الخميس، 23 ديسمبر 2010

وأما بنعمة ربك فحدث
أحمد أبورتيمة
يتكرر في القرآن الكريم كثيراً قول الله تعالى:"اذكروا نعمة الله عليكم"، وفي ختام سورة الضحى يخاطب الله نبيه: "وأما بنعمة ربك فحدث".. فما هو الأثر الإيجابي الذي يتركه تذكر نعمة الله وتحديث الناس بها على نفوسنا في ضوء علوم التنمية البشرية والبرمجة العصبية؟..
حياة الإنسان من صنع أفكاره، فمن يملؤ عقله بالأفكار والخواطر الإيجابية فإن شخصيته ستتشكل تشكلاً إيجابياً وسينظر إلى الحياة نظرةً مشرقةً مفعمةً بالأمل والحب..ومن يملؤ عقله بالخواطر السلبية فلن يرى من حوله إلا السواد والظلام لأنه ينظر إلى الحياة بمنظار أسود قاتم..
وحين يكثر الإنسان من تذكر نعم الله عليه وتحديث الناس بها فإنه يرسل إلى عقله الباطن رسائل إيجابيةً فيمتلئ قلبه بمشاعر الرضا والطمأنينة ويتحرر من الشعور السلبي بالحرمان والدونية وأن الناس أسعد حظاً منه، ومع تكرار إرسال هذه الرسائل الإيجابية فإنه سيتحول إلى شخصية إيجابية مفعمة بالنشاط والفاعلية والإقبال على الحياة..
واختلاف النظرة إلى الحياة لا يعود إلى اختلاف واقعها الموضوعي بقدر ما يعود إلى اختلاف أفكارنا تجاهها ، فتجد من الفقراء المعدمين في هذه الحياة من ينظر إليها نظرة إشراق وأمل وسعادة، وفي المقابل تجد من المترفين المتخمين بالنعمة من يكثر من السخط والشكوى والتذمر، فلو كان سبب السعادة مادياً لكان أصحاب الثراء الفاحش أولى بالسعادة من الفقير البائس الذي لا يكاد يجد قوت يومه، ولكن السبب هو في طريقة التفكير والنظر إلى الأمور.. فهناك من لا يرى في الوردة إلا الشوكة التي يخفيها جمالها، لذلك يقول المثل لا تقل تحت الورد شوك، ولكن قل فوق الشوك ورد..
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "انظر إلى مَن هو تحتك، ولا تنظر إلى مَن هو فوقك، فإنه أجدر ألاَّ تزدري نعمة الله عندك"..أي لا تقل إن فلاناً يملك بيتاً أجمل من بيتي، ولكن قل إنني أملك بيتاً، وغيري يسكن في كوخ، وهذه النظرة إلى أمور الدنيا تورث في قلب الإنسان شعوراً بالرضا والطمأنينة ، وتذكره بنعمة الله عليه، أما من ينظر إلى من هو أعلى منه فإنه سيظل في صراع نفسي عنيف، لأنه لن يرى كل النعم التي أنعمها الله عليه، وسيرى فقط ما في يد الآخرين مما سيولد في نفسه شعوراً بالسخط تجاه الحياة لأنه لا يرى منها إلا ما لا يملكه..
في علم البرمجة العصبية الحديث فإن مجرد استحضار الذكريات السعيدة هو مصدر سعادة، وفي المقابل فإن استحضار الذكريات الأليمة هو مصدر ألم..
فالسعادة والألم لا تستجلب بالمادة فقط، ولكن بالفكر أيضاً بتذكر الأحداث الماضية,, لأن استحضار الذكريات الماضية ينسخ مشاعرها إلى الوقت الحاضر..فإذا أراد الإنسان أن يحظى بساعة من السرور تذكر موقف سرور من الماضي فيحصل على نفس الشعور الذي شعر به في الماضي، وفي المقابل إذا تذكر الإنسان فقدان عزيز عليه تجددت أحزانه، رغم أنه قبل هذا التذكر لم يكن حزيناً..فالتذكر له أثر نفسي بالغ والإنسان يستطيع أن يتحكم بسعادته أو حزنه بحسب قدرته على توجيه ذكرياته وخواطره..
والقرآن يكثر من ذكر مواقف إيجابية، ويحث الناس على تذكرها، فيطلب منهم أن يتذكروا إذ كانوا أعداءً فألف بين قلوبهم، وإذ نصرهم ببدر وهم أذلة، ويطلب من بني إسرائيل أن يتذكروا إذ أنجاهم من عدوهم، واستحضار هذه المواقف الإيجابية التي تجلى فيها تأييد الله ونصره يبقي الإنسان في حالة إيجابية..
إن المداومة على استحضار نعم الله يعزز المشاعر الإيجابية في قلب الإنسان فتمنحه طاقةً هائلةً من النشاط والإقبال على الحياة برضا وطمأنينة وتتعزز فرصه في النجاح والاستزادة من النعم، لأن الشخصية الإيجابية عامل جذب للنجاح فهي ترى لكل مشكلة حلاً، وفي كل محنة منحة، ومع كل تحد فرصة، بينما الشخصية السلبية عامل طرد فترى في كل حل مشكلةً، وبذلك نفهم فهماً علمياً قول الله تعالى "لئن شكرتم لأزيدنكم"..والشكر قبل أن يكون قولاً باللسان فهو شعور قلبي بالرضا والمحبة..ومن يكن هذا هو شعوره فسينظر إلى الحياة بمنظار إيجابي وسيتحرر من النظرة القاتمة والتشويش الذهني وسيصفو تفكيره ويصبح أكثر قدرةً على التركيز واكتشاف الفرص مما سيجذب إليه فرص النجاح والاستزادة من الرزق ..
إن الشخص الإيجابي التي يكثر من تذكر نعم الله عليه في نفسه، ومن تحديث الناس بها فإنه لن يظل في قلبه موضع للحقد والحسد والضغينة، وسيتعامل مع الناس بمحبة وإحسان ظن، لأن أفكاره وخواطره لن توجهه إلا في اتجاهات إيجابية، فإن بدا من أحد الناس خطأ التمس له عذراً فإن لم يجد بحث عن سبعين عذراً، والبحث عن الأعذار للآخرين صناعة الذين تمتلئ قلوبهم بمعاني الخير فتفيض هذه المعاني على نظرتهم للآخرين، لأن نظرة الإنسان إلى الآخرين إنما هي انعكاس لما في نفسه من برمجة إيجابيةً كانت أم سلبية، فمن يكذب لا يثق بالناس لأنه يظن أنهم جميعاً يكذبون مثله، ومن يملأ قلبه بالتصورات الجنسية المريضة ستكون نظرته إلى المجتمع بأنه غارق في الرذيلة، وفسر كل حركة وسكنة تفسيراً فاسداًً يتطابق مع ما في نفسه..
إن الأفكار والخواطر التي نملأ بها قلوبنا هي التي تحدد سلوكنا في الحياة، لذلك فقد حرص النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن يظل قلبه ممتلئاً بمعاني الخير، وكان دائم الرعاية له حتى لا يتسلل إليه أي دخن فكان يقول لأصحابه: ""لا يبلِّغني أحد عن أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم القلب".. وهذه دعوة رائعة إلى البرمجة الإيجابية، فأن يتعمد الإنسان تغافل سقطات الناس فهذا ليس سذاجةً ولكنه منتهى الفطنة والذكاء لأنه يكسب صفاء قلبه وراحة نفسه، ويستطيع أحدنا أن يستفيد من هذا الحديث عملياً فلا يتحدث إلا في الإيجابيات ويتعمد تجاهل السلبيات، فلا يقول إنني أحب هذا وأبغض ذاك، ولكن يقول إنني أحب هذا ويتوقف، وسيشعر بعد فترة من الزمن مدى الأثر النفسي لذلك في نظرته إلى الحياة لأن المعاني الإيجابية ستنجذب إليه، وقد كان من أخلاق النبي كما يصفه علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يحسن الحسن ويقويه ويقبح القبيح ويوهيه، فإن رأى حسناً أكثر من ذكره ليرسخه في نفسه وفي نفوس الناس، وإن رأى قبيحاً قلل من ذكره حتى لا تنطبع صورته في القلوب.
إن القلب هو مستودع الإنسان فمن ملأه خيراً ورضاً كان له الخير والرضا وحقق الراحة والسعادة وصار موضع ثقة الناس ومحبتهم وبذلك يدخل جنة الدنيا قبل جنة الآخرة مثل الصحابي الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة رغم أنه لم يكن كثير صيام أو صلاة، كان فقط يبيت وليس في قلبه غش لأحد..
"رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا"..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

الأحد، 19 ديسمبر 2010

عالم ما بعد ويكيليكس

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يمكن النظر إلى زلزال ويكيليكس الذي هز العالم وما زالت توابعه تضرب شرقاً وغرباً في مستويين من الرؤية..

فهناك نظرة تكتيكية يهتم بها السياسيون وفيها تطرح التساؤلات حول الفاعل والدوافع والتوقيت، ونحو هذه الأسئلة التي تتعامل مع الحدث من حيث ظرفيته ومحدوديته، وفي هذا المستوى التكتيكي من الرؤية يمكن أن نتفهم وإن بقدر الحديث عن فرضية مؤامرة، ويمكن تقبل وجاهة الرأي القائل بأن وثائق ويكيليكس لم تأت بجديد، فما الجديد مثلاً في أن نعرف بأن مبارك يكره حماس، أو أن نعرف بأن الجزيرة تخدم الأجندة السياسية لقطر، أو أن نعرف بأن هناك قلقاً خليجياً من الدور الإيراني، وما الجديد الذي تأتينا به وثيقة تقول بأن الكيان الصهيوني يحول دون امتلاك الدول العربية لأسلحة متقدمة، أو وثيقة أخرى تصف أردوغان بأنه إسلامي التوجه أو وثيقة تقول بأن الفاتيكان يعارض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي..

بالتأكيد ليس كل الوثائق بهذه الدرجة من التبسيط، ولكنها في غالبها تأتي في سياق التوقعات، وجديدها أقرب إلى الكمية منه إلى النوعية، فهي إما توثيق لما كان معروفاً، أو أنها تعزيز لتوقعات واتجاهات مسبقة..

من المسموح أيضاً في مستوى النظرة المرحلية أن يثير البعض علامات تشكيك، فمن يصدق أن ما نشرته ويكيليكس هو كل ما تخفيه أمريكا عن العالم، وأنه لا يوجد في دهاليز سياستها سوى هذا القدر من الخبايا التي يمكن التنبؤ بأكثرها حتى دون وثائق، وأن القوة العظمى لا تتبع وسائل قذرة غير معلنة لإضعاف خصومها وضمان بقاء هيمنتها على العالم مثل دعم تقسيم الدول، وتغذية بؤر التوتر..كما أنه من الوجاهة أن يتساءل البعض عن سر هذا الغياب الملحوظ للوثائق التي تدين الكيان الصهيوني، وهل هي صدفة ألا تكشف مئات آلاف الوثائق التي نشرت حتى اللحظة عن أي أسرار ذات قيمة في علاقات الكيان وأفعاله..

كل ما سبق من تساؤلات وتشكيكات يمكن طرحها في النظر التكتيكي للأمور، ولكن إذا تجاوزنا النظرة الجزئية إلى النظرة الاستراتيجية وجردنا القضية من ملابساتها الوقتية التي سيتجاوزها العالم بعد حين من الدهر مهما بدت الآن قويةً ومتفاعلةً..فإن في نشر كل هذا المقدار الهائل من الوثائق أهميةً استراتيجيةً سيكون لها تداعياتها وتأثيرها على خارطة العالم.ولن يقلل من هذه الأهمية كل ما يثار من تشكيك وشبهات وملابسات ظرفية آنية..

الفكرة الأهم في قصة ويكيليكس هي أن يصير بإمكان فرد واحد أو مجموعة قليلة من الأفراد الحصول على كل هذا القدر من الوثائق السرية بطريقة أو بأخرى، وأن ينجح هذا الفرد الواحد في أن يوقف العالم كله على قدم واحدة وهو يترقب ويحبس أنفاسه..هذا التطور الذي جاء بفضل التقدم التقني وتحول اعتماد العالم الرئيسي على شبكة الانترنت في التوثيق والأرشفة من شأنه أن يهز ثقة العالم في القدرة على الاحتفاظ بالأسرار مدةً كبيرةً من الزمن..وهو الهدف الذي يبدو أنه يحقق نجاحاً ملحوظاً بعد عاصفة ويكيليكس

اهتزاز ثقة العالم بالقدرة على الاحتفاظ بالأسرار في زمن الفضاءات المفتوحة سيدفعه لأن يكون أكثر حذراً وأكثر مراقبةً لأفعاله وأقواله حتى تلك التي في السر ، لأنه يعلم أن ما هو سري اليوم سيصبح معلناً عما قريب، وحين تستشعر الكيانات السياسية هذا التخوف فستكون أكثر تحملاً للمسئولية ولن يكون الفرق كبيراً بين المواقف المعلنة والمواقف السرية، مما سيشكل انتصاراً للشفافية والوضوح..

إن ويكيليكس ليس وليد ذاته ولكنه خطوة طبيعية في سياق التقدم البشري الذي نجح في اجتياز حدود وحواجز لم يكن أحد يحلم بها، مما جعل العالم قريةً صغيرةً يعلم من في أقصاه ما يحدث في أدناه لحظة وقوعه، وصار بإمكان أي واحد أن يتواصل مع العالم عبر شاشة صغيرة وهو في بيته، وبعد أن كان الناس يشكون من قلة المعلومات، صاروا حائرين أمام فيضان المعلومات، وصار التحدي هو تنظيم هذا الطوفان المعرفي وترتيب الأولويات للاستفادة من الأهم قبل المهم..

إن المسيرة البشرية تتقدم نحو مزيد من الانفتاح فمساحات الظل تتقلص بينما تغمر شمس المعرفة مزيداً من المساحات لتبدد ظلمتها، ففي جنح الظلام يمكن للإنسان أن يفعل ما يحلو له دون حسيب أو رقيب، وقد أتى على الإنسان حين من الدهر كانت ترتكب فيه أفظع الجرائم وتتعرض الشعوب للإبادة ثم يغسل المجرم يديه ويخرج مبتسماً دون أن يدري العالم شيئاً عن جريمته، ونحن لا نتحدث عن أزمان سحيقة وحسب، فبالأمس القريب فقط عام 1948 جاءت عصابات الصهاينة إلى فلسطين وشردت شعباً بأكمله دون ضجة كبيرة، ولم تعلم بعض الشعوب القريبة بذلك إلا بعد أشهر..لكننا اليوم وفي حرب غزة مثلاً فإن أحداثها كانت على الهواء مباشرةً على مدار الساعة، وقد أدرك الصهاينة هذا التحول الكبير مما دفع أحد جنرالاتهم إلى القول إنه لو قدر أن تغطى نكبة عام 48 إعلامياًُ كما غطيت حرب غزة لما قامت إسرائيل أصلاً وهذه المقولة تقترب من الحقيقة ، لأن تسليط الضوء على المجرم يحد من حركته، ويدفعه لمراجعة حساباته..

إن تسليط الضوء على المشكلات هو أول الطريق إلى حلها، وكلما تقلصت دائرة السرية والغموض كلما كان ذلك أقرب للشفافية، فانكشاف الأسرار يفرض على الأفراد والمؤسسات والدول سلوكاً جديداً، ويعزز دور الشعوب والمؤسسات المدنية في المحاسبة والمساءلة، لذلك فإن أصحاب المشاريع اللا أخلاقية هم أكثر الناس ميلاً إلى الانزواء في الظلام..

إن البشرية تحث الخطى نحو عصر الفضاءات المفتوحة، ودائرة الظلام والأسرار والكواليس آخذة في الانحسار، والمستفيد الأول من ذلك هو الإنسان، لأن هذه التحولات تقربنا أكثر من الشفافية والمحاسبة والعدالة..

إننا الآن في عصر الانترنت والفضائيات والجزيرة مباشر وغوغل وويكيليكس، ويخلق ما لا تعلمون..

أعلم أن الصورة ليست ورديةً بالكامل، وأنه لا يزال في العالم الكثير من الظلام والظلم والفساد، ولكنها خطوات مهمة في الطريق لا يدرك أهميتها إلا من يدرس تاريخ البشرية ليعرف كيف بدأ الخلق وإلى أي حد وصلت البشرية من الحضارة..

ربما تكون هناك أهداف سياسية وراء تسريبات ويكيليكس، وربما لا يكون، ولكن المؤكد أن الزبد يذهب جفاءً وأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، وأياً كان الأمر فإن الشعوب لم تعد مغيبةً مثلما كان الحال في عصور خلت، واتجاه الحضارة هو نحو تقليص دائرة الأسرار والخبايا ليكون العمل تحت ضوء الشمس، فيوضع كل شيء تحت عين الرقيب، ويعلم المسئولون أنهم محاسبون فيعدون للسؤال جواباً..

ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المجرمون..

والله تعالى أعلم..

توظيف الدين في السياسة
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
وكأنه قد تحول إلى تقليد راسخ أن تستهل جماعات سياسية دعوة الناس إلى فعالياتها المختلفة بالآية الكريمة "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"..
أغلب ظني أن من يستدل بهذه الآية فإنما يفعل ذلك بحسن نية، وهذا ما شجعني لأسدي واجب النصيحة لعل هذه الكلمات تلامس قلوباً حية، ولا خير في أقلام لا يسخرها أصحابها لتصحيح المفاهيم ونصح الأمة..
يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوصي أصحابه في الغزوات بالقول:"إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا" هذا الحديث الصحيح فيه فائدة عظيمة، وهي ألا ينسب الإنسان أفعاله إلى الله ولكن ينسبها إلى نفسه، فلا يقل إن الله ورسوله يدعوكم، ولكن أنا الذي أدعوكم، فإذا أخطأ كان الخطأ على نفسه ولم يكذب على الله
إن الله ورسوله لا يدعوان إلا إلى حق وخير، أما أنشطة الأحزاب فهي خليط من الحق والباطل والأهواء والتعصب ..ومن الخطورة الشديدة أن نقدم أنفسنا للناس وكأننا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو أن نجعل أنفسنا التطبيق النموذجي للإسلام، فهذا من الافتراء على الله "ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً"..
خطورة الخلط بين التعصب الحزبي، وبين الدين هو أن تصير نظرتنا إليهما واحدةً فتصير الوسيلة غايةً قائمةً لذاتها، ونضع المقدس والمدنس، أو الإلهي والبشري في سلة واحدة، ونجعل كل ما هو حزبي من الدين بالضرورة، وكل نشاط من أنشطة الجماعة لوناً من ألوان العبادة، وإذا صارت هذه هي نظرتنا فليس مستغرباً أن تتحول المساجد إلى منابر لشيطنة الخصوم وبث الأحقاد والتعصب والفرقة والسب والشتيمة، لأن الانتماء للحزب في نظرنا آنذاك هو عين الانتماء للدين، ومعاداته معاداة للدين، فتصبح المآذن منبراً يذكر فيها اسم الحزب من دون الله ويدعى من خلالها إلى نشاطاته الخاصة، ويزعم أن الداعي هو الله ورسوله.
إن من شأن استعمال المساجد لإقامة الأنشطة ذات الطابع الحزبي الخالص أنه يعطي المبرر للآخرين لفعل الشيء ذاته، ولا يستقيم هنا أن نقول إننا أولى بالمساجد من غيرنا
فالمساجد مؤسسات عامة وليست خاصةً بجماعة دون غيرها. ومهما كانت قناعاتنا الذاتية بصواب منهجنا فإننا لا نستطيع أن نفرض رؤيتنا على الناس وأن نجبرهم على التفكير بطريقتنا وأن نكون أوصياء عليهم..
والجماعة مهما كان ثقلها الاجتماعي فإنها تظل جزءً من المجتمع وليس بديلاً عنه، وسيظل في المجتمع من يفكر بطريقة أخرى، فليس من حقنا أن نتصرف وكأننا وحدنا في الساحة أو أن نحلل لأنفسنا ما نحرمه على الآخرين..
إن احتكار الدين خطير ومدمر لأن الحزب مهما كان على درجة من الهوية الإسلامية فإنه يظل جهداً بشرياً ناقصاً، ولا يجوز أن يضفي عليه أصحابه قداسة الدين وكماله..
ربما يظن بادي الرأي أن حديثي هذا يصب في نفس اتجاه من يطالبون بفصل الدين عن السياسة وقصر المساجد على قضايا الأخلاق الفردية والأحكام الجزئية..
والفرق كبير، فأنا لا أدعو إلى فصل الدين عن السياسة، ولكنني أدعو إلى عدم إلباس الهوى الحزبي لباس الدين..
والسياسة بمعناها الحقيقي الواسع وهو رعاية شئون الناس من صميم دور المسجد، فالمساجد ليست لمناقشة تهذيب السلوك الفردي وحسب، ولكنها لرعاية مصالح الناس الجماعية، وكل دعوة إلى الخير والصلاح والعدل هي من وظيفة المساجد، حتى وإن سماها الناس سياسةً، فالإسلام لا يقر هذه التقسيمات التي ابتدعناها من عند أنفسنا بأن هذا دين وهذه سياسة، وبهذا المعنى فالإنسان ليس مخيراً للحديث في السياسة أو تركها، ولكنها فريضة إلهية بأن يصدع بكلمة الحق من على منبر المسجد فيقول للظالم أنت ظالم وينهى عن الفساد والمنكر، وينتصر للمظلوم، ويأمر بالخير، بل ويدعو إلى الثورة والعصيان إن اقتضى الأمر، وهذا هو دور المسجد الحقيقي
المهم في كل هذا أن تكون الدعوة منطلقةً من الشعور العام بالمسئولية، وألا تكون بدافع العصبية الحزبية، وانتقائيةً وألا يكون مرتهناً لتوجيهات من أطراف سياسية، بل يتناول القضايا التي تهم الناس في مجموعهم، فينتقد الظلم من حيث كونه ظلماً ولو على حزبه..
إذا كان متفهماً في سنين خلت أن تلجأ الجماعات الإسلامية إلى المساجد كمتنفس للتعبير عن أفكارها ومواقفها في ظل تضييق الحكومات وانعدام المنابر البديلة، فإن الواقع قد تغير اليوم، فهناك الفضائيات والمواقع الالكترونية والصحف والمرافق العامة لإقامة الأنشطة، فلم يعد المبرر قائماً لإغراق المساجد بالبيانات والإعلانات والأعلام وصور الشهداء، واستعمال مكبراتها للدعوة إلى الأنشطة، وإقامة الاحتفالات الحزبية فيها.
وحتى لا يحرف الكلام عن مواضعه فإنني أعيد تأكيد القول بأنني لا أقصد تفريغ المساجد من الأنشطة الدعوية والاجتماعية والتثقيفية، فهذه ظاهرة إيجابية ينبغي تعزيزها، ولكن ما أقصده هو تلك الأنشطة ذات الطابع الحزبي الصرف وهي التي من شأنها أن توغر صدور المخالفين وتعزز الفرقة، وقد جعلت المساجد لتوحيد المسلمين لا لتفريقهم..
ما أجمل أن نعيد للمساجد سكينتها ووقارها فيدخل المرء إلى بيت الله وهو متجرد من صخب الحياة وضجيجها ويستشعر أن هناك فسحةً في الحياة للخشوع والمناجاة..
أرجو أن تصل كلماتي هذه إلى أولي الأمر، وقد علمت عنهم تفاعلاً إيجابياً في مرات سابقة، فيكون هناك قرار عملي بتحييد المساجد عن الأنشطة الحزبية، وأن نستثمرها لتوعية الناس وترشيدهم في أمور دينهم ودنياهم، حتى نحقق قول الله عز وجل:
"وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً"..
والله أعلى وأعلم..

الجمعة، 10 ديسمبر 2010

مناقشة الأفكار لا مناقشة الأشخاص
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
قال لي أحدهم: من أنت وما الذي تفهمه حتى تكتب حول القرآن..قلت له:وما الذي كتبته حول القرآن؟ قال لي:قرأت لك عنوان مقالة التعامل السنني مع القرآن، وعنوان مقالة أخرى حول غير المسلمين وهل هم كفار دائماً..قلت له:وما هي الفكرة التي فهمتها من هذين المقالين؟ قال: لم أقرأ محتواهما لأنني مشغول وحكمت عليهما من العنوان فقط..قلت -ولكن في نفسي هذه المرة-:خسارة على وقتك الثمين أن تضيعه في القراءة، فالقراءة ربما أصبحت من شغل الفارغين، أما أمثالك فهو يفهم كل شيء، وهناك في حياته أولويات أهم من القراءة والتعلم..
ما أحزنني ليس هو أن ينتقدني صاحبي، فنحن للنقد البناء أحوج إلينا من المدح والثناء لأن النقد هو الذي يبصرنا بمناقصنا فيدفعنا إلى تجنبها فنتطور للأفضل، ونحن لا نزعم أن أفكارنا هي الحق المبين، بل هي خليط من الخطأ والصواب، وربما كان خطؤنا أكثر من صوابنا، ولكن ما يحزنني هو شخصنة النقد، فلو أنني كتبت نفس الكلام دون أن أغير حرفاً واحداً ولكنني زعمت أنه لأحد جهابذة العلم الذين يقتنع بهم صاحبي وأمثاله لأثنى عليه عبارات المديح وتعجب من هذا الفهم العميق والفقه المستنير، ليس بالضرورة لروعة الأفكار ولكن لأن التعامل مع الشخص وليس مع الفكرة، فإن نال الشخص رضاهم أحاطوا كل أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته بهالة من القدسية، ووضعوه في موضع لا يقبل المراجعة والنقد، ومثل هؤلاء لا ينبغي أن يسرني حتى ثناؤهم ومديحهم، لأن أحدهم لو مدحني يوماً فسيكون مدحاً لشخصي، وليس لفكرتي، وقد سبق لي أن انتقدت من يتوقف تفاعلهم مع المقالات على قولهم (شكراً كلامك رائع وبارك الله فيك) دون مناقشة الفكرة..فهؤلاء مثل هؤلاء تماماً لا يقرءون ولا يفهمون، وما يصنع الفرق بينهم هو موقعهم من شخص الكاتب، فإن كان الكاتب متناسباً مع مزاجهم كان مدحاً، وإن كان هناك موقف شخصي أو هوى خفي كان ذماً.والأمران هما وجهان مختلفان لعملة واحدة من الفراغ الفكري.
إن من يناقش الفكرة لا يهمه شخص قائلها إن كان عالماً كبيراً أو مغموراً صغيراً، فهو يدور مع الحق أينما دار، وهو لا يعرف الحق بالرجال، ولكنه يعرف الرجال بالحق وفق المقولة الخالدة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، كما أنه لا يتعامل مع الناس بمنطق الثنائية والحدية فإما قبلهم جملةً وإما ردهم جملةً، فكل يؤخذ منه ويرد، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخذ منه ويرد في الشئون الدنيوية، وعصمته هي في الوحي والدين وليس في الأمور الحياتية أو التكتيكات العسكرية والسياسية التي كان يتراجع عن رأيه فيها كلما تبين له رأياً أصوب كما فعل في موقع القتال في بدر أو في تأبير النخل..
إن أمارة النضج الفكري أن نتعامل مع الفكرة مجردةً مفصولةً عن الشخص، وألا نتعامل مع الأشخاص بنظرة إما مقدس وإما مدنس، بل نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وإن أخطأ إنسان في موضع فهذا لا يعني أن نصدر عليه حكماً عاماً ونعلن القطيعة الأبدية معه، فربما كان رأيه في موضع آخر هو عين الحكمة.ونفس الشيء في الجانب المقابل فأن تحب إنساناً لا يعني أن تقدسه وتقلده تقليداً أعمى وتتعصب له، بل ينبغي أن تظل هناك مسافة فاصلة بين الحب الشخصي له وبين مناقشة أفكاره التي تصيب وتخطئ..
وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم لم يتخلوا عن ملكتهم النقدية حتى في التعامل مع خير البشر محمد صلى الله عليه وسلم فهم لم يكونوا في موقف المتلقي السلبي، ولكنهم كانوا يناقشونه في كل ما يقول ويتساءلون ويتعجبون وحين يتبعوه فإنما على بصيرة، والأمثلة على ذلك يضيق المقام بذكرها فهي بالآلاف، ويكفي أن يطالع أحدنا أحد كتب الصحاح ويتأمل طريقة الصحابة في التفاعل مع أقوال النبي.فإذا كان هذا حال الصحابة مع النبي المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى فكيف يريد منا البعض أن نبيع عقولنا لمن هم أدنى من النبي صلى الله عليه وسلم بكثير، وأن نقبل كل ما يقولون دون مناقشة أو تردد، وأن نكفر بنعمة الله علينا الذي وهبنا عقولاً تفكر وتميز وكرمنا بالإرادة والاختيار..
لقد ضاق صدري بقول أحد أصحابي-وهو صديق عزيز على المستوى الشخصي ولعله يقرأ هذه المقالة- وهو يعترض على قولي إنني غير ملزم بأن أقبل بكل ما اجتهد به القرضاوي، وكان رأيه أن أقبل بالقرضاوي على علاته لأنه قضى سبعين سنةً من عمره في العلم والتأليف، ولأنني لست مؤهلاً لأناقش أفكاره.قلت له: لقد تعمدت أن أذكر اسم القرضاوي تحديداً لأنني أكن له محبةً وتقديراً، ولكن هذا لا يقتضي أن أتخلى عن ملكتي النقدية، وأن أتحول إلى آلة حفظ وتسجيل، ولا أظن أنه سيسر القرضاوي أو غيره من العلماء الغيورين على الأمة أن يروا جيل الشباب من الأمة جيلاً مقلداً متبعاً لا يناقش ولا يبدع ولا يجدد، ومهما بلغ علم أحد من البشر فهو لن يصل إلى المنتهى، وسيظل دائماً بإمكان الخلف أن يضيفوا لبنةً ويثروا ما جاء به السلف.
صحيح أن أمثال هؤلاء العلماء لهم فضل الأسبقية وهم بالتأكيد قد أحاطوا بمسائل لم نحط بها علماً بعد، ولكن هذا ليس مسوغاً لنقبل آراءهم دون مناقشة، واحترامنا لعلمهم وكبر سنهم يكون بأن نطلب منهم باحترام أن يبينوا لنا الأدلة التي يستندون إليها، وألا نسارع إلى مخالفتهم قبل أن نفهم حيثيات اجتهاداتهم وأن نفترض أنه قد يتبين لنا مستقبلاً ما قد تبين لهم، ولكن كل هذا لا يعني أن آراءهم ملزمة وأنه لا يحق لنا أن نفكر في اتجاه آخر ونستطلع آفاقاً جديدة..
إن سليمان عليه السلام الذي آتاه الله الملك والحكم وعلمه من كل شيء لم يجد حرجاً في أن يستمع للهدهد وهو يقول له:"أحطت بما لم تحط به"، ولا يوجد إنسان أقل من الهدهد، فربما تبين لطفل صغير ما غاب عن عالم كبير في إحدى المسائل، وقد شاءت حكمة الله أن يوزع فضله على عباده وألا يحتكره شخص لوحده وما كان عطاء ربك محظوراً.
إن الله رب العزة تعالى في سمائه وهو الذي لا يسئل عما يفعل قد راجعته الملائكة فقالوا له أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، وهم على يقين بأن الله لا يقضي أمراً إلا لحكمة ولكنهم ناقشوا وتساءلوا حتى تستوعب أفهامهم هذه الحكمة، ولم يكن الجواب الإلهي قمعياً، ولكنه كان بالإقناع أن أراهم علة خلق آدم حين علمه الأسماء كلها وأمره بأن ينبئهم بها فكان التسليم عن علم لا عن جهالة:سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا..فلماذا يريد البعض أن يعطي للبشر ما لم يعطه الله لنفسه فلا نناقش ولا نتساءل..
يبرر البعض ثقافة التقليد الأعمى بما يسميه مبدأ السمع والطاعة والجندية أو تقدير العلماء أو الحفاظ على وحدة الصف وغير ذلك من التبريرات التي يضعها في غير موضعها..ومثل هذا الفريق يصور للإسلام تصويراً مشوهاً على نحو قمعي إجهاضي لكل ذي موهبة وفكر، فهو لا يرى في الإسلام مبدأ الشورى العظيم الذي نزلت سورة كاملة باسمه، ولا يرى مئات الآيات التي تدعو إلى التفكر والتدبر والتعقل، ولا يفقه الآيات التي تتوعد بالعذاب الأليم من يعطل عقله ويطيع سادته وكبراءه..
إن هذه الثقافة المنغلقة الجامدة هي من الأسباب الرئيسة لحالة التأخر الفظيع الذي تعاني منه الأمة، فالناس قد باعوا عقولهم لسادتهم وكبرائهم، وإذا تبدى لهم أمر يخالفه منطق العقل والفطرة السليمة سارعوا إلى إجهاض هذا النور وأوهموا أنفسهم بأن هذا الأمر قد تنبهت له القيادة الحكيمة الرشيدة وأنها أوعى منهم و لديها من الخبراء وأصحاب الرؤية الثاقبة ما يحول بينهم وبين الخطأ، وبذلك تكرس الاستبداد والرؤية الأحادية وتجذر الإرهاب الفكري وقبرت العقول والمواهب، وساد الجهل والظلمات..
إننا لن نجني من هذا التفكير السقيم إلا مزيداً من التأخر والانتكاس، ولن تكتب لنا نهضة أو صحوة ونحن نقتل الرأي الحر، ونضع الأغلال والقيود لمحاربة التفكير والإبداع والتجديد، ونجهض ملكة النقد عند شبابنا، وإصلاح أحوالنا لن يتأتى إلا بثورة فكرية عارمة على الجمود والوثنية الفكرية، وتشجيع الشباب على المناقشة والمراجعة وتحطيم التماثيل وكسر المسلمات الخاطئة، وأن يوضع كل شيء تحت دائرة التساؤل والتقويم، وألا يكون أحد فوق النقد ولا تحته.
حينها فقط سنبدأ سلوك طريق النهضة والتقدم وسيكون لنا مكان بين الأمم..

والله أعلى وأعلم..

درس مونديال قطر..الإنجاز ممكن

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

رغم أنني لست هاوياً لمتابعة مباريات كرة القدم بما في ذلك مباريات كأس العالم التي تشرئب لها أعناق الملايين، ورغم أنني لم أركل كرة القدم في حياتي سوى بضع مرات أدخلت في إحداها هدفاً في مرمى فريقي بالخطأ، ورغم أنني لا أفضل الانجراف مع التيار والكتابة تحت ضغط تهويل الجزيرة وغيرها.. رغم كل هذه العوامل إلا أنني وجدت في فوز قطر باستضافة مونديال 2022 درساً يستحق التعليق..

الدرس الأهم الذي أراه في هذا الفوز هو أن العرب قادرون على الإنجاز، وعلى أن يكون لهم مساهمة فاعلة في ميدان ما في الأسرة الإنسانية..

لا يضر أن يكون هذا الإنجاز استضافة لعبة كرة، وليس إنجازاً علمياً أو تكنولوجياً.. فالمهم أنه إنجاز وقيمته أنه يأتي في مرحلة تاريخية صعبة تسود فيها قيم الإحباط والإحساس بالعجز وبعدم القدرة على فعل شيء، وهذا الشعور السلبي المتمكن من الإنسان العربي هو في ذاته عامل تدمير إضافي يكرس واقع التأخر العربي ويفقد الإنسان الثقة في التغيير والنهضة ويكبله بقيود من البرمجة السلبية.

إن شعور الإنسان بأنه قادر على تحقيق الإنجاز هو خطوة مهمة في طريق النهضة، ولا يمكن أن تتم النهضة دون هذا الشعور، إذ كيف نتوقع من إنسان مثقل بمشاعر اليأس والإحباط يرى الدنيا بمنظار أسود قاتم أن يؤدي دوراً حضارياً وأن يكون له إسهام في المسيرة البشرية، أما حين يستعيد الإنسان الثقة في قدرته على الإنجاز وتسيطر عليه المشاعر الإيجابية فإن هذه المشاعر تحرره من البرمجة السلبية وتصوغ منه إنساناً فاعلاً متحرراً من أغلال الهزيمة وأوهام العجز فينشط من عقاله وينطلق إلى الحياة للإبداع والإعمار..

إن درس مونديال قطر مهم في هذا الاتجاه، فأن تتمكن دولة صغيرة في مساحتها الجغرافية وعدد سكانها من الانتصار في المنافسة مع دول عظمى بحجم الولايات المتحدة واليابان وتفوز بتنظيم أضخم حدث رياضي على أراضيها، فهذا من شأنه أن يعيد الثقة للعرب بأنهم قادرون على الإنجاز إن تحلوا بالإرادة وحسن الإدارة، وأن تفوق الأمم الأخرى عليهم ليس قدراً لا فكاك منه.

كما أن تمكن هذه الدولة الصغيرة من تحقيق ما لم تستطع الولايات المتحدة بإمكاناتها الجبارة تحقيقه فيه إشارة رمزية إلى أن عصر القوة والعضلات والديناصورات يتراجع، بينما يتقدم عصر العلم والفكر والإنسان، وأن حيازة التقدم ممكن حتى وإن لم نكن الأقوى عدةً وسلاحاً..

إن حال الأمة الإسلامية في هذه المرحلة التاريخية شبيه بقصة الفيل الذي قيدت قدماه بسلسلة حديدية قوية فحاول أن يكسرها لكنه لم يستطع ومع تكرار المحاولة وتكرار الفشل يئس الفيل من قدرته على التحرر من قيده واستسلم، فلما رأى صاحبه هذا اليأس استبدل سلسلةً خشبيةً بالسلسلة الحديدية، وكان بإمكان الفيل أن يكسر السلسلة الجديدة بمنتهى السهولة، لكن برمجته السلبية وتراكم تجارب الفشل السابقة جعلته لا يفكر مجرد تفكير بالمحاولة، وحين سأل الطفل أباه لماذا لا يحاول الفيل الهرب وهو قادر عليه: أجاب أبوه:أنا أعرف أنه قادر على الهرب، وأنت تعرف، ولكن الأهم أن الفيل نفسه لم يكتشف بعد قدرته الذاتية على التحرر.

إن الشعوب العربية قد أثقلتها تجارب الفشل حتى أصابتها بشعور من الإحباط أعاق قدرتها على الإنجاز، لذلك فإن الأمة في أشد الحاجة إلى ما يعيد تذكيرها بقدراتها ويزرع الثقة في نفوسها، أما الإفراط في الحديث عن السلبيات، وأننا أمة عاجزة ضحكت من جهلها الأمم فهو يؤدي إلى نتائج عكسية ويفاقم المشكلة ولا يحلها.

إن العرب يملكون كل عناصر القوة المادية بفضل الله، فهم لا ينقصهم أعداد بشرية أو ثروات طبيعية أو مساحة جغرافية..كل ما يلزمهم هو الإرادة وحسن الإدارة وامتلاك رؤية للتقدم والإنجاز، ونحن لا نطالب بانقلابة كاملة بين عشية وضحاها فهذا ليس من الواقعية في شيء، ولكننا نطمح إلى البدء في مراكمة الإنجازات، ولا يضر أن تكون البداية بخطوات صغيرة، المهم أن نبدأ وأن نتقدم، وأن تكون إنجازاتنا راسخةً لا تهزها الرياح العاتية.

لا أميل إلى الاستفاضة كثيراً في قصة المونديال، ولكنني أدعو إلى الاستفادة من الروح التي بثها هذا الفوز، وتصديرها إلى مجالات الحياة الأخرى علميةً واقتصاديةً وسياسيةً من أجل إيجاد الإنسان العربي المقبل على الحياة بإيجابية وثقة والذي ستقوم على كتفيه نهضة شاملة تخرجنا من الظلمات إلى النور..

والله غالب على أمره..

الجمعة، 26 نوفمبر 2010

الفاعلية هي المقياس
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
أعني بالفاعلية الأثر العملي لأفكارنا على أرض الواقع..فكل عمل أو قول لا يحقق نتائج عملية تساهم في سبيل نهضة الأمة واستعادة دورها الحضاري فهو فاقد للفاعلية ويدخل في باب اللغو والمراء والجدل الذي لا طائل منه..
أستطيع أن أدلل على مبدأ الفاعلية من سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ رضي الله عنه حين أخبره النبي بأن كل من مات وهو يشهد أنه لا إله إلا الله يدخل الجنة، فسأله معاذ هل يخبر الناس بذلك، فرد عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: دعهم يعملوا..
في هذا الحديث تتضح لنا فكرة الفاعلية بشكل جلي..فهذا الحديث يحمل بشارةً عظيمةً وهي الجنة، إلا أنه رغم ذلك وفي بعض الظروف فإنه حديث غير فاعل اجتماعياً وذلك لأنه ربما يبعث في النفوس الكسل والتراخي, لذلك لم يحب النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتشر هذا الحديث بين الناس..
لقد سمعت أحد الدعاة الأفاضل وهو يحدث الناس عن الجنة وقصورها وحور عينها، ويسرد قصصاً تسمو بالروح إلى عنان السماء وتزيد المؤمن شوقاً إلى لقاء الله حتى يصير حاله كحال عمير بن حمام وهو يود ألا يطول عمره حتى يأكل التمرات، لكنني سألت نفسي: هل يكفي أن نذكر هذه القصص المشوقة وحسب، وما قيمة أن نشحن الناس بكل هذه الطاقة الروحية ثم لا نبصرهم بسبيل إلى توظيفها في عمل إيجابي فعال يعود بالنفع على المجتمع والأمة..
إن وجود هذه الأشواق الروحية العظيمة في نفوس الشباب مع انعدام الوعي والفقه ربما يعود بآثار عكسية على الأمة، وهذا ما نراه فعلاً في الصومال والعراق وأخواتهما، فتجد شباباً لا تنقصهم الحماسة الدينية والرغبة الصادقة في الجهاد ولكن ينقصهم ترشيد هذا الجهاد .فهم يتحرقون شوقاً للجنة ونعيمها، ويريدون أن ينالوها بأقصر طريق، وفي ظل غياب الفقه يصبح الموت هدفاً لذاته دون إفادة الأمة في شيء فيبحثون عن أول سوق أو متجر أو مركز شرطة ليفجروا أنفسهم تعجلاً للجنة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً..
إن الحديث عن الجنة حتى يكون فاعلاً لا مدمراً فإنه يجب أن يأتي في سياق فاعل، وهذا هو منهج القرآن الكريم فلا تجد آيةً تتحدث عن الجنة إلا وتربط هذا الحديث بذكر عدد من الأعمال الصالحة.
إن الفاعلية تعني أن نوجه هذه العواطف المتقدة في نفوس الشباب في عمل إيجابي، فيثمر الإيمان بالآخرة صلاحاً في الدنيا، وما أجمل الكلمة التي قالها الشهيد إبراهيم المقادمة رحمه الله أننا بحاجة إلى السياسي الذي يعيش بروح الاستشهادي..فالسياسي وحده ربما يغلبه الهوى ويسلك طريق الفساد والمصالح الشخصية، والاستشهادي وحده يموت دون أن ينتفع الناس به.لكن المزج بينهما ينتج عملاً مبدعاً متقناً..
والقرآن الكريم بأكمله هو كتاب يدعو للفاعلية فهو كتاب عملي يذم الانشغال بالقضايا الجدلية التي لا أثر لها في أرض الواقع "فلا تمار فيهم إلا مراءً ظاهراً"، وحين كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا لا يبنى عليها عمل كان القرآن يتجاهل الإجابة التي يتوقعونها ويجيب في اتجاه آخر أكثر نفعاً وعمليةً وهو ما يسمى بأسلوب الحكيم.من ذلك قوله تعالى "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ". فالسؤال كان ماذا ينفقون لكن القرآن أجاب عن مواطن الإنفاق، لأنه لا قيمة للنفقات إن لم توجه إلى وجهتها الصحيحة.
ومن معالم فاعلية القرآن أسلوب التجريد ، وهو من الخصائص العظيمة التي تميزه عن غيره من الكتب، فهو كتاب غير محشو بالتفاصيل الظرفية ولكنه يركز دائماً على موطن العبرة والاتعاظ، والتركيز على موطن العبرة والعمل هو بالضبط فكرة الفاعلية.
لكن المسلمين يسيرون في اتجاه معاكس تماماً لمراد القرآن فيتركون الدروس العملية التي يتضمنها القرآن ويركزون جهدهم في الجدل في اسم الشخص أو القرية أو التاريخ الذي يتحدث عنه القرآن، وفي ذلك تجريد للقرآن من فاعليته، فالقرآن يتعمد تجاهل هذه التفاصيل حتى يقدم لنا منهجاً عاماً يصلح للتطبيق في كل الحالات والأوقات..
فكرة الفاعلية نجدها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً حين سأله رجل: متى الساعة، فكان رده:وماذا أعددت لها، فالمهم هو العمل والإنجاز.
لقد انتبه فقهاء المسلمين رحمهم الله إلى فكرة الفاعلية، فكرهوا الأسئلة الافتراضية الخيالية، ولم يكن أحدهم يجيب عن السؤال إلا إذا وقع فعلاً وأطلقوا على من يشغل نفسه بالأسئلة المنفصلة عن الواقع ب "الأرأيتيون" نسبة إلى "أرأيت" التي تكثر من افتراض حالات غير واقعية..وهذا يعني أن وظيفة الفكر هي أن يجيب على التحديات العملية الواقعية، وأن ينبع ابتداءً من الواقع ويصب في خدمة الواقع..أما أن يكون الناس وهمومهم وقضاياهم في واد، والمفكرون في واد آخر فهذا لون من ألوان الترف، فوظيفة المفكر هي أن يبحث عن إجابات لهموم الناس الملحة، وأن يقدم لهم أفكاراً نهضويةً قابلةً للتطبيق لا أن يكون في برج عاجي أو مكتب مكيف يثير مسائل جدلية وأفكاراً نظريةً لا تهم الناس..
إن الأمم والمجتمعات لا تتقدم إلا بالفكر الفاعل النهضوي الحضاري، أما الانشغال بالكلام النظري والمسائل التي تجاوزها الزمن فإنه ينشئ أمةً منسلخةً عن الواقع والحضارة ليس لها أي إسهام في خدمة البشرية وهذا هو حال أمتنا اليوم مع الأسف الشديد.
من مظاهر غياب الفاعلية في واقع أمتنا الانشغال بالقضايا التاريخية التي تجاوزها الزمن فتجد من الناس من لا يزال جامداً في عصور قد خلت ويناقش أحداثاً شبع أصحابها موتاً وأفضوا إلى ما قدموا، ولم يعد مهماً معرفة من كان منهم محقاً ومن كان مبطلاً.
إن التركيز على أخطاء الماضي وتراكماته وعقده هي فكرة معوقة للنهوض ومكبلة للانطلاق ومضادة للفاعلية..
من مظاهر غياب الفاعلية في حياتنا هو تناول قضايا جدلية مثل خلق القرآن أو معنى الاستواء على العرش، أو العلاقة بين ذات الله وصفاته، وهي مسائل لا تزيد إيمان المؤمنين ولا تهدي الكافرين ولا تساهم في رفعة أو حضارة، وإذا كان متفهماً أن تناقش هذه القضايا في مرحلة تاريخية ساد فيها علم الكلام والجدل، فإنه لا توجد أي فائدة لإعادة إحيائها من مرقدها في عصر سادت فيه قيم الإنجاز والتقدم والعمل..
إن الفكرة الفاعلة ليست هي الجدال في العلاقة في صفات الله وذاته، ولكنها في استحضار معاني صفات الله في نفوسنا..
إن عدم الانتباه إلى عنصر الفاعلية في ترتيب أولوياتنا واهتماماتنا يرسخ واقع الغياب الحضاري للأمة الإسلامية، ويجعلها عالةً على الأمم تهتم بالصورة وتفتقد إلى العمق، وفي الحديث النبوي أن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، والمؤمن القوي هو المؤمن الفاعل الذي يترك أثراً ويقدم إنجازاً ملموساً ينفع الناس، أما المؤمن الضعيف فربما يصلي ويصوم ويقرأ القرآن، ولكنه سلبي منطوٍ على ذاته لا ينفع الناس في شيء، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستعيذ بالله من جلد الفاجر وعجز الثقة.
نجد غياب الفاعلية متجسداً في زهد الشباب بالعلوم النهضوية التي تحتاجها الأمة، وانصرافهم إلى النحو واللغة والشعر وغير ذلك من العلوم النظرية التي لم تعد ذات أثر كبير في نهضة الأمم .فتجد أحدهم يحفظ آلافاً من أبيات الشعر، ويحدثك بفصحى متقعرة متكلفة، ويقضي الساعات الطوال في سيرة سيبويه والأصمعي، ويعد رسائل في الماجستير والدكتوراة في مواضيع موغلة في الفرعية مثل أحوال إعراب حتى ومتى، وهو يظن أن الأمة يكفيها أن تحفظ المعلقات السبع وأن تتقن قواعد النحو والإعراب لتستعيد أمجاد الماضي، ولو أن هؤلاء توجهوا إلى علوم حديثة مثل الإدارة والاقتصاد ودراسة الحضارة الغربية لكان ذلك خيراً لهم وأنفع لقومهم..
ونحن لا نذم الأدب والشعر والنحو بكليته ، ولكننا نذم المبالغة في الاهتمام به وتقديمه على العلوم الأكثر أهميةً في إنهاض الأمة..
ومن مظاهر افتقادنا للفاعلية هو أن تجد قصارى علم بعضهم هو الاهتمام بسند الأحاديث دون متنها فيظن أن العلم كل العلم هو في قوله حدثنا فلان عن فلان دون توجيه اهتمام مكافئ لمتن الأحاديث ومعانيها وإن كانت متناسبة مع اتجاه القرآن أو أنها مدلسة، والاقتصار على السند وحده لا يحتاج أكثر من شخصية متقنة للحفظ، أما الاهتمام بالمتن ففيه تنمية لملكة النقد والتحليل وإعمال العقل والتدبر، وهذا ما نحتاجه لنخدم ديننا وندعو إليه..وقد حدث أن بعض العلماء الثقات ردوا أحاديث صحيحة السند، لا لقدح في رواتها ولكن بملكتهم النقدية التحليلية حيث وجدوها متعارضةً مع قطعيات القرآن ولا يمكن أن يقول الرسول شيئاً متعارضاً مع القرآن.
وما دام الحديث عن الفاعلية فإنني أشفق على بعض الشباب والفتيات الذين يريدون أن يوظفوا التقنية الحديثة في الدعوة إلى دينهم دون مراعاة للفاعية، فلا يكاد يمر يوم إلا ويأتيني بريد الكتروني يتضمن دعاءً أو ذكراً أو حملةً لجمع مليون استغفار، أو جمع مليار صلاة على النبي، أو يستحلفك بالله أن تصوت على أحد المواقع الأجنبية لمنع حظر الحجاب، وما يجمع بين كل هذه الرسائل أنهم يستحلفونك بالله أن تعيد إرسالها وأنهم سيقاضونك يوم القيامة، وأن هذه فرصة للأجر الجزيل، وأن تقصيرك في إعادة إرسالها هو خذلان للدين..
وحين تصلني مثل هذه الرسائل آسف على هذه النظرة السطحية.فالدعوة إلى الدين لا تكون هكذا، ولو أنهم استغلوا هذه التقنية في تشكيل مجموعات بريدية لمناقشة أفكار ووسائل تحقق نهضة الأمة وتقترح الحلول للأزمات لخرجوا من دائرة النسخ واللصق وال"فورورد" ولوجد بينهم الإنسان المفكر المبدع، والاستغفار لا يكون بطبع كلمة الاستغفار مليون مرة على لوحة المفاتيح ،ولكنه يكون بإعادة تصحيح المسار، ونصرة النبي ليست بالتصويت على المواقع وحسب، ولكنها بإحياء سنته والتخلق بأخلاقه والدعوة إليها.
إن الأفكار لا تقاس بصحتها النظرية وحسب، ولكن يجب أن يضاف إلى عنصر الصحة عنصر الفاعلية أيضاً، فربما جادلك أحدهم في إحدى المسائل وأقنعك أنه على حق، لكن سواءً كان على حق أو على باطل فإن الأمر لن يختلف كثيراً لأن القضية من أصلها غير مهمة ولا يبنى عليها عمل، والقرآن لم يكن عظيماً بمبادئه النظرية وحدها رغم أهميتها، ولكنه كان عظيماً أيضاً بأثره النفسي والاجتماعي، ونجاحه في تغيير وجه التاريخ في بضعة عقود. وفي هذا رد بليغ على الماديين الذين لا يؤمنون بالآخرة، فإن جادلوك في مبادئ القرآن النظرية فلن يستطيعوا أن يجادلوا بالأثر العجيب الذي حققه القرآن نفسياً واجتماعياً وتاريخياً وحضارياً، وفي الإنجيل "من ثمارهم تعرفونهم".
إن فقه مبدأ الفاعلية يمنحنا القدرة على الموازنة بين الأولويات في أعمالنا، فمقياس أهمية أي عمل هو مدى تحقيقه لأكبر عائد ممكن من النفع الاجتماعي والحضاري، وخير الناس هو أنفعهم للناس.
والله أعلى وأعلم..

فلسفة العيد كما أفهمها

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

الدرس الأهم الذي أفهمه من العيد هو أن الإنسان يتعبد ربه حتى باللهو واللعب، وفي هذا دلالة فلسفية عميقة، فأن تكون الفرحة عبادة كما أن الصلاة والصوم والتعب عبادة في مواضع أخرى فهذا هو مفهوم التوحيد والوسطية.

التوحيد يعني أن يتحرر الإنسان من الخضوع لأي شيء من دون الله سواءً كان هذا الشيء مادياً أو معنوياً. فلا يخضع لحجر أو شجر أو بشر، وكذلك لا يخضع للهيئات والأحوال فتكون هي الغاية من دون الله..لأن الخضوع للشيء هو نوع من عبادته وهو بداية الإشرك مع الله..

ربما يكون واضحاً كيف يخضع الإنسان لهواه الظاهر من مال أو شهوة أو سلطان، ولكن كيف نفهم خضوع الإنسان للهوى الخفي فتتحول صور العبادة التي افترضها الله عليه من كونها عبادةً وقربى إلى كونها اتباعاً للهوى؟

يحدث ذلك إذا تحولت من كونها مجرد وسيلة إلى الله إلى غاية مقصودة بذاتها.مثلاً الصوم هو خضوع لله ونحن نفهم كيف أن الإفطار في رمضان هو مخالفة لأمر الله. ولكن كيف نفهم التشديد على ضرورة التعجيل في الإفطار حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطور..

ما هي كل هذه الأهمية لتعجيل الفطور حتى يجعله النبي مؤشراً على خيرية الأمة؟

الجواب والله أعلم أن التعجيل بالفطور يعني أن الإنسان ملتزم بالإسلام من طرفيه فهو في حالة التوازن والوسطية، ملتزم بالصوم أولاً، لكن هذا الالتزام مقيد بالحد والمدى الذي شرعه الله له، فالصوم ليس غايةً تقصد لذاتها ولو كانت مرضاة الله في الأكل آناء الليل وأطراف النهار لما تردد في فعل ذلك، وهذا يعني أنه متحرر من أي هوى ظاهرياً أو باطنياً، وأنه لم يعد متبعاً لحظوظ نفسه وميولها إلى أي اتجاه كان هذا الميل..

يفهم المرء كيف يكون إفطار رمضان اتباعاً للهوى، ولكن كيف يكون تأخير الإفطار كذلك، مع أن هذا التأخير في ظاهره دلالة تقوى وإيمان فهو يسبب للإنسان مزيداً من الجوع والعطش؟

والجواب يأتي من فهم عميق لسيكولوجية الإنسان فهو يملك قدرة هائلةً على التأقلم والتعويض، فإذا حرم من شيء فإنه مع مرور الوقت يألف هذا الحرمان فيصير مصدر استمتاع وتلذذ له..

وهذا ما نراه في واقعنا في حالة الفقراء مثلاً فمن يألف الفقر فإنه يصبح جزءً من كينونته النفسية، فإذا جاءته فرصة للغنى فإنه يزهد بها، وإن سعى إليها فليس سعياً جاداً لأن هناك دافعاً عميقاً لا شعورياً في داخله باللذة والاستمتاع بكونه فقيراً، وهنا نفهم العدالة الإلهية في تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء، فهذه تقسيمات ظاهرية لكن التأمل العميق يظهر أن كلا الفريقين منسجم نفسياً مع مستوى معيشته "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر".

بهذا المنطق فإنه مع تعود الإنسان على الصيام فترات طويلة لا يظل الطعام هواه الرئيسي، ولكن يتحول هواه إلى البقاء على هذه الحالة من الجوع والعطش لفترات طويلة..فهو يتحرر من هوىً ليتبع لوناً آخر من الهوى

والإسلام يريد أن يحرر الإنسان تحريراً كاملاً فكما أنه يسعى لتحريره من أن يكون عبداً لهواه الظاهر، فهو يريد أن يحرره أيضاً من هواه الخفي..لذلك فإن خير الأمور الوسط ، والوسطية هي خاصية الدين حتى يظل الإنسان متوازناً بعيداً عن الإفراط أو التفريط..

نستطيع أن نقرب معنى الهوى الخفي باستحضار أمثلة أخرى.. مثلاً في الصلاة فكما أن الإنسان يتبع هواه ويتكاسل عن أداء الصلاة، لكنه إذا تغلب على هذا الهوى وصارت الصلاة جزءً من كيانه، فإنه يدخل إلى ميدان جديد للابتلاء فربما يتسلط عليه نوع من هوى آخر، وهو الرهبانية المتواصلة دون انقطاع، لذلك كان لا بد من جرعة توازنية فكانت هناك أوقات ثلاث تكره فيها الصلاة، وكان المنهج النبوي بأنه يصلي ويفتر، فكما أن المرء يتعبد الله بالصلاة فإن هناك أوقاتاً يتعبده بها بعدم الصلاة، وهذه الأوقات وإن كانت استثنائية وليست هي الأصل إلا أنها كافية لتحرير المؤمن من الخضوع لهيئة معينة وتحويلها إلى غاية في ذاتها، وضمان بقائه عبداً لله وحده، ونحن ندعو بعد كل أذان اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة لنتذكر أن الصلاة مجرد وسيلة وأن لها رباً نعبده ولا نعبدها.

مثال ثالث في الزواج فالعفة خلق حميد إلا أن الانقطاع الكامل عن الزواج فيه خروج عن شرع الله، وكما لذلك يتقرب الإنسان إلى الله بالتعفف فإنه يتقرب إليه أيضاً بقضاء شهوته..

وربما تكون هذه خاصيةً مميزةً لجميع شرائع الدين بأن كل عبادة هناك من جنسها ما يقابلها لإبقاء الإنسان في حالة التوازن والوسطية وحتى لا يميل كل الميل في أي اتجاه سواءً كان اتجاه التفريط والتحلل أو اتجاه الرهبانية والتبتل..فلا يكون الإنسان عبداً للملذات المادية، وفي ذات الوقت لا يكون عبداً للأهواء الخفية التي تتولد مع الإلف وطول العهد فتصير الأشياء التي ظاهرها تعب ومجاهدة هي مصدر تلذذ، وبذلك تتحول العبادة والتعفف والرهبانية من كونها مجاهدةً للهوى إلى هوى جديد..

فكما أن الأصل هو الإطالة والخشوع في الصلاة إلا أن هناك حقنةً توازنيةً نجدها في حث النبي على التخفيف في ركعتي الفجر النافلة، وكذلك التخفيف في حالة الإمامة بالمصلين، وكذلك تجوزه في الصلاة حين سمع بكاء أم الصبي..

ومثال آخر وهو قضية القتال فكما أن القتال بطبعه تكرهه النفس، إلا أن المقاتل مع طول الإلف فإنه يشعر بشهوة تدفعه إلى مواصلة القتال، وتحيّن فرصه، وهنا تكون مجاهدته لنفسه ليست في أن يقاتل ولكن في ألا يقاتل حين لا يكون القتال ضرورياً لإحقاق الحق والعدل..

إذاً التحرر الحقيقي ليس في ترك القتال كليةً ولا في اعتماده كليةً، ولكنه في تجرد النفس من أي هوى وتعاليها فإذا اقتضى الأمر قتالاً قاتل الإنسان وإذا اقتضى سلماً سالم دون أن تستهويه حالة فيخضع لها.

في ضوء هذه الفلسفة نفهم موقع العيد ضمن النسق الكامل فهو بمثابة الجرعة التي تعيد الإنسان إلى حالة التوازن وتضمن عدم انحرافه عن الطريق القويم.فإذا كان الإنسان طوال العام مجتهداً في الزهد في الحياة والتخفف من المباحات، فإن الإسلام يقول له في يوم العيد كما أنك تتقرب إلى الله طوال العام بالتخفف من المباحات فإن تقربك إلى الله في هذا اليوم هو باللهو واللعب وبالتوسع في المباحات وكما في الحديث عن أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب وذكر الله، فإن زعم إنسان أنه لا رغبة له بهذه الأمور وأنه يريد أن يظل في يوم العيد على ذات النمط المألوف من الزهد والانقطاع والاعتكاف فإننا نقول له:إنك لست صادقاً في عبادة الله، ولكنك تعبد إلفك ومعهودك، وحين يختار إحياء الأحزان وزيارة المقابر يوم العيد فهذا ليس بدافع التقوى، ولكن اتباعاً لشهوة خفية، لأن التقرب إلى الله في هذا اليوم هو بالأكل والشرب واللهو المباح..

أرأيتم كم هو ديننا عظيم!!

والله أعلى وأعلم..

الثلاثاء، 16 نوفمبر 2010

ازدهار الصورة وأفول المعنى
أحمد أبورتيمة
في هذه الأيام كما في كل عام يحج ملايين المسلمين إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة فيؤدون المناسك من إحرام وطواف وسعي بين الصفا والمروة ووقوف بعرفة، وذبح للأضحية، وتحليق لشعر الرأس ورجم للشيطان، ثم يعودون إلى بيوتهم..
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن ثواب الحاج بأنه يرجع كما ولدته أمه فهذا يقتضي تحولاً نوعياً في مسار حياته، وانطلاقةً جديدةً إلى حياة ملؤها الصلاح والتقوى والسلام مع البشر، لكن واقع الحال على النقيض من ذلك فالحجاج إلا قليلاً منهم يعودون بعد حجهم إلى سابق عهدهم دون أن يتغير شيء، وهذا يعني أنهم كانوا يؤدون طقوساً شكليةً دون أن تتشرب قلوبهم معاني الحج وأسراره، والله لا ينظر إلى الصور ولكنه ينظر إلى السرائر..
الحج ليس سوى مثال واحد على أمة لم يعد نصيبها من دينها سوى الصور والشعائر الظاهرية الفارغة من أي مضمون روحي واجتماعي. فالمظاهر الإسلامية تطغى على حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية من المهد إلى اللحد حيث يستقبل المولود بالأذان والتحنيك والعتيقة، ويودع حين يغادر الحياة بالتغسيل والتكفين والصلاة عليه، وما بين هذين الحدين تزدهر الطقوس الاجتماعية، فيحيي الناس الأعياد والمناسبات الدينية، ويأكلون التمر والكعك في رمضان، ويتسابقون إلى الحج والعمرة كل عام، ويشيدون المساجد والمراكز الدينية، وعلى أبواب عيد الأضحى يحرصون على شراء الأضحية، ويظهر الورع في غير محله بتكرار نفس الأسئلة في كل عام عن حكم الأضحية الخرساء أو العرجاء أو العوراء فيما يذكر بأسئلة بني إسرائيل عن البقرة.
هذا الحرص على إحياء المظاهر الإسلامية ليس موضع انتقاد لو أنها كانت منسجمةً مع المعاني العميقة للعبادة، لكن ما يحدث أن هذه الصور تخفي في باطنها خواءً في المعنى وخبواً للروح التي من أجلها جاء الدين، فتجد فريقاً ممن يحرص على أداء العمرة في كل رمضان يغتصب حقوق أخواته في الميراث، أو يغش في تجارته، وتجد من يبني المساجد ويبالغ في زخرفتها هو ذاته من يأكل أموال الناس بالباطل، ومن يحرص على تقدم الصفوف في صلاة العيد والجمعة فاسداً في موقعه الإداري قد خان الأمانة، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل.
ونحن لا نعمم الحكم حتى لا نظلم ولكن هذه النماذج السلبية موجودة بكثرة.
لقد تنبه المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله إلى العلاقة بين الصورة والمعنى فبين كيف أن الحضارة في أوج قوتها وصعودها تزدهر فيها الفكرة والمعنى، فإذا جرت عليها سنة التاريخ وبدأت منحدر الهبوط واقتربت ساعة أفولها زاد اهتمام الناس بالصور والمظاهر والطقوس بينما خمدت حرارة الإيمان في الصدور..
إن مؤشر قوة الأمة هو قوة المعنى، أما ازدهار الصور والأشكال فهو دلالة ضعف وانحطاط
إن من يبالغ في إحياء الصورة بعد أن يميت المعنى، ويطلي نفسه بمظهر خادع من الطقوس والمظاهر فإنما يفعل ذلك بدافع نفسي ليملأ نقصه الداخلي ويحسم الصراع العنيف داخله بين القيم العليا التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع وبين الواقع البائس المتراجع.
هذا التناقض بين الصورة والمعنى لا يخص أمة دون الأمم ولكنه مرض عام يصيب الجميع..فالحضارات في أوج صعودها وحيويتها يكون الإيمان فيها بالمبدأ عميقاً والنفوس مستعدة لبذل النفس والنفيس من أجل أن تحيى الفكرة، وهذه النخبة المبدعة هي التي تنهض بالفكرة وتنتصر لها حتى يمكن لها في الأرض.
فإذا مكن للفكرة في الأرض ودخل الناس فيها أفواجاً خلف من بعدهم خلف يؤثر الراحة والكسل، فهو قد وجد ثماراً يانعةً قطفها دون عناء، فيصبح جيلاً يستهلك ولا ينتج، ويقلد ولا يبدع فيخبو المعنى وتبقى الصورة، وحين يبقي الناس على الطقوس والمظاهر فذلك لإشعار أنفسهم بأنهم امتداد للحضارة العظيمة، ولكنهم يجمدون على ما وجدوا عليهم آباءهم وأسلافهم ويتوقفون عن الإبداع فتنتج أشكال ميتة جامدة يقدسونها ويعكفون لها، وهنا نفهم فكرة الوثن في القرآن الكريم، فالوثن هو تجسيم وتعلق بالصورة على حساب الفكرة "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون".
يضرب لنا القرآن مثلاً عن ازدهار الصور في قصة آلهة قوم نوح وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فمبدأ هؤلاء الخمسة أنهم كانوا رجالاً صالحين، ولكن مع طول الأمد وتعاقب الأجيال خبا المعنى وبقيت الصورة، فاتخذوا أصناماً تعبد من دون الله، وتذرع بهم قوم نوح ليصدوا دعوته مع أنها امتداد لذات الدعوة الإصلاحية التي كان عليها هؤلاء الخمسة
نبقى مع القرآن وقصة أصحاب الكهف حيث تبرز فكرة المعنى والصورة، ففي مرحلة انطلاق الدعوة حيث حيوية الفتية ونشاطهم كما في مبدأ أي فكرة كان المعنى حاضراً قوياً:"إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً"، لكن حين دار الزمان دورته بعد ثلاثمائة سنة خفت المعنى في قلوب الناس واهتزت الفكرة فصاروا في شك من اليوم الآخر حتى اقتضى الأمر تذكيراً جديداً: "وكذلك بعثناهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة آتية"، رغم أنهم حافظوا على ازدهار الصورة والمظهر "لنتخذن عليهم مسجداً"..
إن إبقاء الصورة لا يتطلب جهداً كبيراً، ولا إقلاعاً ضد الجاذبية، لذلك تزدهر الصورة في فترات التراجع لسهولتها على النفس فهي أقرب إلى الجانب الاحتفالي منها إلى الالتزام والانضباط ولا تتطلب ذات الجهد والتكلفة التي يتطلبها إحياء المعنى والفكرة..
ولأن الصورة لا تتطلب مشقةً كبيرةً على النفس فلا غرابة أن نجد طواغيت الأرض يحتفون كثيراً بالمظاهر، فينشئون المساجد والمراكز الدينية، ويقيمون الاحتفالات في الأعياد والمناسبات، ويتقدمون الناس في الصلاة أمام الكاميرات، فيكبرون الله بألسنتهم بينما هم مؤمنون في قرارة أنفسهم أنه لا يوجد من هو أكبر منهم، ويكرمون حفظة القرآن، وربما يطبعون ملايين النسخ من المصحف الشريف، فيحسب الجاهل أن هذه الشكليات دليلاً على صلاح الحاكم، بينما يتخذ منها الحاكم وسيلةً لإسكات الناس، وليتركوا له الساحة فيطلق العنان لأهوائه، ويعم في عهده الظلم والفساد والرشوة، والتخلف..
"أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون"..
ولأننا في عصر ازدهار الصورة وأفول المعنى لم يعد مستغرباً أن نرى الفساد والواسطات والمحسوبيات وتدخل المعارف وأصحاب النفوذ تطال حتى العبادات التي يفترض أن يتقرب بها المرء إلى الله، فمن يملك واسطةً أو نفوذاً يستغله ليقدم اسمه على غيره في أسماء الحجاج..وفي هذا تناقض مريع فمن يبتغي رضا الله فإنه لا يمكن أن يدركه إلا بوسائل شريفة، ولكن ماذا نفعل ولم يعد حظنا من العبادة سوى صورتها..
إن الجمود على صورة الدين بعد قتل روحه قد جلب على البشرية كوارث عظيمة، فتحول أتباع الأنبياء إلى أعداء الأنبياء بعد أن طال عليهم الأمد، فرأينا المسيحي يبيد الشعوب باسم المسيح وتحت راية الصليب، ورأينا المسلم يفجر نفسه في أخيه المسلم بزعم الانتصار لدين محمد..ومحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام برءاؤ من ذلك.
لقد بين لنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن كل الصور لا تغني شيئاً عن المعنى، ولو كانت هذه الصورة هي الكعبة المعظمة ذاتها فحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة، لكن المسلمين لم ينتفعوا كثيراً بهذا الهدي النبوي، فاستحلوا دماء بعضهم البعض لأتفه الأسباب، بينما قدسوا الرسوم والأشكال والأنماط التاريخية المجمدة..
إن الاهتمام بالطقوس دون الاستفادة من معانيها العميقة في الحياة هو تفريغ للدين من محتواه، والإسلام لم يسن الشعائر إلا لتحقيق الإصلاح النفسي والاجتماعي فإن لم تتحقق هذه الغاية فقدت هذه الشعائر فاعليتها، فالصلاة لمنح الإنسان السكينة ولنهيه عن الفحشاء والمنكر، والصيام لعلكم تتقون، والحج لإعطائنا دروساً في السلام والمساواة فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، فإن لم تتحقق هذه المعاني في حياتنا فإن الله غني عن صلاتنا وصيامنا "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"...
إذاً فالشعائر والمناسك ليست سوى وسيلة لتحقيق التطهر الداخلي "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم، وغاية الأنبياء الكبرى هي إقامة العدل في حياة الناس
"ليقوم الناس بالقسط"..
إن إحياء الدين يكون بإحياء معانيه ومقاصده الكبرى بإقامة العدالة الاجتماعية ورد الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلومين ومحاسبة الظالمين وإعمار الأرض التي استخلفنا الله فيها، وكما قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: حيثما كان العدل فثم شرع الله..
والله أعلى وأعلم..
ملحق:
أرسل إلي أحد الإخوة يسألني إن كان يفهم من مقالي بأنها دعوة للاهتمام بالمعنى وترك الشعيرة الإلهية إن تحقق المعنى بدونها فكان هذا هو جوابي له:
أشكرك على طرح هذا التساؤل لأن مثل هذه التساؤلات والاستدراكات هي التي تبين الفكرة وتجليها أكثر..
بالطبع فهذه ليست دعوة لترك الشعائر لأن الله عز وجل يقول "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب..
الالتزام بالشعائر -حتى وإن كانت ظاهرية -هو مؤشر على صلاح الباطن لأن الإنسان حتى يلزم نفسه بأداء الشعائر الظاهرية فلا بد أن يصل الإيمان في داخله إلى درجة من العمق بحيث يتفاعل ويفيض..والإيمان الحقيقي لا يطيق أن يظل حبيس الصدور فيأبى إلا أن يعبر عن نفسه.والتعبير في حده الأدنى يكون بأداء هذه الشعائر..
أما من لا يؤدي الشعائر ويقول بأن قلبه أبيض فإنه كاذب في دعواه..لأنه لو كان إيمانه الداخلي متحققاً لنتج عن ذلك حالة من القلق الداخلي ولما استقر واطمأن إلا بأداء الشعائر..
موضع انتقادنا هو فقط حين لا يتجاوز المرء هذه الشعائر وينفذ إلى معانيها العميقة لأنه بذلك لم يحقق مقصود الله الذي وضحه في كتابه "لعلكم تتقون"..فمن يصوم ولا يحقق التقوى فليس له حظ من نصيبه سوى الجوع والعطش، ومن يصلي ولا ينتهي عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له..
ودعوتنا إلى هذا الصنف ليس بأن يترك الشعائر، بل أن يحافظ عليها ولكن ينميها بأن يفقه معانيها العميقة وأن يرى أثرها في واقع حياته..
هناك علاقة جدلية بين الشعيرة والمعنى فكما أن المعنى يفيض فيعبر عنه بالشعيرة، فكذلك فإن مزيداً من الشعائر في حالة سلامة القلب تؤدي إلى ترسيخ المعنى وتحقيق التقوى
حين يكون الأفراد والمجتمعات يفيضون بالمعنى فحينها يأتي دور المظهر أو الشعيرة أو النسك بأنها التعبير أو التجلي لهذه المعاني، وهي الرمز الذي يمثل القاسم المشترك للمؤمنين، ولا يمكن تصور أمة بدون مناسك. فالمناسك تمثل مظهر الوحدة العضوية والنفسية للأمة..
الرموز لها وظيفة حيوية في حياة الأمم ونحن لا ندعو للتخلي عنها ولكننا ندعو إلى أن تكون في موقعها الصحيح كتعبير عن معنى موجود وليس تعويضاً عن الخواء الداخلي.
مثلاُ في حالتنا الإسلامية صلاة الجمعة تعطي شعوراً اجتماعياً رائعاً، ومشهد الحجيج يعطي دفعةً روحيةً هائلةً، وهذه المظاهر التي يجمع عليها المسلمون ولا يمكن أن يجمعوا على أي مظهر آخر بنفس المقدار، لأن هذه الشعائر إلهية المصدر، لا يمكن أن نلغيها مهما حقق المسلمون من معان عميقة..لأن هذه الشعائر في ذاتها لها معنى فريد ومتميز..
والسلام عليكم..

الخميس، 11 نوفمبر 2010

عدلكم أفضل من حجكم أيها المسئولون
أحمد أبورتيمة
رحم الله المفكر الجزائري مالك بن نبي وهو يشرح لنا أطوار الحضارة، وكيف أن الحضارة في أوج قوتها وصعودها تزدهر فيها الفكرة والمعنى، فإذا جرت عليها سنة التاريخ وبدأت منحدر الهبوط واقتربت ساعة أفولها زاد اهتمام الناس بالصور والمظاهر والطقوس بينما خمدت حرارة الإيمان في الصدور..
في حياتنا تزدهر الطقوس والصور الإسلامية إلى حد كبير، فالناس يحيون الأعياد والمناسبات الدينية، ويقيمون الاحتفالات ويؤدون الطقوس والشعائر من صوم وصلاة، ويتسابقون إلى الحج والعمرة كل عام، ولكن الصورة لا تمضي على هذا النحو الإيجابي بعيداً، فتجد بعضاً ممن يحج إلى بيت الله الحرام ويؤدي العمرة في رمضان، ويسابق لشراء الأضحية ويهتم بزخرفة المساجد ويبالغ في الإنفاق عليها، ويقيم الاحتفالات ويوزع الحلوى في ذكرى المولد والهجرة تجد هذا البعض هو ذاته من يجمع أمواله بالحرام، وقد أثقل كاهله بحقوق الناس ومظالمهم، ويماطل في أداء الديون ورد الأمانات، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، فقرب أقاربه، وخان الأمانة التي اؤتمن عليها.
إن الاهتمام بالطقوس الظاهرية دون الاستفادة من معانيها العميقة في الحياة هو تفريغ للدين من محتواه، فالله عز وجل لم يفرض علينا الشعائر والمناسك إلا لتستقيم حياتنا النفسية والاجتماعية العميقة "لعلكم تتقون"، "ليقوم الناس بالقسط"، وما لم نحيي معاني هذه الشعائر في حياتنا تصبح بلا مفعول أو قيمة "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"..
حالة الازدهار في المظاهر والأشكال يمكن تعليلها بسهولتها على النفس فهي أقرب إلى الجانب الاحتفالي منها إلى الالتزام والانضباط ولا تتطلب ذات الجهد والتكلفة التي يتطلبها إحياء المعنى والفكرة..
لذلك لا غرابة أن نجد أصحاب السلطان في أي مجتمع يقيمون هذه الطقوس الظاهرية، بينما في سلوكهم الاجتماعي والسياسي هم أبعد ما يكونون عن روح الإسلام، فتجد الرئيس أو الوزير يؤدي صلاة الجمعة والعيد، ويقيم الاحتفالات الدينية، ويحج عاماً بعد عام، بينما هو مقصر في أداء أمانة الحكم وقد انتشر الظلم في عهده وعم الفساد وشاعت الواسطات والمحسوبيات..
حين يقوم المسئول بأداء الشعائر امتثالاً لفريضة افترضها الله عليه فإنه لا يسع أي مؤمن إلا أن يثني على ذلك ويدعو له بالقبول..
لكن الكارثة تكون حين تؤدى هذه الشعائر على حساب العدل الذي من أجله قامت السموات الأرض وعلى حساب حقوق الناس
في هذه الأيام مثلاً حيث الحج إلى بيت الله الحرام ترى بعض المسئولين يسارعون إلى مزاحمة الحجيج في قوافلهم إلى بيت الله الحرام، وقد أدى حجة الإسلام التي افترضها الله عليه من قبل، وربما تكون هذه المرة الثالثة أوالرابعة، مع أن هناك من الناس يتشوقون إلى الحج للمرة الأولى منذ سنوات ولم يخرج اسمه، وهناك من يتجاوز عمرهم الخامسة والستين أو السبعين ترى أعينهم تفيض من الدمع خوفاً أن يفوتهم قطار العمر دون أن يحجوا، وهم يشاركون في الاقتراع مرةً بعد مرة دون أن تخرج أسماؤهم..
ومما يزيد الأمر كارثية أن تكون تكاليف حج بعض هؤلاء المسئولين مقتطعةً من المال العام أو من أموال الحجاج، فيشكلون عبئاً إضافياً على الحجاج وعلى شعوبهم التي يقتطعون الأموال منهم، فصارت الشعوب في خدمة المسئول ورفاهيته، ولم يعد المسئول مسئولاً ومحاسباً من قبل الشعب..
وتكتمل قتامة المشهد حين يكون المسئول الذاهب إلى الحج مقصراً في وزارته أو مؤسسته ومفرطاً في الأمانة العامة، وربما تسبب تقصيره وأخطاؤه في إزهاق أرواح ، وقد علم أن الله لم يفترض عليه الحج أكثر من مرة، وربما أسقطت عنه هذه المرة إن لم يستطع إلى ذلك سبيلاً، بينما افترض عليه أن يؤدي أمانته وأن يحكم بين الناس بالعدل وألا يأكل أموال الناس بالباطل، وأن يتقن عمله، ولن يشفع له أن يحج عشرات المرات دون أن يعيد الحقوق إلى أهلها ويحارب الفساد من مؤسسته ويحاسب الظالم على ظلمه، فالحج صورة الدين بينما إقامة العدل هو حقيقته وغايته، وكما قال ابن القيم رحمه الله : أينما كان العدل فثم شرع الله..
إن وظيفة المسئول ليست في حج أو صيام أو قيام نافلة، بل إن وظيفته الأولى هي أن يقيم العدل بين الناس، ويقضي حوائجهم ويقيل عثراتهم ويدخل السرور على قلوبهم، فإذا أتم هذه الواجبات بإتقان نال رضا الله حتى وإن كان حظه من النوافل قليلاً..
إن تحقيق شرع الله يكون بتحقيق العدالة الاجتماعية ورد الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلومين ومحاسبة الظالمين، قبل أن يكون بإحياء الصور والطقوس والاحتفالات..
إن تولي المسئولية العامة لا يمنح صاحبها تفويضاً إلهياً بأن يزاحم الناس، وأن يقدّم على غيره فيخرج اسمه إلى الحج وهو جالس في بيته دون مشقة أو سعي، بينما غيره يجهد نفسه سنوات طوال وهو يسعى إلى الحج، وإن كان المسئول مصمماً على الحج ولا بد، فعليه ما على أي إنسان من سعي ومشقة وأن يكون هناك تكافؤ في الفرص بين الجميع فيدخل اسمه في القرعة مثله مثل أي واحد من المسلمين، ويجري الاختيار بشكل حر ونزيه فإما قدر له أن يحج، وإما انتظر كما ينتظر غيره في الأعوام القادمة..
إنه لمن التناقض أن يعلن إنسان أنه يقصد من حجه مرضاة الله بينما لا يتحرز من اغتصاب حق غيره للحج، ولو أنه ظل في بيته وقدم على نفسه رجلاً طاعناً من المسلمين ممن يخشى ألا يدركه موسم الحج القادم لكان خيراً له عند الله.
ولا يشفع للمسئول أن يعلن بأنه سيحج هذا العام عن أسير، والعام القادم عن شهيد، والعام الذي يليه عن أبيه أو جده، وبذلك يبرر لنفسه أن يزاحم المسلمين كل عام، فإعطاء الفرصة للأحياء ليحجوا بأنفسهم أولى، ومثل هذه المواقف أمام وسائل الإعلام يخشى أن يتسرب فيها إلى النفوس شيء من حب السمعة..
أختم مقالتي بهذه القصة لعله يكون فيها عبرة لأولي الألباب:
جاء رجل إلى بشر بن الحارث رحمه الله وهو من ربانيي الأمة وقال له يا أبا نصر إني أردت الحج فهل توصيني بشيء؟ قال له: كم أعددت من النفقة للحج؟ قال: ألفي درهم، فقال له: هل تريد الحج تزهُّداً أو اشتياقاً إلى البيت أم ابتغاء مرضاة الله؟ قال: والله ابتغاء مرضاة الله، قال: هل أدلُّك على ما تحقِّق به مرضاة الله وأنت في منزلك؟ إذا دللتك على شيء من هذا تفعل؟ قال: أفعل، قال: تذهب تعطي هذا المبلغ عشرة أنفس، فقير ترمِّم فقره، ويتيم تقضي حاجته ومدين تقضي عنه دَينه، ومُعيل تخفِّف عنه أعباء عياله،..، فقال له: يا أبا نصر السفر في قلبي أقوى، فقال له: إن المال إذا جُمِع من وسخ التجارات والشبهات أبت النفس إلا أن تقضيه في شهوتها..
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في الدين وأن يهدينا إلى سواء السبيل..
والله أعلى وأعلم..

الاثنين، 8 نوفمبر 2010

فضائيات خارج الزمن
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
أعجب من حال بعض الفضائيات التي لا يربطها بالزمان الحاضر سوى تقنيات الصوت والصورة، وما عدا ذلك فهي أبعد ما تكون عن تحديات العصر ومقتضياته..
تجد هذه الفضائيات منصرفةً عن الأخطار المحدقة بالأمة الإسلامية خارجيةً وداخليةً من مخططات معادية واستبداد وفساد داخلي ..وقد جعلت لنفسها هماً واحداً ووحيداً كرست له جهودها وأوقاتها وهو مهاجمة الشيعة وشيطنتهم والتحذير من خطرهم..
لست في معرض الدفاع عن الشيعة، فمن حق الجميع أن ينتقد ما يراه خطأً ولكن ليس بالأسلوب الفتنوي المثير للكراهية الذي تنتهجه هذه الفضائيات، وليس بإصدار أحكام عامة فالقرآن قد علمنا منهج "ليسوا سواءً".
وقد سمعت شخصياً من الخرافات والضلالات عند بعض الشيعة -وأؤكد على بعض- التي تجعل الحليم حيراناً..فقد سمعت أحدهم يقول إن الأنبياء كلهم عبيد للحسين، وآخر يقول إن الله يقول الشعر في علي..
لكن ليس هذا موضوع حديثي فالدنيا مليئة بالخرافات، ولو أننا رددنا على كل خرافة لما اتسعت أعمارنا لذلك ولتعطلت حياتنا عن كل عمل نافع..
موضع انتقادي لهذه الفضائيات هو التركيز على مواضيع قديمة، والانشغال بالرد عليها بدل الاهتمام بقضايا نهضة الأمة وفاعليتها..
هذه الفضائيات تمارس دوراً خطيراً فهي تحشد الناس وتشحن النفوس باتجاه معركة مفتعلة ليست هي معركتنا الرئيسة وتسعى لأن تسوق بأن تناقضنا الرئيس هو تناقض داخلي وليس مع الأعداء الخارجيين الذين يتربصون بنا الدوائر ويخططون لتقسيم البلاد وإذلال العباد..
مشكلة القائمين على هذه الفضائيات أنهم حين يفعلون ذلك ويثيرون كل هذا المقدار من الحقد والتعبئة السوداء فهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم بذلك يتقربون إلى الله زلفى، وأنهم يخدمون دينهم ويدافعون عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم.
فضلاً عن كون الأسلوب المتبع في هذه الفضائيات أبعد ما يكون عن الحوار الهادئ الذي يؤلف القلوب ولا ينفرها وعن الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن التي أمرنا القرآن بها، فضلاً عن الأسلوب فالملاحظة الأهم هي حول جوهر القضايا المثارة، فهي قضايا تاريخية قديمة عفا عليها الزمن ولم تعد مناقشتها ذات أهمية كبيرة في عصرنا الحاضر، فماذا يفيدنا مثلاً أن نثبت بعد ألف وأربعمائة عام أن أبابكر كان أحق بالخلافة من علي رضي الله عنهما، وهل تتوقف رسالة الإسلام دين الرحمة للعالمين على مناقشة هذه القضية؟ وهل سينهار بناء الإسلام إن لم نثبت أحقيتنا في بعض القضايا الثانوية في خلافنا مع الشيعة؟؟..
إن الاستغراق في الماضي والتعصب له حتى لو كان من باب الدفاع عن الصحابة رضوان الله عليهم لا يخدم الإسلام لأنه يصوره وكأنه دين مستغرق في الماضي، وأنه لا يملك أجوبةً شافيةً للتحديات الراهنة، وأن كل ما يستطيع أن يفعله في الوقت الحاضر هو الحنين إلى أمجاد الماضي واجترار الخلافات القديمة والتعصب لأمة قد خلت في الزمان الغابر دون أن يكون له شهود حضاري في هذا الزمان..
الحق أن الإسلام في حالة شباب متجدد ولديه ما يقوله للإجابة عن تحديات كل عصر، وأفضل خدمة نقدمها للإسلام هو أن نلتفت إلى التحديات المعاصرة ونوجد لها الأجوبة الملائمة النابعة من هدي الإسلام.
لقد علمنا القرآن منهجاً غايةً في الروعة للتحرر من أثقال الماضي فقال الله تعالى "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون"..هذه الآية العظيمة تكررت في سورة البقرة مرتين، وهي تدعونا بشكل صريح إلى الالتفات إلى الحاضر بدل الاستغراق في الماضي واجترار أحداثه وأخطائه وتراكماته، لأننا لا نملك تغييره ولن يحاسبنا الله عليه، أما ميدان العمل والفاعلية فهو الحاضر والمستقبل ..
إن الإسلام يقول لنا إننا أبناء الحاضر، وليس بقايا الماضي، واستحضار الماضي يكون فعالاً إذا كان لاستلهام دروسه، وليس إذا حولناه إلى عائق يقيد تفكيرنا ويحول دون انطلاقتنا ووحدتنا ويشوش نظرتنا إلى المستقبل..
حتى إذا كان الحديث عن فضائل الصحابة وأمهات المؤمنين، وهو عمل طيب يشكر عليه أصحابه، إلا أن المبالغة في هذا الجانب فيه خلط للأولويات، ولو تأملنا القرآن الكريم لوجدنا أن الآيات التي تختص بذكر فضائل الصحابة قليلة العدد مقارنةً مع الآيات التي تدعو مثلاً إلى إقامة العدل والقسط، وتحذر من عاقبة الظالمين، والتي تعد بالمئات، ومن بين عشرات آلاف الصحابة الأجلاء لم يذكر القرآن بصريح العبارة سوى اسم صحابي واحد وهو زيد رضي الله عنه، وهذا الاختلاف في نسب التركيز على المواضيع في القرآن الكريم ليس بدون دلالة، ومن فقه المؤمن كما قال العلامة القرضاوي أن يضخم ما ضخمه القرآن ، وحين يركز القرآن في كل سورة تقريباً على العمل الصالح بينما لا يخصص للحديث عن فضائل الصحابة سوى نسبة ضئيلة، فلأنه يريد منا أن نظل مرتبطين بالمنهج الصافي المجرد المتعالي على الأشخاص وعلى أحداث التاريخ، وهذا ليس تبخيساً من قدر الصحابة ولكنه درس لنا..
استناداً إلى هذا النهج القرآني فإننا مطالبون بالالتفات أكثر إلى قضايا الحاضر، والالتفات إلى تحديات العصر، والإعراض عن الجدل في قضايا تاريخية تجاوزها الزمن..
لقد كان موسى عليه الصلاة والسلام متنبهاً إلى خطورة الاستغراق في مناقشة الماضي لأن ذلك سيكون على حساب القضية الأساسية الحاضرة، فحينما سأله فرعون ما بال القرون الأولى لم يتورط موسى في هذا النوع القاتل من النقاش ولكنه سارع إلى إغلاق الباب بالقول: "علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى"..فليس مهماً تقييم الأمم التي خلت ولكن المهم هو هداية الأمم الحاضرة..
لا أظن أنه سيسر النبي صلى الله عليه وسلم لو قدر له أن يبعث بيننا فرآنا ونحن نصرخ في حبه وفي الدفاع عن زوجته المبرأة عائشة وعن أصحابه الأجلاء ونخصص الخطب والفضائيات لذلك، بينما نحن عاجزون عن التصدي لأعدائنا فضلاً عن قيادة العالم نحو العدل والرحمة ، إن أكثر ما يسر نبينا صلى الله عليه وسلم هو أن نحيي القرآن في حياتنا وأن يرانا مجتمعين متآلفين على هديه سائرين..
إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما قد نجحا في تقديم صورة مشرقة للإسلام ليس بالتباكي على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والاكتفاء بالخطب العصماء في تعديد مناقبه وإفحام شائنيه، ولكنهما خدما الإسلام بمواجهة تحديات عصرهم التي لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حروب الردة وغيرها، وإن كنا صادقين في حبنا لأبي بكر وعمر فإن ذلك يكون بالسير على نهجهما في مواجهة تحديات زماننا المستجدة كما فعلوا مع زمانهم..
إنه لا يعقل أن تستغرقنا الخلافات القديمة إلى هذا الحد، ونغفل عن الأخطار الوجودية التي تتهددنا من كل جانب، فالسودان على شفا حفرة من نار التقسيم أو الحرب، والقدس تهود كما لم يفعل بها من قبل، والصهاينة يعدون العدة لشطب آخر ما تبقى من معالم العروبة والإسلامية في فلسطين ويعلنون على الملأ ضيقهم من وجود الفلسطينيين في أرضهم، والفساد والاستبداد ينخر في بلادنا..أليس في كل هذه الأخطار ما يكفي لاستفزاز عقولنا وتنبيهنا إلى معركتنا الحقيقية؟؟
كأني بالعالم وهو ينظر إلى مثل هذه الفضائيات يسخر من حالنا ويتعجب أن يوجد بشر على كوكب الأرض بهذه الدرجة من السذاجة يناقشون قضايا ميتة ويغفلون عن النار التي تلتهم ديارهم..
إن هذه الفضائيات علمت أم جهلت تقوم بتخدير عقول الأمة وصرفها عن أولوياتها وهي تسير في خط الأنظمة الاستبدادية حتى وإن لم تكن تدري بذلك، لأنها تقوم تصرّف غضب الشعوب إلى مجرى طائفي بدل أن ينفجر في وجه الفساد والاستبداد الذي تمارسه الأنظمة..
يؤسفني أن هناك من أساء توظيف هذه المقالة حين نشرتها قبل أيام وحرف الكلم عن مواضعه فوضعها جزءً من حملة لمهاجمة كل فضائية تذكر الناس بالدين والأخلاق..لذا أرى لزاماً على أن أبين أنني لم أقصد في هذه المقالة تلك الفضائيات التي تدعو إلى مكارم الأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة.فهذه تقوم بدور محمود وهي تساهم من إحدى الجوانب في المشروع الكبير لنهضة الأمة، وإذا قارنا بين هذه الفضائيات وبين فضائيات الخلاعة والمجون فالفرق بينهما كالفرق بين الجنة والنار.ولا يعقل أن يكون لكل ناعق سخيف فضائية، ونحرم ذلك على الذين يدعون الناس إلى الحب والخير والتسامح وصفاء القلوب..
لكنني قصدت في هذه المقالة بصريح العبارة تلك الفضائيات التي تسب وتلعن وتشتم آناء الليل وأطراف النهار..فهذه هي التي تعمق تخلفنا وتزيد أمد رقادنا..
إن ما تحتاجه الأمة اليوم هو فضائيات تجمع ولا تفرق، توعي الأمة بأولوياتها وبالأخطار المحدقة بها، وتقود الأمة في مشروع نهضوي حضاري يجعل لها مكاناً تحت الشمس حتى لا نظل سخرية للآخرين وفتنةً للذين كفروا..
"ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم"
والله أعلى وأعلم..