أحمد أبورتيمة
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"بشروا ولا تنفروا".
الإنسان بطبعه يحب البشرى وتطمئن إليها نفسه، وتمنحه دافعاً قوياً للعمل، بينما التنفير يعزز مشاعر الإحباط واليأس لديه ويصيبه بالعزوف عن القيام بدوره في الحياة.
هناك من الغيورين على الدين وعلى الأمة تدفعهم غيرتهم إلى المبالغة في تصوير انتشار الفساد والانحراف وأن الناس قد هلكت وأننا في زمن الفتن..
لا شك أنها روح خيرة هي التي تدفع هؤلاء إلى التألم لأحوال الناس، ولكن هذه الروح الحماسية بحاجة إلى ترشيد حتى تؤتي أكلها..فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"من قال هلك الناس فهو أهلكهم"..
إن تصوير أحوال الناس بأنها ميئوس منها يساهم وإن لم يكن بقصد في المزيد من التردي، وبذلك نتحول من الدور الدعوي الإصلاحي المفترض إلى الدور التيئيسي الإفسادي..فحين نقنع الناس بأن الفساد قد عم والبلاء قد طم فإننا بذلك نعزز مشاعر الإحباط واليأس في قلوبهم، وسيقوى سلطان الشيطان على ضعفاء النفوس إذ سيوسوس إليهم: ما دام الناس كلهم قد فسدوا فلا أمل فلنكن مثلهم، وسيتمادى الفاسد في فساده وسيبرر لنفسه بأنه واحد من الناس ولن يستطيع أن يغير العالم بمفرده. وبذلك نكون قد ساهمنا بحماستنا الانفعالية الخالية من الفقه في الهبوط بالمجتمع دركات أخرى بدل انتشاله..
أما حين نبشر الناس ونبث في نفوسهم الأمل ونعزز من ذكر الشواهد والأمثلة التي تدل على وجود الخير في المجتمع فإننا بذلك نستثير كوامن الخير في نفوسهم ونشجعهم على المنافسة والمسابقة في فعل الخيرات ونرقق قلوبهم ونعمق مشاعر المحبة وحسن الظن بينهم.
وهذا المعنى نجده في طريقة معالجة القرآن الكريم لحادثة الإفك إذ عاتب المؤمنين فقال لهم: "لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً"..فحسن الظن ليس سذاجةً أو غفلة كما يظن بادي الرأي بل هو أسلوب ناجع للطمأنينة القلبية والصحة النفسية، وحين يتعمد الإنسان تغافل الجوانب السلبية ويركز على الجوانب الإيجابية المحيطة به أو بتعبير القرآن (يذكر نعمة الله) أو (يحدث بنعمة ربه)..فإنه سيبرمج نفسه برمجةً إيجابية وسيملأ قلبه بمشاعر الحب والثقة والأمل مما سيمنحه قوةً روحيةً لأداء رسالته في الحياة.
لا نقصد بالتبشير أن ندفن رءوسنا في الرمال وأن نتغافل عن أخطاء المجتمع، فالأخطاء لا بد من مواجهتها وتصحيحها، ولكن ما نعنيه أن الأمر بحاجة إلى موازنة وحكمة فحين تكون معنويات الناس في الحضيض يكون من الحكمة إسعافهم بجرعات من الأمل حتى ينهضوا ويواجهوا تحديات الواقع، بينما حين تكون جرعة الثقة بالنفس عاليةً عندهم فإن الحكمة هي كسر أي بذور للتراخي والكسل وذلك بتسليط الضوء على السلبيات والتركيز على نقد الذات، وربما استفدنا إشارةً من القرآن الكريم في هذا الصدد، فحين أصيب المسلمون في أحد وباتوا وهم في كلوم وجروح نزل القرآن بعبارات رقيقة لطيفة يواسيهم ويرفع معنوياتهم:"ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين"، بينما حين انتصروا في بدر استعمل القرآن في نفس سورة آل عمران تعبيراً كاسراً للنفس البشرية حتى لا يطغيها الفرح وتغتر بنفسها وتنسى ربها "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"
منهج التبشير بالخير وكتمان الشر نجده في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ففي غزوة الأحزاب حين بلغه أن بني قريظة قد نقضوا العهد معه وكان المسلمون قد زلزلوا زلزالاً شديداً وقد بلغت القلوب الحناجر فلم يكن من الحكمة أن يسمعوا مزيداً من الأخبار السيئة حتى لا يفت ذلك في عزمهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثةً من الصحابة ليتحققوا من الخبر وطلب منهم إن صح الخبر أن يلحنوا أي لا يشيعوه صراحةً على الملأ.
هذا الفقه النبوي غاب عن إعلامنا العربي اليوم فلا تجد في فضائياتنا سوى أخبار القتل والتفجيرات والاغتيالات والتهديدات والملاسنات حتى صارت كلمة خبر مرادفة لكل ما هو سلبي أما الإيجابيات من اكتشافات وإنجازات فلا تأخذ إلا مساحةً ضيقةً، وفي ذلك صدق المثل الإنجليزي الذي يقول:لا خبر هو الخبر الجيد، والمفارقة أنه بعد أن يعطي المذيع جمهوره هذه الجرعة اليومية من الإحباط والنكد يبتسم في وجوههم ويختم قائلاً: أتمنى لكم أوقاتاً سعيدة .
وهذا المنهج بحاجة إلى مراجعة من قبل أهل الإعلام إذ أن الرسالة الإعلامية ليست حشواً فقط، بل ينبغي أن تكون هناك دراسة للأثر النفسي لكل ما ينشر..
في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد حرصاً دائماً على بث المشاعر الإيجابية في نفوس الناس، ومن أمثلة ذلك ما وصفه به أستاذ البلاغة علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين قال:"كان رسول الله يحسن الحسن ويقويه، وكان يقبح القبيح ويوهيه"..وهي كلمات بليغة بحاجة إلى تأمل إذ أن فيها تركيز على الإيجابيات وتعزيز لذكرها حتى تتعمق في النفوس، وفي المقابل عدم الإفراط في الحديث عن السلبيات لمحاصرة ذكرها وحتى لا نساهم في سقيها بماء الحياة.
إن خطورة الإحباط هو أنه يكبل القدرات عن الانطلاق ويوحي للنفس بالعجز فيصنع الهزيمة النفسية الداخلية التي ستتلوها حتماً الهزيمة الواقعية، وفي هذا العصر توصل البشر إلى علم البرمجة اللغوية العصبية الذي يقوم على أساس إرسال الرسائل الإيجابية إلى العقل الباطن كطريق لتعديل السلوك، وتحريره من الرسائل السلبية التي تقيد انطلاقته..
ولما كان الإسلام حريصاً على تعزيز المعاني الإيجابية في القلوب وحماية الإنسان من وسواس اليأس والفشل فقد فتح باب التوبة مشرعاً على مصراعيه مهما بلغت الذنوب حتى ينطلق الإنسان إلى المستقبل متحرراً من عقدة الذنب وأثقال الماضي، وقد تنبه أناس من غير المسلمين إلى عظمة هذا المبدأ في الإسلام فقال كاتب هولندي يدعى فرانز ستال: (إن التوبة في الإسلام هي وسيلة تغيير الأفراد أنفسهم وهي سلاح خلقي عظيم).
إذا أردنا أن نصلح المجتمع فإن علينا أن نعلم أن أي واقع لن يخلو من عناصر إيجابية وأخرى سلبية، ومهمة المصلح لا تبدأ من الصفر بل هي تنبيه الناس إلى الإيجابيات الموجودة بينهم وتقويتها، وتقليل السلبيات ومحاصرتها، أي أن نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، والقرآن الكريم له منهج رائع وهو أنه يبدأ بذكر الإيجابيات ويؤخر ذكر السلبيات حتى وإن كانت الإيجابيات قليلة والسلبيات هي الغالبة، فحين تحدث عن أهل الكتاب ونحن نعلم أن أكثرهم ضلوا الطريق، إلا أنه بدأ بذكر القلة التي ظلت ثابتةً على إيمانها فقال:"منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"، وحين تحدث عن معاملاتهم بدأ بالإيجابي وهو من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، وبعدها ذكر الفريق الثاني الذي لا يحافظ على الأمانة وهو من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً رغم أنه الفريق الأكثر عدداً.
بالعودة إلى منهج القرآن في التعامل مع حادثة الإفك، وهي قضية حساسة نواجه مثلها كثيراً في حياتنا، فحين نتأمل سورة النور نجد أن معالجة القرآن تركزت في المقام الأول على تفاعل الناس مع الإشاعة وليس على مضمون الإشاعة فلم يكن الجزء الأكبر من المعالجة القرآنية هو نفي وقوع الحادثة ونحن نعلم يقيناً أنها إفك وافتراء على أمنا الطاهرة المطهرة بنت الصديق رضي الله عنها.لكن أولوية القرآن كانت هي تحذير الناس من مجرد الخوض في مثل هذه الشائعات مستقبلاً:"إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم"، "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً". وذلك لأن إشاعة الحديث عن الفاحشة هو أخطر من الفاحشة ذاتها على افتراض أنها وقعت، فلو ضعفت نفس إنسان وعصى الله في السر فإنه يبوء بإثمه لوحده بينما تبقى الصورة العامة للمجتمع ناصعةً مشرقةً باعثةً للأمل، أما تلقي الناس لمثل هذه الأحاديث بألسنتهم وتداولها في مجالسهم فإن ضرره يطال المجتمع بأسره وذلك لأنه يهيئ الأجواء للمزيد من الانحرافات، إذ تتعزز الأخيلة والخواطر المريضة التي تزين لصاحبها البحث عن الحرام ، كما أن هذا الحديث يعدم ثقة الناس بعضهم ببعض، ويعزز الريبة والشك ويقتل مشاعر الحب والخير في نفوسهم، مما يؤدي بالمجتمع إلى الهلاك.
والشروط المشددة التي وضعها الإسلام لإقامة حد جريمة الزنا يجعل الأمر أقرب إلى الاستحالة، وأن الهدف تعجيزي حتى يكف الناس عن الخوض في الأعراض، إذ أنى لزان يغلق على نفسه الأبواب أن يراه أربعة شهداء رأياً واضحاً لا لبس فيه، وفي مقابل هذا التضييق نجد أن الإسلام قد وضع حد القذف لمعاقبة من ينشر الشائعات، وفي الواقع العملي فإن تطبيق حد القذف كان على مدار التاريخ الإسلامي أكثر من تطبيق حد الزنا، أي أنه كثيراً ما نجا الفاعل من إقامة الحد، وعوقب القاذف لمجرد أنه تكلم بلسانه، وحتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو رئيس الدولة حين قال إنه رأى رجلاً يزني دون أن يذكر اسمه قال له علي رضي الله عنه: لو ذكرت اسمه لأقمنا عليك الحد، ونحن نعلم يقيناً أن عمر لم يكن ليفتري على الرجل وأنه سيكون صادقاً، ولكن ليس هذا هو مراد الإسلام، والقرآن يقول:"فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون" فمن يقذف فهو كاذب في إيمانه لأنه لم يمتثل لحدود الله وإن كان قد حدث فعلاً كما قال.
إن الإسلام يريد أن يطهر قلوبنا من التصورات السلبية والأخيلة المريضة، وألا يكون تفكير الناس نحو أرجلهم بل تنصرف همتهم إلى معالي الأمور وأن يشغلوا أنفسهم بالعمل الإيجابي المثمر الذي يجلب لهم خير الدنيا والآخرة وسعادتهما..
ولما كان الإسلام حريصاً على تعزيز معاني الخير في المجتمع فإنه قد أغلظ في تهديد المجاهرين في الذنب، وعدت المجاهرة بالذنب أعظم من الذنب ذاته لما في ذلك من دعوة صريحة للفساد وتوهين لعزائم الناس، ففي الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم:كل أمتي معافى إلا المجاهرون".
وقد فقه الصحابي الجليل أبوذر هذا المعنى العظيم، فقد أظهر عملاً صالحاً أمام الناس، ليس بقصد المراءاة، ولكن بقصد إشعار الناس بأن الخير موجود بينهم، وذلك حين كفل رجلاً قاتلاً وهو لا يعرفه وكان في ذلك تهديد على حياته، إذ أنه سيقتص منه إذا لم يرجع الرجل، وحين سئل لم فعل ذلك أجاب رضي الله عنه: حتى لا يقال ذهبت المروءة بين الناس..
إننا اليوم بحاجة إلى من يتمثل فقه (حتى لا يقال ذهب الخير بين الناس).فينطلق بين الناس مبشراً يبث الأمل في نفوسهم وييسر لهم طريق الخير بتعزيز استحضار النماذج المشرقة حتى يتخذونها أسوةً تبلغهم الطريق ، أما فقه (زمن الفتن) فإنه لن يساهم في أي رفعة أو حضارة وهو سيؤدي إلى اعتزال المخلصين لمعترك الحياة والعض على جذع شجرة بالنواجذ وترك الساحة لأصحاب المبادئ الهدامة..
والله أعلى وأعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق