الأربعاء، 21 يوليو 2010

ثقافة الاتجاه المعاكس
أحمد أبورتيمة
يصلح برنامج الاتجاه المعاكس وهو أشهر برنامج في أشهر فضائية عربية، بأن يكون نموذجاً ممثلاً للحالة الثقافية والنفسية والاجتماعية في العالم العربي، فهو يتجاوز كونه برنامجاً تلفزيونياً إلى إمكانية اعتباره ممثلاً صادقاً لثقافة المعجبين به، ذلك أن لهذا الإعجاب بالبرنامج دلالاته في مكونات شخصية المشاهد، فاهتمامات الإنسان تدل على شخصيته.

تبدأ مشكلة هذا البرنامج من اسمه المعاكس وما يوحيه من دلالات صدامية، وإذا انتقلنا من الاسم إلى المضمون فإنه وباستثناء حلقات نادرة يدور فيها حوار هادئ ويستمع كل طرف لما عند الآخر ويواجهه بالدليل والبرهان ، فإن السمة الغالبة عليه تظل هي الصوت العالي والصراخ ومقاطعة الآخر وعدم الاستماع إليه والضرب على الطاولة وقذف كل طرف للآخر بصفات العمالة والخيانة والكفر والضلال، والتلويح بقبضة اليد للتهديد مما يذكر بالتعبير القرآني على لسان ابن آدم "لأقتلنك"، وعلى هذا المنوال ينقضي وقت البرنامج دون الخروج بفائدة تذكر فالجميع يصرخ ولا أحد يسمع وبذلك يصح أن نعتبره حوار طرشان وكلما ازدادت وتيرة الصراخ والشجار كلما شعر المشاهد بالرضا والانتشاء لأنه حصل على ساعة من الإثارة والتشويق هي أهم عند كثيرين من كل النقاشات السياسية والفكرية التي لا يجدون فيها ما يجذبهم.

إن رواج مثل هذه البرامج الصاخبة في بيئتنا العربية والتي يغيب فيها الحوار المقنع المستند إلى الأدلة والحقائق وتطغى عليها الإثارة والفوضى إنما يكشف عن وجود خلل في البنية الثقافية للمواطن العربي فهو إنسان لم يتأهل بعد للانفتاح العقلي والاستماع لما عند الآخر وهو غير مستعد للتنازل عن رأيه حتى لو قامت كل الأدلة على بطلانه أخذاً بالمثل القائل "عنزة وإن طارت"مما يذكر بقوله تعالى: وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها .

وهو بذلك يسير في الاتجاه المعاكس لهدي القرآن والسنة ،فالقرآن امتدح الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"، ورب العزة جل في علاه حاور الشيطان ذاته وهو رمز الشر وسمح له بالتعبير عن رأيه الفاسد، وأعطاه فرصةً إلى يوم يبعثون لممارسة برنامجه الضلالي، كما أن القرآن خلد أقوال اليهود والنصارى والكفار والمشركين وغيرهم من أصحاب العقائد الفاسدة، فهي في القرآن تتلى إلى يوم الدين، رغم ما قد يبدو في ظاهر بعضها من وجاهة قد تغري الضعفاء "لو شاء الله ما أشركنا"، "أنطعم من لو يشاء الله أطعمه"، وتخليد الرأي الآخر رغم ما قد يثيره من شكوك عند ضعاف الإيمان هو دلالة قوة ، فالواثق من نفسه لا يخشى المواجهة الفكرية، ولا يستمد قوته من إسكات خصمه، بل يقارع الحجة بالحجة ويرد بالدليل والبرهان.

وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نرى من أخلاقه أنه لم يكن يقاطع أحداً حتى يفرغ بل إنه في حواره مع المغيرة بن عتبة لم يبدأ في الرد إلا بعدما اطمأن بأنه انتهى من كل ما يريد قوله وتأكد من ذلك بسؤاله أفرغت يا أبا الوليد ؟ مخاطباً إياه بكنيته تأدباً في الحوار، فإن كان لديه المزيد مما يريد قوله فإن النبي مستعد لسماعه حتى النهاية.

ولعل أحد وجوه الحكمة في خطبة الجمعة التي شرعها الإسلام هو إعطاؤنا درساً عملياً أسبوعياً في الاستماع فيمنع مقاطعة الخطيب حتى لو لم تتفق مع رأيه وعليك الاكتفاء بالإنصات فقط حتى تفرغ الصلاة ،وحتى لو تكلم أحد إلى جوارك أشر إليه بالصمت دون أن تحرك شفتيك. ففي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم: « إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت » .

هذا المغزى العميق لم يفقهه بعض المسلمين في هذا الزمن فسعوا إلى تلويث الأجواء النقية داخل المسجد ،فما إن يتحدث الخطيب حديثاً لا تهواه أنفسهم إلا ويهب أحدهم معترضاً بأعلى صوته دون مراعاةٍ لآداب المكان أو الحديث. ويتكرر هذا السلوك بشكل أكبر خارج المسجد في مجالس الناس وأثناء ركوبهم السيارات فلا أحد يحتمل الاستماع إلى الرأي الآخر ويتكلم الجميع في وقت واحد وربما جادل أحدهم في أكثر الحقائق سطوعاً من أجل إثبات صحة موقفه ،وهذا لا يجوز تسميته حواراً وإنما هو مراء وكبر ،ولا ينفض اللقاء إلا وقد شحنت النفوس وتباغضت القلوب دون أن ينجح أحد في إقناع أحد، وبذلك أصبح في كل حارة وسيارة مجلس للاتجاه المعاكس.

إننا بحاجة إلى توطين أنفسنا على الاستماع أكثر من الكلام، فكثرة الكلام تقسي القلب وتسد منافذ الفهم، وكما قال أحد الفلاسفة بأنه خلق للإنسان أذنان ولسان واحد ليستمع أكثر مما يتكلم، وكما في الحديث فإن من فتنة العالم أن يكون الحديث أحب إليه من الاستماع.

نحن بحاجة إلى التدريب الشاق على تقبل الرأي الآخر وافتراض إمكانية صحته فآراؤنا تحتمل الخطأ وآراء غيرنا تحتمل الصواب، وإذا كان أحدنا يغير رأيه من وقت لآخر حين تتكشف أمامه حقائق جديدة، وتبرز أوجه القصور في مواقفه السابقة، فهذا دليل بأنه لا حقائق مطلقة في الرأي، بل هي اجتهادات يعتريها ما يعتري البشر من ضعف وقصور، والبشر ظلوا يعتقدون لقرون طويلة بإصرار أن الأرض هي مركز الكون وأن الشمس تدور حول الأرض، وقطعت رأس العالم الفيزيائي جاليلو بقرار من الكنيسة لأنه تجرأ وخالف هذا المعتقد السائد وقال إن الأرض هي التي تدور حول الشمس، وبعد إعدامه تبين أن رأيه كان هو الصواب، فلا عصمة للرأي البشري من الخطأ، ولا يتعصب لرأيه إلا جاهل ومكابر .

حين تصدق النيات في طلب الحقيقة لن يجد الإنسان حرجاً في التنازل عن رأيه حين يتبين له وجه الحق في غيره، بل إنه سيكون سعيداً بأن يكون الرأي الآخر هو الحق لأنه يكسب بذلك معرفةً جديدةً ويثري فكره، وكما ورد عن الإمام الشافعي أنه قال ما جادلت أحداً إلا وتمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه . فليس مهماً أن أقنع الآخرين بما عندي ،ولكن المهم أن أصل أنا والآخرون إلى الحق

الحوار الهادئ هو الجو الملائم للوصول إلى الحق، والفوضى هي الأسلوب الذي يلجأ إليه الضعفاء فكرياً للتغلب على وضوح الحق وقدرته الذاتية على الإقناع، وفي ذلك يقول القرآن: "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون".

هذه دعوة للفضائيات العربية بأن تعزز البرامج الحوارية الهادئة التي تحترم عقل الإنسان، هذا إن كانت تسعى لإفادة مشاهديها وتثقيفهم، وليس الإثارة فقط كما هو الحال في حلبات مصارعة الثيران.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق