الخميس، 23 ديسمبر 2010

وأما بنعمة ربك فحدث
أحمد أبورتيمة
يتكرر في القرآن الكريم كثيراً قول الله تعالى:"اذكروا نعمة الله عليكم"، وفي ختام سورة الضحى يخاطب الله نبيه: "وأما بنعمة ربك فحدث".. فما هو الأثر الإيجابي الذي يتركه تذكر نعمة الله وتحديث الناس بها على نفوسنا في ضوء علوم التنمية البشرية والبرمجة العصبية؟..
حياة الإنسان من صنع أفكاره، فمن يملؤ عقله بالأفكار والخواطر الإيجابية فإن شخصيته ستتشكل تشكلاً إيجابياً وسينظر إلى الحياة نظرةً مشرقةً مفعمةً بالأمل والحب..ومن يملؤ عقله بالخواطر السلبية فلن يرى من حوله إلا السواد والظلام لأنه ينظر إلى الحياة بمنظار أسود قاتم..
وحين يكثر الإنسان من تذكر نعم الله عليه وتحديث الناس بها فإنه يرسل إلى عقله الباطن رسائل إيجابيةً فيمتلئ قلبه بمشاعر الرضا والطمأنينة ويتحرر من الشعور السلبي بالحرمان والدونية وأن الناس أسعد حظاً منه، ومع تكرار إرسال هذه الرسائل الإيجابية فإنه سيتحول إلى شخصية إيجابية مفعمة بالنشاط والفاعلية والإقبال على الحياة..
واختلاف النظرة إلى الحياة لا يعود إلى اختلاف واقعها الموضوعي بقدر ما يعود إلى اختلاف أفكارنا تجاهها ، فتجد من الفقراء المعدمين في هذه الحياة من ينظر إليها نظرة إشراق وأمل وسعادة، وفي المقابل تجد من المترفين المتخمين بالنعمة من يكثر من السخط والشكوى والتذمر، فلو كان سبب السعادة مادياً لكان أصحاب الثراء الفاحش أولى بالسعادة من الفقير البائس الذي لا يكاد يجد قوت يومه، ولكن السبب هو في طريقة التفكير والنظر إلى الأمور.. فهناك من لا يرى في الوردة إلا الشوكة التي يخفيها جمالها، لذلك يقول المثل لا تقل تحت الورد شوك، ولكن قل فوق الشوك ورد..
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "انظر إلى مَن هو تحتك، ولا تنظر إلى مَن هو فوقك، فإنه أجدر ألاَّ تزدري نعمة الله عندك"..أي لا تقل إن فلاناً يملك بيتاً أجمل من بيتي، ولكن قل إنني أملك بيتاً، وغيري يسكن في كوخ، وهذه النظرة إلى أمور الدنيا تورث في قلب الإنسان شعوراً بالرضا والطمأنينة ، وتذكره بنعمة الله عليه، أما من ينظر إلى من هو أعلى منه فإنه سيظل في صراع نفسي عنيف، لأنه لن يرى كل النعم التي أنعمها الله عليه، وسيرى فقط ما في يد الآخرين مما سيولد في نفسه شعوراً بالسخط تجاه الحياة لأنه لا يرى منها إلا ما لا يملكه..
في علم البرمجة العصبية الحديث فإن مجرد استحضار الذكريات السعيدة هو مصدر سعادة، وفي المقابل فإن استحضار الذكريات الأليمة هو مصدر ألم..
فالسعادة والألم لا تستجلب بالمادة فقط، ولكن بالفكر أيضاً بتذكر الأحداث الماضية,, لأن استحضار الذكريات الماضية ينسخ مشاعرها إلى الوقت الحاضر..فإذا أراد الإنسان أن يحظى بساعة من السرور تذكر موقف سرور من الماضي فيحصل على نفس الشعور الذي شعر به في الماضي، وفي المقابل إذا تذكر الإنسان فقدان عزيز عليه تجددت أحزانه، رغم أنه قبل هذا التذكر لم يكن حزيناً..فالتذكر له أثر نفسي بالغ والإنسان يستطيع أن يتحكم بسعادته أو حزنه بحسب قدرته على توجيه ذكرياته وخواطره..
والقرآن يكثر من ذكر مواقف إيجابية، ويحث الناس على تذكرها، فيطلب منهم أن يتذكروا إذ كانوا أعداءً فألف بين قلوبهم، وإذ نصرهم ببدر وهم أذلة، ويطلب من بني إسرائيل أن يتذكروا إذ أنجاهم من عدوهم، واستحضار هذه المواقف الإيجابية التي تجلى فيها تأييد الله ونصره يبقي الإنسان في حالة إيجابية..
إن المداومة على استحضار نعم الله يعزز المشاعر الإيجابية في قلب الإنسان فتمنحه طاقةً هائلةً من النشاط والإقبال على الحياة برضا وطمأنينة وتتعزز فرصه في النجاح والاستزادة من النعم، لأن الشخصية الإيجابية عامل جذب للنجاح فهي ترى لكل مشكلة حلاً، وفي كل محنة منحة، ومع كل تحد فرصة، بينما الشخصية السلبية عامل طرد فترى في كل حل مشكلةً، وبذلك نفهم فهماً علمياً قول الله تعالى "لئن شكرتم لأزيدنكم"..والشكر قبل أن يكون قولاً باللسان فهو شعور قلبي بالرضا والمحبة..ومن يكن هذا هو شعوره فسينظر إلى الحياة بمنظار إيجابي وسيتحرر من النظرة القاتمة والتشويش الذهني وسيصفو تفكيره ويصبح أكثر قدرةً على التركيز واكتشاف الفرص مما سيجذب إليه فرص النجاح والاستزادة من الرزق ..
إن الشخص الإيجابي التي يكثر من تذكر نعم الله عليه في نفسه، ومن تحديث الناس بها فإنه لن يظل في قلبه موضع للحقد والحسد والضغينة، وسيتعامل مع الناس بمحبة وإحسان ظن، لأن أفكاره وخواطره لن توجهه إلا في اتجاهات إيجابية، فإن بدا من أحد الناس خطأ التمس له عذراً فإن لم يجد بحث عن سبعين عذراً، والبحث عن الأعذار للآخرين صناعة الذين تمتلئ قلوبهم بمعاني الخير فتفيض هذه المعاني على نظرتهم للآخرين، لأن نظرة الإنسان إلى الآخرين إنما هي انعكاس لما في نفسه من برمجة إيجابيةً كانت أم سلبية، فمن يكذب لا يثق بالناس لأنه يظن أنهم جميعاً يكذبون مثله، ومن يملأ قلبه بالتصورات الجنسية المريضة ستكون نظرته إلى المجتمع بأنه غارق في الرذيلة، وفسر كل حركة وسكنة تفسيراً فاسداًً يتطابق مع ما في نفسه..
إن الأفكار والخواطر التي نملأ بها قلوبنا هي التي تحدد سلوكنا في الحياة، لذلك فقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يظل قلبه ممتلئاً بمعاني الخير، وكان دائم الرعاية له حتى لا يتسلل إليه أي دخن فكان يقول لأصحابه: ""لا يبلِّغني أحد عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم القلب".. وهذه دعوة رائعة إلى البرمجة الإيجابية، فأن يتعمد الإنسان تغافل سقطات الناس فهذا ليس سذاجةً ولكنه منتهى الفطنة والذكاء لأنه يكسب صفاء قلبه وراحة نفسه، ويستطيع أحدنا أن يستفيد من هذا الحديث عملياً فلا يتحدث إلا في الإيجابيات ويتعمد تجاهل السلبيات، فلا يقول إنني أحب هذا وأبغض ذاك، ولكن يقول إنني أحب هذا ويتوقف، وسيشعر بعد فترة من الزمن مدى الأثر النفسي لذلك في نظرته إلى الحياة لأن المعاني الإيجابية ستنجذب إليه، وقد كان من أخلاق النبي كما يصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهيه، فإن رأى حسناً أكثر من ذكره ليرسخه في نفسه وفي نفوس الناس، وإن رأى قبيحاً قلل من ذكره حتى لا تنطبع صورته في القلوب.
إن القلب هو مستودع الإنسان فمن ملأه خيراً ورضاً كان له الخير والرضا وحقق الراحة والسعادة وصار موضع ثقة الناس ومحبتهم وبذلك يدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة مثل الصحابي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة رغم أنه لم يكن كثير صيام أو صلاة، كان فقط يبيت وليس في قلبه غش لأحد..
"رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا"..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

الأحد، 19 ديسمبر 2010

عالم ما بعد ويكيليكس

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يمكن النظر إلى زلزال ويكيليكس الذي هز العالم وما زالت توابعه تضرب شرقاً وغرباً في مستويين من الرؤية..

فهناك نظرة تكتيكية يهتم بها السياسيون وفيها تطرح التساؤلات حول الفاعل والدوافع والتوقيت، ونحو هذه الأسئلة التي تتعامل مع الحدث من حيث ظرفيته ومحدوديته، وفي هذا المستوى التكتيكي من الرؤية يمكن أن نتفهم وإن بقدر الحديث عن فرضية مؤامرة، ويمكن تقبل وجاهة الرأي القائل بأن وثائق ويكيليكس لم تأت بجديد، فما الجديد مثلاً في أن نعرف بأن مبارك يكره حماس، أو أن نعرف بأن الجزيرة تخدم الأجندة السياسية لقطر، أو أن نعرف بأن هناك قلقاً خليجياً من الدور الإيراني، وما الجديد الذي تأتينا به وثيقة تقول بأن الكيان الصهيوني يحول دون امتلاك الدول العربية لأسلحة متقدمة، أو وثيقة أخرى تصف أردوغان بأنه إسلامي التوجه أو وثيقة تقول بأن الفاتيكان يعارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي..

بالتأكيد ليس كل الوثائق بهذه الدرجة من التبسيط، ولكنها في غالبها تأتي في سياق التوقعات، وجديدها أقرب إلى الكمية منه إلى النوعية، فهي إما توثيق لما كان معروفاً، أو أنها تعزيز لتوقعات واتجاهات مسبقة..

من المسموح أيضاً في مستوى النظرة المرحلية أن يثير البعض علامات تشكيك، فمن يصدق أن ما نشرته ويكيليكس هو كل ما تخفيه أمريكا عن العالم، وأنه لا يوجد في دهاليز سياستها سوى هذا القدر من الخبايا التي يمكن التنبؤ بأكثرها حتى دون وثائق، وأن القوة العظمى لا تتبع وسائل قذرة غير معلنة لإضعاف خصومها وضمان بقاء هيمنتها على العالم مثل دعم تقسيم الدول، وتغذية بؤر التوتر..كما أنه من الوجاهة أن يتساءل البعض عن سر هذا الغياب الملحوظ للوثائق التي تدين الكيان الصهيوني، وهل هي صدفة ألا تكشف مئات آلاف الوثائق التي نشرت حتى اللحظة عن أي أسرار ذات قيمة في علاقات الكيان وأفعاله..

كل ما سبق من تساؤلات وتشكيكات يمكن طرحها في النظر التكتيكي للأمور، ولكن إذا تجاوزنا النظرة الجزئية إلى النظرة الاستراتيجية وجردنا القضية من ملابساتها الوقتية التي سيتجاوزها العالم بعد حين من الدهر مهما بدت الآن قويةً ومتفاعلةً..فإن في نشر كل هذا المقدار الهائل من الوثائق أهميةً استراتيجيةً سيكون لها تداعياتها وتأثيرها على خارطة العالم.ولن يقلل من هذه الأهمية كل ما يثار من تشكيك وشبهات وملابسات ظرفية آنية..

الفكرة الأهم في قصة ويكيليكس هي أن يصير بإمكان فرد واحد أو مجموعة قليلة من الأفراد الحصول على كل هذا القدر من الوثائق السرية بطريقة أو بأخرى، وأن ينجح هذا الفرد الواحد في أن يوقف العالم كله على قدم واحدة وهو يترقب ويحبس أنفاسه..هذا التطور الذي جاء بفضل التقدم التقني وتحول اعتماد العالم الرئيسي على شبكة الانترنت في التوثيق والأرشفة من شأنه أن يهز ثقة العالم في القدرة على الاحتفاظ بالأسرار مدةً كبيرةً من الزمن..وهو الهدف الذي يبدو أنه يحقق نجاحاً ملحوظاً بعد عاصفة ويكيليكس

اهتزاز ثقة العالم بالقدرة على الاحتفاظ بالأسرار في زمن الفضاءات المفتوحة سيدفعه لأن يكون أكثر حذراً وأكثر مراقبةً لأفعاله وأقواله حتى تلك التي في السر ، لأنه يعلم أن ما هو سري اليوم سيصبح معلناً عما قريب، وحين تستشعر الكيانات السياسية هذا التخوف فستكون أكثر تحملاً للمسئولية ولن يكون الفرق كبيراً بين المواقف المعلنة والمواقف السرية، مما سيشكل انتصاراً للشفافية والوضوح..

إن ويكيليكس ليس وليد ذاته ولكنه خطوة طبيعية في سياق التقدم البشري الذي نجح في اجتياز حدود وحواجز لم يكن أحد يحلم بها، مما جعل العالم قريةً صغيرةً يعلم من في أقصاه ما يحدث في أدناه لحظة وقوعه، وصار بإمكان أي واحد أن يتواصل مع العالم عبر شاشة صغيرة وهو في بيته، وبعد أن كان الناس يشكون من قلة المعلومات، صاروا حائرين أمام فيضان المعلومات، وصار التحدي هو تنظيم هذا الطوفان المعرفي وترتيب الأولويات للاستفادة من الأهم قبل المهم..

إن المسيرة البشرية تتقدم نحو مزيد من الانفتاح فمساحات الظل تتقلص بينما تغمر شمس المعرفة مزيداً من المساحات لتبدد ظلمتها، ففي جنح الظلام يمكن للإنسان أن يفعل ما يحلو له دون حسيب أو رقيب، وقد أتى على الإنسان حين من الدهر كانت ترتكب فيه أفظع الجرائم وتتعرض الشعوب للإبادة ثم يغسل المجرم يديه ويخرج مبتسماً دون أن يدري العالم شيئاً عن جريمته، ونحن لا نتحدث عن أزمان سحيقة وحسب، فبالأمس القريب فقط عام 1948 جاءت عصابات الصهاينة إلى فلسطين وشردت شعباً بأكمله دون ضجة كبيرة، ولم تعلم بعض الشعوب القريبة بذلك إلا بعد أشهر..لكننا اليوم وفي حرب غزة مثلاً فإن أحداثها كانت على الهواء مباشرةً على مدار الساعة، وقد أدرك الصهاينة هذا التحول الكبير مما دفع أحد جنرالاتهم إلى القول إنه لو قدر أن تغطى نكبة عام 48 إعلامياًُ كما غطيت حرب غزة لما قامت إسرائيل أصلاً وهذه المقولة تقترب من الحقيقة ، لأن تسليط الضوء على المجرم يحد من حركته، ويدفعه لمراجعة حساباته..

إن تسليط الضوء على المشكلات هو أول الطريق إلى حلها، وكلما تقلصت دائرة السرية والغموض كلما كان ذلك أقرب للشفافية، فانكشاف الأسرار يفرض على الأفراد والمؤسسات والدول سلوكاً جديداً، ويعزز دور الشعوب والمؤسسات المدنية في المحاسبة والمساءلة، لذلك فإن أصحاب المشاريع اللا أخلاقية هم أكثر الناس ميلاً إلى الانزواء في الظلام..

إن البشرية تحث الخطى نحو عصر الفضاءات المفتوحة، ودائرة الظلام والأسرار والكواليس آخذة في الانحسار، والمستفيد الأول من ذلك هو الإنسان، لأن هذه التحولات تقربنا أكثر من الشفافية والمحاسبة والعدالة..

إننا الآن في عصر الانترنت والفضائيات والجزيرة مباشر وغوغل وويكيليكس، ويخلق ما لا تعلمون..

أعلم أن الصورة ليست ورديةً بالكامل، وأنه لا يزال في العالم الكثير من الظلام والظلم والفساد، ولكنها خطوات مهمة في الطريق لا يدرك أهميتها إلا من يدرس تاريخ البشرية ليعرف كيف بدأ الخلق وإلى أي حد وصلت البشرية من الحضارة..

ربما تكون هناك أهداف سياسية وراء تسريبات ويكيليكس، وربما لا يكون، ولكن المؤكد أن الزبد يذهب جفاءً وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأياً كان الأمر فإن الشعوب لم تعد مغيبةً مثلما كان الحال في عصور خلت، واتجاه الحضارة هو نحو تقليص دائرة الأسرار والخبايا ليكون العمل تحت ضوء الشمس، فيوضع كل شيء تحت عين الرقيب، ويعلم المسئولون أنهم محاسبون فيعدون للسؤال جواباً..

ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المجرمون..

والله تعالى أعلم..

توظيف الدين في السياسة
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
وكأنه قد تحول إلى تقليد راسخ أن تستهل جماعات سياسية دعوة الناس إلى فعالياتها المختلفة بالآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"..
أغلب ظني أن من يستدل بهذه الآية فإنما يفعل ذلك بحسن نية، وهذا ما شجعني لأسدي واجب النصيحة لعل هذه الكلمات تلامس قلوباً حية، ولا خير في أقلام لا يسخرها أصحابها لتصحيح المفاهيم ونصح الأمة..
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوصي أصحابه في الغزوات بالقول:"إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" هذا الحديث الصحيح فيه فائدة عظيمة، وهي ألا ينسب الإنسان أفعاله إلى الله ولكن ينسبها إلى نفسه، فلا يقل إن الله ورسوله يدعوكم، ولكن أنا الذي أدعوكم، فإذا أخطأ كان الخطأ على نفسه ولم يكذب على الله
إن الله ورسوله لا يدعوان إلا إلى حق وخير، أما أنشطة الأحزاب فهي خليط من الحق والباطل والأهواء والتعصب ..ومن الخطورة الشديدة أن نقدم أنفسنا للناس وكأننا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو أن نجعل أنفسنا التطبيق النموذجي للإسلام، فهذا من الافتراء على الله "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً"..
خطورة الخلط بين التعصب الحزبي، وبين الدين هو أن تصير نظرتنا إليهما واحدةً فتصير الوسيلة غايةً قائمةً لذاتها، ونضع المقدس والمدنس، أو الإلهي والبشري في سلة واحدة، ونجعل كل ما هو حزبي من الدين بالضرورة، وكل نشاط من أنشطة الجماعة لوناً من ألوان العبادة، وإذا صارت هذه هي نظرتنا فليس مستغرباً أن تتحول المساجد إلى منابر لشيطنة الخصوم وبث الأحقاد والتعصب والفرقة والسب والشتيمة، لأن الانتماء للحزب في نظرنا آنذاك هو عين الانتماء للدين، ومعاداته معاداة للدين، فتصبح المآذن منبراً يذكر فيها اسم الحزب من دون الله ويدعى من خلالها إلى نشاطاته الخاصة، ويزعم أن الداعي هو الله ورسوله.
إن من شأن استعمال المساجد لإقامة الأنشطة ذات الطابع الحزبي الخالص أنه يعطي المبرر للآخرين لفعل الشيء ذاته، ولا يستقيم هنا أن نقول إننا أولى بالمساجد من غيرنا
فالمساجد مؤسسات عامة وليست خاصةً بجماعة دون غيرها. ومهما كانت قناعاتنا الذاتية بصواب منهجنا فإننا لا نستطيع أن نفرض رؤيتنا على الناس وأن نجبرهم على التفكير بطريقتنا وأن نكون أوصياء عليهم..
والجماعة مهما كان ثقلها الاجتماعي فإنها تظل جزءً من المجتمع وليس بديلاً عنه، وسيظل في المجتمع من يفكر بطريقة أخرى، فليس من حقنا أن نتصرف وكأننا وحدنا في الساحة أو أن نحلل لأنفسنا ما نحرمه على الآخرين..
إن احتكار الدين خطير ومدمر لأن الحزب مهما كان على درجة من الهوية الإسلامية فإنه يظل جهداً بشرياً ناقصاً، ولا يجوز أن يضفي عليه أصحابه قداسة الدين وكماله..
ربما يظن بادي الرأي أن حديثي هذا يصب في نفس اتجاه من يطالبون بفصل الدين عن السياسة وقصر المساجد على قضايا الأخلاق الفردية والأحكام الجزئية..
والفرق كبير، فأنا لا أدعو إلى فصل الدين عن السياسة، ولكنني أدعو إلى عدم إلباس الهوى الحزبي لباس الدين..
والسياسة بمعناها الحقيقي الواسع وهو رعاية شئون الناس من صميم دور المسجد، فالمساجد ليست لمناقشة تهذيب السلوك الفردي وحسب، ولكنها لرعاية مصالح الناس الجماعية، وكل دعوة إلى الخير والصلاح والعدل هي من وظيفة المساجد، حتى وإن سماها الناس سياسةً، فالإسلام لا يقر هذه التقسيمات التي ابتدعناها من عند أنفسنا بأن هذا دين وهذه سياسة، وبهذا المعنى فالإنسان ليس مخيراً للحديث في السياسة أو تركها، ولكنها فريضة إلهية بأن يصدع بكلمة الحق من على منبر المسجد فيقول للظالم أنت ظالم وينهى عن الفساد والمنكر، وينتصر للمظلوم، ويأمر بالخير، بل ويدعو إلى الثورة والعصيان إن اقتضى الأمر، وهذا هو دور المسجد الحقيقي
المهم في كل هذا أن تكون الدعوة منطلقةً من الشعور العام بالمسئولية، وألا تكون بدافع العصبية الحزبية، وانتقائيةً وألا يكون مرتهناً لتوجيهات من أطراف سياسية، بل يتناول القضايا التي تهم الناس في مجموعهم، فينتقد الظلم من حيث كونه ظلماً ولو على حزبه..
إذا كان متفهماً في سنين خلت أن تلجأ الجماعات الإسلامية إلى المساجد كمتنفس للتعبير عن أفكارها ومواقفها في ظل تضييق الحكومات وانعدام المنابر البديلة، فإن الواقع قد تغير اليوم، فهناك الفضائيات والمواقع الالكترونية والصحف والمرافق العامة لإقامة الأنشطة، فلم يعد المبرر قائماً لإغراق المساجد بالبيانات والإعلانات والأعلام وصور الشهداء، واستعمال مكبراتها للدعوة إلى الأنشطة، وإقامة الاحتفالات الحزبية فيها.
وحتى لا يحرف الكلام عن مواضعه فإنني أعيد تأكيد القول بأنني لا أقصد تفريغ المساجد من الأنشطة الدعوية والاجتماعية والتثقيفية، فهذه ظاهرة إيجابية ينبغي تعزيزها، ولكن ما أقصده هو تلك الأنشطة ذات الطابع الحزبي الصرف وهي التي من شأنها أن توغر صدور المخالفين وتعزز الفرقة، وقد جعلت المساجد لتوحيد المسلمين لا لتفريقهم..
ما أجمل أن نعيد للمساجد سكينتها ووقارها فيدخل المرء إلى بيت الله وهو متجرد من صخب الحياة وضجيجها ويستشعر أن هناك فسحةً في الحياة للخشوع والمناجاة..
أرجو أن تصل كلماتي هذه إلى أولي الأمر، وقد علمت عنهم تفاعلاً إيجابياً في مرات سابقة، فيكون هناك قرار عملي بتحييد المساجد عن الأنشطة الحزبية، وأن نستثمرها لتوعية الناس وترشيدهم في أمور دينهم ودنياهم، حتى نحقق قول الله عز وجل:
"وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً"..
والله أعلى وأعلم..

الجمعة، 10 ديسمبر 2010

مناقشة الأفكار لا مناقشة الأشخاص
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
قال لي أحدهم: من أنت وما الذي تفهمه حتى تكتب حول القرآن..قلت له:وما الذي كتبته حول القرآن؟ قال لي:قرأت لك عنوان مقالة التعامل السنني مع القرآن، وعنوان مقالة أخرى حول غير المسلمين وهل هم كفار دائماً..قلت له:وما هي الفكرة التي فهمتها من هذين المقالين؟ قال: لم أقرأ محتواهما لأنني مشغول وحكمت عليهما من العنوان فقط..قلت -ولكن في نفسي هذه المرة-:خسارة على وقتك الثمين أن تضيعه في القراءة، فالقراءة ربما أصبحت من شغل الفارغين، أما أمثالك فهو يفهم كل شيء، وهناك في حياته أولويات أهم من القراءة والتعلم..
ما أحزنني ليس هو أن ينتقدني صاحبي، فنحن للنقد البناء أحوج إلينا من المدح والثناء لأن النقد هو الذي يبصرنا بمناقصنا فيدفعنا إلى تجنبها فنتطور للأفضل، ونحن لا نزعم أن أفكارنا هي الحق المبين، بل هي خليط من الخطأ والصواب، وربما كان خطؤنا أكثر من صوابنا، ولكن ما يحزنني هو شخصنة النقد، فلو أنني كتبت نفس الكلام دون أن أغير حرفاً واحداً ولكنني زعمت أنه لأحد جهابذة العلم الذين يقتنع بهم صاحبي وأمثاله لأثنى عليه عبارات المديح وتعجب من هذا الفهم العميق والفقه المستنير، ليس بالضرورة لروعة الأفكار ولكن لأن التعامل مع الشخص وليس مع الفكرة، فإن نال الشخص رضاهم أحاطوا كل أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته بهالة من القدسية، ووضعوه في موضع لا يقبل المراجعة والنقد، ومثل هؤلاء لا ينبغي أن يسرني حتى ثناؤهم ومديحهم، لأن أحدهم لو مدحني يوماً فسيكون مدحاً لشخصي، وليس لفكرتي، وقد سبق لي أن انتقدت من يتوقف تفاعلهم مع المقالات على قولهم (شكراً كلامك رائع وبارك الله فيك) دون مناقشة الفكرة..فهؤلاء مثل هؤلاء تماماً لا يقرءون ولا يفهمون، وما يصنع الفرق بينهم هو موقعهم من شخص الكاتب، فإن كان الكاتب متناسباً مع مزاجهم كان مدحاً، وإن كان هناك موقف شخصي أو هوى خفي كان ذماً.والأمران هما وجهان مختلفان لعملة واحدة من الفراغ الفكري.
إن من يناقش الفكرة لا يهمه شخص قائلها إن كان عالماً كبيراً أو مغموراً صغيراً، فهو يدور مع الحق أينما دار، وهو لا يعرف الحق بالرجال، ولكنه يعرف الرجال بالحق وفق المقولة الخالدة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، كما أنه لا يتعامل مع الناس بمنطق الثنائية والحدية فإما قبلهم جملةً وإما ردهم جملةً، فكل يؤخذ منه ويرد، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ منه ويرد في الشئون الدنيوية، وعصمته هي في الوحي والدين وليس في الأمور الحياتية أو التكتيكات العسكرية والسياسية التي كان يتراجع عن رأيه فيها كلما تبين له رأياً أصوب كما فعل في موقع القتال في بدر أو في تأبير النخل..
إن أمارة النضج الفكري أن نتعامل مع الفكرة مجردةً مفصولةً عن الشخص، وألا نتعامل مع الأشخاص بنظرة إما مقدس وإما مدنس، بل نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وإن أخطأ إنسان في موضع فهذا لا يعني أن نصدر عليه حكماً عاماً ونعلن القطيعة الأبدية معه، فربما كان رأيه في موضع آخر هو عين الحكمة.ونفس الشيء في الجانب المقابل فأن تحب إنساناً لا يعني أن تقدسه وتقلده تقليداً أعمى وتتعصب له، بل ينبغي أن تظل هناك مسافة فاصلة بين الحب الشخصي له وبين مناقشة أفكاره التي تصيب وتخطئ..
وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم لم يتخلوا عن ملكتهم النقدية حتى في التعامل مع خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم فهم لم يكونوا في موقف المتلقي السلبي، ولكنهم كانوا يناقشونه في كل ما يقول ويتساءلون ويتعجبون وحين يتبعوه فإنما على بصيرة، والأمثلة على ذلك يضيق المقام بذكرها فهي بالآلاف، ويكفي أن يطالع أحدنا أحد كتب الصحاح ويتأمل طريقة الصحابة في التفاعل مع أقوال النبي.فإذا كان هذا حال الصحابة مع النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى فكيف يريد منا البعض أن نبيع عقولنا لمن هم أدنى من النبي صلى الله عليه وسلم بكثير، وأن نقبل كل ما يقولون دون مناقشة أو تردد، وأن نكفر بنعمة الله علينا الذي وهبنا عقولاً تفكر وتميز وكرمنا بالإرادة والاختيار..
لقد ضاق صدري بقول أحد أصحابي-وهو صديق عزيز على المستوى الشخصي ولعله يقرأ هذه المقالة- وهو يعترض على قولي إنني غير ملزم بأن أقبل بكل ما اجتهد به القرضاوي، وكان رأيه أن أقبل بالقرضاوي على علاته لأنه قضى سبعين سنةً من عمره في العلم والتأليف، ولأنني لست مؤهلاً لأناقش أفكاره.قلت له: لقد تعمدت أن أذكر اسم القرضاوي تحديداً لأنني أكن له محبةً وتقديراً، ولكن هذا لا يقتضي أن أتخلى عن ملكتي النقدية، وأن أتحول إلى آلة حفظ وتسجيل، ولا أظن أنه سيسر القرضاوي أو غيره من العلماء الغيورين على الأمة أن يروا جيل الشباب من الأمة جيلاً مقلداً متبعاً لا يناقش ولا يبدع ولا يجدد، ومهما بلغ علم أحد من البشر فهو لن يصل إلى المنتهى، وسيظل دائماً بإمكان الخلف أن يضيفوا لبنةً ويثروا ما جاء به السلف.
صحيح أن أمثال هؤلاء العلماء لهم فضل الأسبقية وهم بالتأكيد قد أحاطوا بمسائل لم نحط بها علماً بعد، ولكن هذا ليس مسوغاً لنقبل آراءهم دون مناقشة، واحترامنا لعلمهم وكبر سنهم يكون بأن نطلب منهم باحترام أن يبينوا لنا الأدلة التي يستندون إليها، وألا نسارع إلى مخالفتهم قبل أن نفهم حيثيات اجتهاداتهم وأن نفترض أنه قد يتبين لنا مستقبلاً ما قد تبين لهم، ولكن كل هذا لا يعني أن آراءهم ملزمة وأنه لا يحق لنا أن نفكر في اتجاه آخر ونستطلع آفاقاً جديدة..
إن سليمان عليه السلام الذي آتاه الله الملك والحكم وعلمه من كل شيء لم يجد حرجاً في أن يستمع للهدهد وهو يقول له:"أحطت بما لم تحط به"، ولا يوجد إنسان أقل من الهدهد، فربما تبين لطفل صغير ما غاب عن عالم كبير في إحدى المسائل، وقد شاءت حكمة الله أن يوزع فضله على عباده وألا يحتكره شخص لوحده وما كان عطاء ربك محظوراً.
إن الله رب العزة تعالى في سمائه وهو الذي لا يسئل عما يفعل قد راجعته الملائكة فقالوا له أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وهم على يقين بأن الله لا يقضي أمراً إلا لحكمة ولكنهم ناقشوا وتساءلوا حتى تستوعب أفهامهم هذه الحكمة، ولم يكن الجواب الإلهي قمعياً، ولكنه كان بالإقناع أن أراهم علة خلق آدم حين علمه الأسماء كلها وأمره بأن ينبئهم بها فكان التسليم عن علم لا عن جهالة:سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا..فلماذا يريد البعض أن يعطي للبشر ما لم يعطه الله لنفسه فلا نناقش ولا نتساءل..
يبرر البعض ثقافة التقليد الأعمى بما يسميه مبدأ السمع والطاعة والجندية أو تقدير العلماء أو الحفاظ على وحدة الصف وغير ذلك من التبريرات التي يضعها في غير موضعها..ومثل هذا الفريق يصور للإسلام تصويراً مشوهاً على نحو قمعي إجهاضي لكل ذي موهبة وفكر، فهو لا يرى في الإسلام مبدأ الشورى العظيم الذي نزلت سورة كاملة باسمه، ولا يرى مئات الآيات التي تدعو إلى التفكر والتدبر والتعقل، ولا يفقه الآيات التي تتوعد بالعذاب الأليم من يعطل عقله ويطيع سادته وكبراءه..
إن هذه الثقافة المنغلقة الجامدة هي من الأسباب الرئيسة لحالة التأخر الفظيع الذي تعاني منه الأمة، فالناس قد باعوا عقولهم لسادتهم وكبرائهم، وإذا تبدى لهم أمر يخالفه منطق العقل والفطرة السليمة سارعوا إلى إجهاض هذا النور وأوهموا أنفسهم بأن هذا الأمر قد تنبهت له القيادة الحكيمة الرشيدة وأنها أوعى منهم و لديها من الخبراء وأصحاب الرؤية الثاقبة ما يحول بينهم وبين الخطأ، وبذلك تكرس الاستبداد والرؤية الأحادية وتجذر الإرهاب الفكري وقبرت العقول والمواهب، وساد الجهل والظلمات..
إننا لن نجني من هذا التفكير السقيم إلا مزيداً من التأخر والانتكاس، ولن تكتب لنا نهضة أو صحوة ونحن نقتل الرأي الحر، ونضع الأغلال والقيود لمحاربة التفكير والإبداع والتجديد، ونجهض ملكة النقد عند شبابنا، وإصلاح أحوالنا لن يتأتى إلا بثورة فكرية عارمة على الجمود والوثنية الفكرية، وتشجيع الشباب على المناقشة والمراجعة وتحطيم التماثيل وكسر المسلمات الخاطئة، وأن يوضع كل شيء تحت دائرة التساؤل والتقويم، وألا يكون أحد فوق النقد ولا تحته.
حينها فقط سنبدأ سلوك طريق النهضة والتقدم وسيكون لنا مكان بين الأمم..

والله أعلى وأعلم..

درس مونديال قطر..الإنجاز ممكن

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

رغم أنني لست هاوياً لمتابعة مباريات كرة القدم بما في ذلك مباريات كأس العالم التي تشرئب لها أعناق الملايين، ورغم أنني لم أركل كرة القدم في حياتي سوى بضع مرات أدخلت في إحداها هدفاً في مرمى فريقي بالخطأ، ورغم أنني لا أفضل الانجراف مع التيار والكتابة تحت ضغط تهويل الجزيرة وغيرها.. رغم كل هذه العوامل إلا أنني وجدت في فوز قطر باستضافة مونديال 2022 درساً يستحق التعليق..

الدرس الأهم الذي أراه في هذا الفوز هو أن العرب قادرون على الإنجاز، وعلى أن يكون لهم مساهمة فاعلة في ميدان ما في الأسرة الإنسانية..

لا يضر أن يكون هذا الإنجاز استضافة لعبة كرة، وليس إنجازاً علمياً أو تكنولوجياً.. فالمهم أنه إنجاز وقيمته أنه يأتي في مرحلة تاريخية صعبة تسود فيها قيم الإحباط والإحساس بالعجز وبعدم القدرة على فعل شيء، وهذا الشعور السلبي المتمكن من الإنسان العربي هو في ذاته عامل تدمير إضافي يكرس واقع التأخر العربي ويفقد الإنسان الثقة في التغيير والنهضة ويكبله بقيود من البرمجة السلبية.

إن شعور الإنسان بأنه قادر على تحقيق الإنجاز هو خطوة مهمة في طريق النهضة، ولا يمكن أن تتم النهضة دون هذا الشعور، إذ كيف نتوقع من إنسان مثقل بمشاعر اليأس والإحباط يرى الدنيا بمنظار أسود قاتم أن يؤدي دوراً حضارياً وأن يكون له إسهام في المسيرة البشرية، أما حين يستعيد الإنسان الثقة في قدرته على الإنجاز وتسيطر عليه المشاعر الإيجابية فإن هذه المشاعر تحرره من البرمجة السلبية وتصوغ منه إنساناً فاعلاً متحرراً من أغلال الهزيمة وأوهام العجز فينشط من عقاله وينطلق إلى الحياة للإبداع والإعمار..

إن درس مونديال قطر مهم في هذا الاتجاه، فأن تتمكن دولة صغيرة في مساحتها الجغرافية وعدد سكانها من الانتصار في المنافسة مع دول عظمى بحجم الولايات المتحدة واليابان وتفوز بتنظيم أضخم حدث رياضي على أراضيها، فهذا من شأنه أن يعيد الثقة للعرب بأنهم قادرون على الإنجاز إن تحلوا بالإرادة وحسن الإدارة، وأن تفوق الأمم الأخرى عليهم ليس قدراً لا فكاك منه.

كما أن تمكن هذه الدولة الصغيرة من تحقيق ما لم تستطع الولايات المتحدة بإمكاناتها الجبارة تحقيقه فيه إشارة رمزية إلى أن عصر القوة والعضلات والديناصورات يتراجع، بينما يتقدم عصر العلم والفكر والإنسان، وأن حيازة التقدم ممكن حتى وإن لم نكن الأقوى عدةً وسلاحاً..

إن حال الأمة الإسلامية في هذه المرحلة التاريخية شبيه بقصة الفيل الذي قيدت قدماه بسلسلة حديدية قوية فحاول أن يكسرها لكنه لم يستطع ومع تكرار المحاولة وتكرار الفشل يئس الفيل من قدرته على التحرر من قيده واستسلم، فلما رأى صاحبه هذا اليأس استبدل سلسلةً خشبيةً بالسلسلة الحديدية، وكان بإمكان الفيل أن يكسر السلسلة الجديدة بمنتهى السهولة، لكن برمجته السلبية وتراكم تجارب الفشل السابقة جعلته لا يفكر مجرد تفكير بالمحاولة، وحين سأل الطفل أباه لماذا لا يحاول الفيل الهرب وهو قادر عليه: أجاب أبوه:أنا أعرف أنه قادر على الهرب، وأنت تعرف، ولكن الأهم أن الفيل نفسه لم يكتشف بعد قدرته الذاتية على التحرر.

إن الشعوب العربية قد أثقلتها تجارب الفشل حتى أصابتها بشعور من الإحباط أعاق قدرتها على الإنجاز، لذلك فإن الأمة في أشد الحاجة إلى ما يعيد تذكيرها بقدراتها ويزرع الثقة في نفوسها، أما الإفراط في الحديث عن السلبيات، وأننا أمة عاجزة ضحكت من جهلها الأمم فهو يؤدي إلى نتائج عكسية ويفاقم المشكلة ولا يحلها.

إن العرب يملكون كل عناصر القوة المادية بفضل الله، فهم لا ينقصهم أعداد بشرية أو ثروات طبيعية أو مساحة جغرافية..كل ما يلزمهم هو الإرادة وحسن الإدارة وامتلاك رؤية للتقدم والإنجاز، ونحن لا نطالب بانقلابة كاملة بين عشية وضحاها فهذا ليس من الواقعية في شيء، ولكننا نطمح إلى البدء في مراكمة الإنجازات، ولا يضر أن تكون البداية بخطوات صغيرة، المهم أن نبدأ وأن نتقدم، وأن تكون إنجازاتنا راسخةً لا تهزها الرياح العاتية.

لا أميل إلى الاستفاضة كثيراً في قصة المونديال، ولكنني أدعو إلى الاستفادة من الروح التي بثها هذا الفوز، وتصديرها إلى مجالات الحياة الأخرى علميةً واقتصاديةً وسياسيةً من أجل إيجاد الإنسان العربي المقبل على الحياة بإيجابية وثقة والذي ستقوم على كتفيه نهضة شاملة تخرجنا من الظلمات إلى النور..

والله غالب على أمره..