهنا كان لا بد للموقف الفرنسي مثله مثل المواقف الغربية أن يتقلب سريعاً وأن يركب الموجة ويبدأ بالثناء على الشعب التونسي وبطولته، وبحكم مقتضيات هذه المرحلة الجديدة رفضت فرنسا استقبال حليفها حتى الأمس القريب واضطر إلى البقاء في طائرته عدة ساعات قبل أن يدرك بأنه لم يكن أكثر من موظف قد استهلكت صلاحيته ولم تعد له فائدة..

قبل أن يلتقط العالم أنفاسه ويدرك حجم التغيير الذي صنعه الشعب التونسي عاجله الشعب المصري بمفاجأة أشد وأقوى لتبدأ ملامح مرحلة جديدة في التبين وليدرك العالم أنه ليسوا أمام ثورة عابرة في بلد صغير بل أمام موجة هادرة تجتاح العالم العربي برمته، وهنا كان لا بد للموقف الغربي الذي ستتصدره الآن أمريكا لما تمثله مصر من أهمية استراتيجية لها أن يعبر عن نفسه، ويبدو أن المسئولين الأمريكيين حاولوا الاستفادة من الخطأ الفرنسي في تعامله مع الثورة التونسية فحرصوا أن يظهروا أنفسهم في موقف المتضامن مع تطلعات الشعب المصري نحو الحرية والإصلاح، ولكن هذه الاستفادة لم تكن كبيرةً، حيث كان الاختلاف بين الموقف الفرنسي في تونس والموقف الأمريكي في مصر هو اختلاف في أسلوب الخطاب واختيار الكلمات أكثر من كونه اختلافاً في المضمون..وبدا جلياً للمراقبين حالة التموج التي اتصف بها الخطاب الأمريكي طوال أيام الثورة المصرية الثمانية عشر، فهو لم يكن خطاباً ثابتاً على وتيرة واحدة بل كان يخضع للتطورات الميدانية، ولحالة الزخم الجماهيري صعوداً أو هبوطاً، فإذا اشتد زخم التظاهرات في ميدان التحرير وعلا صوت الجماهير المطالبة بإسقاط النظام خرج المسئولون الأمريكيون يطالبون مبارك بالرحيل الآن، فإذا اشتد صوت الجماهير أكثر خرج الناطق باسم البيت الأبيض ليوضح لمبارك بأن الآن تعني أمس وليس اليوم، فإذا جاءت أيام خفت فيها وتيرة التظاهرات خفت حدة الخطاب الأمريكي بطريقة أوتوماتيكية فرأينا البيت الأبيض يطالب مبارك بالبدء بإجراءات نقل السلطة، مما يعني تراجعاً عن مطالبته بالرحيل الفوري..وهكذا كان واضحاً أن الموقف الأمريكي تجاه الرئيس المصري السابق لم يكن حاسماً، ولم يكن موقفاً مبدئياً فلو كان كذلك لاختار البيت الأبيض منذ اليوم الأول الذي رفع فيه المتظاهرون شعار إسقاط النظام دعم الثورة المصرية ومقاطعة نظام مبارك نهائياً ومطالبته بالرحيل وظل ثابتاً على ذلك، لكن الموقف الأمريكي كان لا يزال متردداً في فك ارتباطه بالاستبداد تخوفاً بأن يكون البديل عنه هو وصول أنظمة ديمقراطية تعبر عن تطلعات شعوبها التي لن تكون بالتأكيد منسجمةً دائماً مع المصالح الأمريكية في المنطقة..

في ضوء هذا التعامل الأمريكي المتذبذب تجاه الثورة المصرية لن يكون صعباً فهم السياق الذي جاءت فيه كلمة الرئيس الأمريكي باراك أوباما عقب تنحي مبارك وأفاض فيها الثناء للثورة المصرية وما مثلته من قيم ملهمة ودروس عظيمة، فهذه الكلمة لا تعني بحال من الأحوال أن أوباما كان يصلي للرب أملاً بأن تنجح الثورة المصرية، ولن تعني بأنه لو حدث العكس لا قدر الله لكان أوباما سيعلن قطيعةً مع الرئيس مبارك لأنه قتل تطلعات شعبه في الحرية والديمقراطية، فهي كلمة تعبر عن سياسة ركوب الموجة لا أكثر، وعن محاولة إيجاد موطئ قدم في الواقع الجديد..

هذه المباركة الأمريكية والغربية للثورة المصرية لا تعني أنهم سلموا بسهولة بولادة ديمقراطية خارج السيطرة في أهم بلد عربي، ولكنها مباركة تكتيكية لالتقاط الأنفاس وللبحث في وسائل جديدة سياسية واقتصادية واستخبارية للتعامل مع الواقع الجديد من أجل احتوائه وتقليل مخاطره على مشروع الهيمنة الغربي، ولعل ما كشفته السيدة فايزة أبوالنجا وزيرة التخطيط والتعاون الدولي المصرية من أن حكومتها رفضت شروط البنك وصندوق النقد الدوليين وأنها لا تقبل بالإملاءات الخارجية يشير بأن الغرب يحاول اعتماد سلاح القروض من أجل إعاقة انطلاقة مصر وتكبيل نهضتها.

ما تكشف عنه مثل هذه الأخبار هو أن الغرب وبالرغم من الترحيب الإعلامي بالثورات العربية إلا أنه لا يزال يخشى من تحرر الإرادة العربية من الخضوع له، ولا يزال يمارس محاولاته لتعويق قيام نهضة حقيقية في العالم العربي..

يتبع...

الخميس، 4 أغسطس 2011

محاكمة مبارك وأولويات الثورة

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

لا يسع الإنسان المؤمن وهو يرى مشهد الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك في القفص الحديدي إلا أن يستحضر بخشوع قول الحق تبارك وتعالى "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير"..

إنه مشهود مشحون بالدروس والعبر، فحسني مبارك ذاته الذي كان لا يرى إلا مبجلاً مفخماً معظماً، وكانت إشارة من إصبعه كافيةً لزج أي إنسان في الأقفاص الحديدية وإبقائه عشرات السنين في السجن ظلماً وعدواناً يرد ذات المورد الذي أورده لعشرات الآلاف عبر سنين حكمه الثلاثين، ويظهر أمام العالم في هذا المظهر المهين المخزي الذي يهون دونه الموت..

اليوم نفهم جانباً من الحكمة الإلهية في الإملاء للظالمين "إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً"، فقد كنا في وطأة اشتداد ظلم مبارك وعدوانه نقلب وجوهنا في السماء ونتساءل لماذا لا ينتقم الله منه؟ لماذا لا يموت بالسرطان.. ولم نكن ندري حينها أن الله يخبئ له ما هو أشد وأخزى في الحياة الدنيا "لهم خزي في الدنيا".

يذكرنا مشهد محاكمة مبارك بمشهد الموقف العظيم يوم القيامة، فها نحن نرى عزيز الأمس ذليل اليوم وقد تجرد من السلطان والأعوان، وما له من شفعاء يشفعون له، يقف وحيداً ذليلاً كأن لم يغن بالأمس، وكأن لم يكن لثلاثين سنةً هو الحاكم المطلق الذي يأمر وينهى دون معقب لحكمه يظهر اليوم بشكل مختلف لم نكن قادرين على تخيله حتى وقت قريب لا يستطيع رد سيل الإدانات الموجهة إليه، ويسمع أحد ضحاياه بالأمس وهو يقف على بعد أمتار منه ويصفه بالسفاح ولا يملك أن يرد عليه بشيء، وهو الذي لم يعتد أن يسمع سوى كلمات العظمة والتبجيل، فأي آية أعظم من هذه الآية..

تذهب كثير من الآراء بأن ظهور مبارك على سرير طبي هي حيلة مدبرة من محاميه حتى يستدر عطف الناس، ويجد مبرراً للاعتذار عن حضور الجلسات القادمة.. وحتى لو كان هذا الأمر صحيحاً فإنه لم يعد ذا قيمة كبيرة فقد انقلب السحر على الساحر وحاق المكر السيء بأهله، ووقع مبارك ومحاموه في الحسابات الخاطئة، فهذه الحيلة لم تنطل على المحكمة ولا على الشعب الذي فقد مصداقيته في مبارك، وكل ما أنتجته هذه الحيلة هي أنها أظهرت مبارك بهذه الحالة المخزية المهينة في آخر عمره لتستقر صورته في الأذهان على غير ما كانت مرسومةً خلال عشرات السنين الخالية، ورمزية ظهور مبارك المهين ربما تكون أهم من تفاصيل مجريات المحكمة وأي حكم قضائي ستصدره.

سيسجل التاريخ أن الثالث من أغسطس من عام 2011 هو اليوم الذي حوكم فيه أول رئيس عربي بإرادة شعبية محضة دون أي دور للضغوط الخارجية كما كان الحال مع صدام حسين، وستكون رسالةً قويةً للشعوب العربية الأخرى وحكامها على حد سواءً إذ سيشكل هذا المشهد المهين لحسني مبارك في قفص الاتهام ملهماً لبقية الشعوب التي ترزح تحت نير الأنظمة الجبرية يغذي أشواقها ليوم مماثل تقدم فيه حكامها الظالمين أمام محكمة الشعب العادلة، كما سيرسل رسالةً قويةً للأنظمة الجائرة بأن الأيام دول، وأن دوام الحال من المحال، وأنه قد يفعل بهم كما قد فعل بأشياعهم من قبل، وأن للشعوب سطوتها وكلمتها التي ستقولها يوماً ما مهما طال صمتها..

لكن استحضارنا لعظمة آية محاكمة مبارك ما ينبغي أن يفقدنا التوازن ويصيبنا بالنشوة.. يكفي أن نستقي منها العبرة والدلالة ثم نتجاوزها في اتجاه العمل الإيجابي البناء..أقول هذا لأنني أشعر بالقلق من سيطرة الروح الثأرية الانتقامية على قطاع كبير من أبناء الشعب المصري فهم يريدون الانتقام من مبارك وحزبه وأعوانه وكل مظهر يذكرهم بحقبته..والمبالغة في التركيز على هذا الاتجاه تصرف الجهود عن الأهداف الحقيقية للثورة، فهدف الثورة هو إقامة نظام جديد، وليس مجرد هدم نظام قائم..والثورة المصرية حتى الآن لم تحقق سوى الجزء اليسير منها وهو عملية الهدم ولا تزال أمامها طريق شاقة وطويلة من عملية البناء وتأسيس نظام جديد قوامه الحكم العادل الرشيد..

لذا فإن استغلال أوضاع الحرية التي أوجدها إسقاط النظام في عملية الهدم دون البناء هو مؤشر مقلق يدل على التيه وغياب الرؤية الواضحة..نحن مع محاكمة مبارك لكننا لسنا مع أن تستغرق كل جهود الثورة والثائرين، وتهيمن على خطابهم، وأن تشعرهم في حال تحققها وكأنها هي الغاية النهائية لهذه الثورة، فالتحديات الماثلة أمام شعب مصر لا تزال تحديات عظيمة وكبيرة منها الانتقال السلمي للحكم المدني، وتعزيز ثقافة الديمقراطية والشفافية والمحاسبة في مؤسسات الدولة، وبناء نهضة مصر لاستعادة دورها الإقليمي والعالمي، وكل هذه الأهداف العظمة هي بحاجة إلى طي صفحة الماضي سريعاً والالتفات نحو بناء المستقبل..

لقد بين لنا القرآن الكريم أن المشكلة ليست هي في زوال فرعون بقدر ما هي في إقامة حكم جديد يعقب زواله. فحين اشتكى بنو إسرائيل لموسى عليه السلام من اشتداد وطأة ظلم فرعون عليهم، رد عليهم موسى عليه السلام رداً حكيماً دل على رؤية ثاقبة بسنن التاريخ "قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"..فالقضية ليست هي هلاك فرعون، بل هي هل أعددتم العدة لملء الفراغ الذي سيعقب هلاكه، وما هو البرنامج الإصلاحي المغاير الذي ستقدمونه في حال تسلمكم الحكم بعد فرعون..

إن مؤشر نضج الشعوب هو طريقة ترتيب أولوياتها، وكيفية استغلالها لفضاءات الحرية، هل تستغلها في الثأر والانتقام والمبالغة في هدم الماضي ودكه دكاً، أم تتقدم خطوات إلى الأمام وتستفيد منها في بناء نموذج مختلف وترسيخ واقع جديد يقضي على الاستبداد من جذوره حتى لا يفرخ لنا فرعوناً آخر في المستقبل..

والله الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل..

لصحيفة فلسطين

العلوم النهضوية

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يستغرب بعض أصدقائي حين أقول لهم إنني لا أعطي الأولوية في اهتماماتي إلى علوم مثل القراءات السبع للقرآن أو النحو والصرف أو الشعر وأوزانه، ولا أتفق مع من يصرف ساعات طويلة في مناقشة أسانيد الأحاديث دون أن يخصص نصف هذا الوقت ولا ربعه للتأمل في متونها وتدبر المعاني العميقة التي تحتويها.

يقولون لي:كيف لا تهتم بالقرآن وهو أشرف العلوم على الإطلاق؟

أقول لهم: ينبغي أن تكون لدينا القدرة على اكتشاف الفروق الدقيقة لأن الخلط يحدث بسهولة في مثل هذه المواطن..نعم أهتم بالقرآن وهو تاج رءوسنا، ولا قيمة لنا إلا بالقرآن..ولكن القرآن شيء، والمبالغة في التركيز على القراءات الأخرى للقرآن، أو المبالغة في دراسة أحكام التجويد، وإتباع الدورة بدورة ثانية ورابعة وخامسة بعد أن تعرفت على الحد المقبول منها وصرت أتلو القرآن تلاوةً صحيحةً هو شيء آخر..

غاية نزول القرآن الأساسية هي تدبره وفهم آياته ومعانيه وليس التباهي أمام الناس بقدرتنا على إمالة الألف اللينة في قوله تعالى "والنجم إذا هوى"..ووظيفة أحكام التجويد ليس إلا تصحيح تلاواتنا حتى يسهل تفاعلنا مع القرآن وفهمنا لمراده، وليس التوقف عندها وتركيز كل الجهد عليها دون تجاوزها إلى ما بعدها حتى لا نكون مشابهين لحال من تحدث عنهم القرآن الكريم "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني"، والأماني هي التلاوة كما يقول المفسرون..

هب أن الأمة كلها أتقنت القراءات السبع للقرآن.. ما النتيجة العملية التي ستترتب على ذلك..هل بمجرد أن يتقنها الناس فإنهم سينهضون وسيتغير واقعهم وسيتخلصون من أسباب التخلف إلى الأبد ويستبدلون حياةً عزيزةً بذلتهم وقوةً بضعفهم، وغنىً بفقرهم..

لا أنتقد أن يوجد بيننا من يهتم بهذا اللون من ألوان العلم وأن يبدع فيه، ولا أبرر لمن يلحن في قواعد اللغة ويخطئ في التلاوة الصحيحة للقرآن، فهناك حد أدنى يجب أن يتعلمه الجميع، ولكن ما دفعني إلى الحديث في هذه المسألة هو شعوري بأنها تحولت إلى توجه عام في أوساط ثلة من الشباب المتدين، فتجد أحدهم يقدم هذا الاهتمام على ما عداه حتى يؤدي به إلى إهمال العلوم الأخرى.

أعرف من هؤلاء أحد أصدقائي الذي أجده دائماً مستغرقاً في الاهتمام بقراءات القرآن وقرائه، ومحاولة تقليد أصواتهم، وفي نفس الوقت لا ألمس عنده أي اهتمام بالثقافة العامة والاطلاع على العلوم الأخرى.

أعجب من حال صديقي وأمثاله وقد آتاهم الله حظاً من ذكاء ونشاطاً في طلب العلم فبدل أن يستثمروه في التركيز على العلوم والمعارف التي تقود إلى النهضة ويُرى أثرها في واقع الناس فإنهم يبددون أوقاتهم الثمينة في الاستغراق في هذه العلوم حتى تملك عليهم كل أوقاتهم وجهودهم وكياناتهم.

لي صديق آخر يستفتيني أحياناً في مسائل نحوية فأقول له: جيد أن تقوّم لسانك، ولكن ينبغي أن نقدر الأمور بقدرها، فليس من الحكمة التركيز على النحو كل هذا التركيز بينما أنت تعاني نقصاً حاداً في قراءة التاريخ أو فهم أسباب تفوق المشروع الصهيوني، أو العوامل التي تتحكم في نهوض الأمة أو انتكاسها، أو فهم أسباب المشكلات الاجتماعية مثل البطالة والفقر..أيهما سيفيد الأمة أكثر: أن تتعرف على أسباب نجاح المشروع الصهيوني وتخرج من ذلك بتوصيات لمواجهته مواجهةً شاملةً وإبطاله كما صنع العلامة الراحل عبد الوهاب المسيري، أم أن تقضي وقتاً طويلاً من عمرك في الاستغراق في مسائل النحو الدقيقة .

يكفي أن يكون هناك عدد قليل للتخصص في هذه العلوم حتى لا تندثر ولتبقى دالةً على هوية الأمة، ولكن حتى من يتخصص في هذه العلوم فإنها لا تكفيه وحدها فلا ينبغي أن يعد نفسه من العلماء فقط لأنه يحسن الإعراب أو يحسن وزن الأشعار، بل عليه أن يتسلح بجملة من المعارف الاجتماعية والتنموية والحضارية ليكون منتمياً لهذا العصر الذي يعيش فيه وشاهداً عليه "لتكونوا شهداء على الناس"..

وعلوم مثل التجويد والنحو والشعر مثلها في بناء العلم كمثل الطلاء الخارجي الذي يزين البناء، فإذا أقام الإنسان بناءه على أسس قوية ودعم أركانه، وجاء بعد ذلك ليزين الجدار كان نوراً على نور، أما أن يهتم بالطلاء الخارجي والبناء متهالك فهذا لا يسمى إلا غبناً..

والخطأ هو أن يتحول الاهتمام بمثل هذه العلوم إلى أولوية تأخذ حيزاً كبيراً من طاقات الأذكياء من شبابنا، بل أن يصل الأمر إلى تفضيلها على العلوم ذات الأثر الواضح في حياتنا الاجتماعية عن طريق تقسيم العلوم تقسيمات ما أنزل الله بها من سلطان إلى شرعية وأخرى غير شرعية، وضمها إلى خانة العلوم الشرعية، فيبذل الشاب زهرة عمره في إتقان القراءات السبع أو الغوص في مسائل فقهية تفصيلية بعيدة عن واقع اليوم كانت تهم الناس في زمن ابن تيمية وابن القيم ولكنها لم تعد تلامس أي حاجة حقيقية في حياة الناس اليوم، أو في حفظ معلقات العرب، وربما يحصل الشاب الذكي على درجة الامتياز مع مرتبة الشرف في هذه التخصصات، فيفرح بهذه الدرجة العالية وتقام الاحتفالات والتشريفات له، ويمنح الألقاب، ثم يخصص دراساته العليا لمناقشة إعراب حتى، أو ألفية ابن مالك، أو الأدب العربي في إحدى العصور و نحو ذلك، وبعد كل السنوات والجهود التي يبذلها تكون المحصلة الاجتماعية صفر..فلم تؤد علومه وشهاداته وألقابه إلى تقديم إجابات عملية للمشكلات الواقعية للناس في هذا الزمان.ولو أنه صرف ذكاءه في بحث أسباب إحدى المشكلات الاجتماعية أو الحضارية وقدم حلولاً إبداعيةً لها لكان ذلك أنفع للناس..

هذا الصنف من المتعلمين يصدق عليهم وصف الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في كتابه (هكذا ظهر جيل صلاح الدين) حين شبه العلم في بلادنا العربية بالذهب الذي تلبسه النساء للزينة، وكذلك العلم صار للزينة دون استيعاب للمضمون والاستفادة منه.

إن الإسلام دين عملي وليس كلاماً نظرياً منفصلاً عن الواقع، ووظيفة العلم هو النهوض بالواقع، لذا فإن مقياس المفاضلة بين علم وآخر هو مدى الأثر الذي يستطيع هذا العلم إحداثه في حياة الناس، والأمة التي تبحث عن النهوض يجب أن تكون أمةً عمليةً لا نظريةً، فنركز من العلوم على ما يستطيع إحداث نهضة حقيقية في واقع الأمة، فأيهما سينفع الأمة أكثر أن يتخصص أبناؤها في بحور الشعر، أم في نظريات التغيير الاجتماعي، وعلوم التنمية البشرية، أن يدرس أبناؤها القراءات السبع التي لم يفرض الله علينا القراءة إلا بواحدة منها، أم أن نوجههم لتدبر معاني القرآن بقلوب واعية فربما أوتي أحدهم فهماً في كتاب الله لم يسبق إليه فيقدم للأمة ما هو أنفع لها..

لقد تفطن العلامة عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الرائع (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) إلى ضرورة مراعاة الأثر الاجتماعي للعلوم ففرق بين نوعين من العلوم: علوم لا يخشاها المستبد مثل علوم اللغة وعلوم الدين المتعلقة بالآخرة، والتي يجعلها عديمة الجدوى لأنها لا تزيل غشاوة الجهل، وتملأ الأدمغة غرورا ويشبه المهووسون بها بالسكارى إذا خمروا! وهو يستثني من ذلك كل الذين تفيدهم هذه العلوم حكمةً وعلماً.والمستبد لا يخاف أيضا من العلوم الصناعية ، لأن أصحابها يكونون صغار النفوس مسالمين يسعون لمصلحتهم الشخصية ويسهُل على المستبد شراؤهم !

أما العلوم المرعبة للمستبد فقد فصلها الكواكبي: ((هي الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصل والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها ))..

وما يهمنا هنا في فكرة الكواكبي هو إجمالها وهو ضرورة مراعاة الفاعلية الاجتماعية والسياسية والحضارية للعلوم التي نوجه أبناءنا باتجاهها..

وما ذكره الكواكبي من موقف المستبدين من أصناف العلوم تظهر صدقيته فيما نراه من تكريم هؤلاء المستبدين لحفظة القرآن وقرائه لأنهم يعلمون أن هذه العلوم وحدها لا تهدد كياناتهم الاستبدادية، بل ربما تزينها وتعطيها الشرعية..

إذاً ينبغي إعادة الوصال بين العلم وبين الواقع، وإعادة الوظيفة الاجتماعية للعلم فهو ليس للزينة والألقاب الفارغة، وليس للجدل في قضايا نظرية أو قضايا تاريخية لم تعد معرفتها تفيد أهل هذا الزمان في شيء، بل إن وظيفة العلم هو الأخذ بيد الأمة لاستئناف مشروعها الحضاري، وتقديم حلول عملية للمشكلات الواقعية التي نعايشها..

ولنتذكر دائماً حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"..

والله أعلم..