الثلاثاء، 27 يوليو 2010


الجاذبية الأرضية بين الفيزياء والإنسان

أحمد أبورتيمة

"قانون الجاذبية الأرضية"هو ذلك القانون الذي اكتشفه العالم الفيزيائي إسحاق نيوتن وملخصه أن للأرض قوة جذب تسحب إليها الأشياء،وتمنعها من البقاء في الهواء،وأنه لو كانت هناك قوة أكبر من قوة جاذبية الأرض في أي اتجاه لاندفعت الأشياء إلى ذلك الاتجاه،لذلك إذا ألقينا حجراً نحوالسماء فإنه يندفع إلى أعلى ويبقى في الهواء مدة زمنية تتناسب مع قوة الدفع التي رميناه بها،فإذا نفدت الطاقة التي منحت له جذبته الأرض إليها ثانيةً.
وبفهم هذاالقانون استلهم العلماء فكرة إطلاق مركبة الفضاء. فهذه المركبة تتغلب على قوة جاذبية الأرض بواسطة صواريخ دفع تثبت في أسفلها ،وعندما يحترق أحد هذه الصواريخ،يتولى مهمة دفع المركبة صاروخ آخر لمعاكسة الجاذبية حتى تتحرر المركبة من مجال الجاذبية الأرضية وتحلق في السماء.
هذا القانون وإن كان فيزيائياً في المقام الأول،إلا أننا نجد ما يماثله بدرجة كبيرة في طبيعة النفس البشرية وحركة المجتمع والتاريخ مما يذكرنا بوحدة الخالق عز وجل ووحدة السنن التي بثها في خلقه: "ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً".
ففي عالم النفس البشرية ما يمكن اعتباره جاذبيةً أرضيةً،وهو أمر يسهل فهمه إذا علمنا بأن الأرض هي أصل الإنسان وإليها معاده: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)،
وقد ورد في القرآن الكريم عدة إشارات تبين لنا تأثير الجاذبية الأرضية على النفس البشرية مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض)،وقوله عز وجل: (ولوشئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه)، فالإنسان منذ أن خلق الله آدم وحتى قيام الساعة تتنازعه قوتان متعاكستان:قوة الطين التي تجذبه إلى الأرض وتغريه بشهواته وأهوائه، وقوة الروح التي تشده إلى السماء وتعده بالعودة إلى الجنة التيأخرج منها،وبالدخول في ملكوت الله الذي خلقه ونفخ فيه من روحه.

ولما كان للأرض جاذبيتها المهيمنة التي تستمدها من قدرتها على تلبية شهوات الإنسان العاجلة،والاستجابة لأهواء نفسه المتمكنة،فإن الطريق إلى السماء بحاجة إلى قوة دفع معاكسة تتغلب على جاذبية الأرض والطين،تماماً كما أن الحجر بحاجة إلى قوة دفع ليحلق إلى أعلى،ولكن القوة التي تمنح للحجر سرعان ما ينفد مفعولها فيتوقف عن الارتفاع ويهوي إلى الأرض،وهذا ما يحدث مع الإنسان حين يجاهد نفسه ويكدح مرةً واحدةً فيصلي ركعتين خاشعتين في جوف الليل أو يصوم يوماً نافلةً أو يتصدق بصدقة فيسبيل الله أو يكظم غيظه أو غير ذلك من أفعال الخير ثم يقنع بفعله ويركن إليه،فسرعان ما ينفد مفعول الطاقة التي كسبها تحت تأثير سلطان جاذبية الأرض التي تشده إليها ثانيةً.
أما من كان يريد أن يواصل كدحه إلى ربه حتى يلاقيه ويستمر في غذ المسير نحوالسماء فإن عليه أن يظل مستنفراً لفعل الخيرات وألا يستكثر عمله بل يتبع الطاعة بالطاعة ويرتقي من حال إلى حال ويركب طبقاً عن طبق،فمجاهدة النفس وتزكيتها هي عملية متواصلة لا تنتهي إلا بانتهاء حياة الإنسان.
وفي القرآن الكريم يقول ربنا عزوجل: "لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر"فالإنسان في جميع مراحل حياته متذبذب بين تقدم أو تأخر فلا مجال للسكون والاستقرار على حال واحدة ،وكل غفلة عن التقدم بالنفس هو بالضرورة تأخر بها،ومن هنا كان تجديد الإيمان فريضة قرآنيةً وضرورة بشرية حتى لايبلى،
وفي ذلك يقول الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا"،
فكيف يؤمن من هو مؤمن أصلاً والجواب هو بالاستمرار على هذا الإيمان وتجديده وزيادته،
فتجديد الإيمان هو تجديد لقوة الدفع التي تحول دون سقوط الإنسان بفعل الجاذبية ،وهي الضمانة لاستمرارارتفاعه في السماء: "ولو نشاء لرفعناه بها"،
أي أن الإنسان المؤمن مطالب بأن يكون مثل مركبة الفضاء فيزود نفسه بصواريخ دافعة متعددة المراحل ،ليتحرر من نطاق الجاذبية،ولا يكون كالحجر الذي تنفد طاقته سريعاً فيهوي إلى الأرض،وتطبيق ذلك في حياتنا العملية أن يطور الإنسان دائماً من نفسه وألا يتوقف عن الإبداع والتجديد وأن يبتكر وسائل جديدة ويبحث عن ميادين مبتكرة لفعل الخيرات وألا يتوقف عن الطموح والارتقاء بنفسه من حال إلى حال،وليحذر بأن كل غفلة عن التقدم والتطوير والإبداع هي بالضرورة تأخر وضمور وانكفاء،
وأنه بينما يتطلب الارتفاع بذل جهد متواصل للدفع فإن السقوط لا يتطلب أكثر من الغفلة عن بذل ذلك الجهد،ومثال ذلك في الصلاة فحتى يحافظ الإنسان على خشوعه فإن عليه مواصلة التركيز وبذل الجهد في استحضار معاني الآيات،وأما التفات القلب فلا يحتاج لأي جهد سوى الغفلة وشرود الذهن. 

وخطورة السقوط أن الإنسان لا ينتبه إليه لأن تفكيره يتجمد في نقطة من نقاط الزمن فيظن أنه لا يزال بعافية وخير ولا يلاحظ انسحاب بساط الزمن من تحت قدميه ،وتقدم الآخرين على حسابه وهذا ينطبق على الأفراد والجماعات والأمم والحضارات.
من أوجه الشبه أيضاً بين المادة والنفس في تأثير الجاذبية الأرضية أنه كلما خف وزن المادة كلما كانت أكثر قدرة على التحليق في الهواء،لذلك تحلق قطعة الورق بخفة في الهواء بينما تسقط قطعة الحديد سريعاً
،ونفس الشيء نجده في حياة الإنسان،فكلما تخفف الإنسان من أحمال الدنيا وأثقالها كلما كان ذلك عوناً له في دخول ملكوت السماء والاقتراب من الله،أما من يحمل أثقالاً من المظالم ويدنس نفسه في أوحال الأرض وطينها ،وطين الأرض هو كناية عن الشهوات والأهواء، فأولئك الذين "لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط".

هذا الحديث عن تأثير الجاذبية الأرضية على النفس البشرية لا نقصره على الإنسان المفرد،ولكنه يصلح أيضاً لتفسير سقوط الجماعات والحركات والأمم والحضارات، فالجماعة ليست سوى تجمع للأفراد وما ينطبق على الأفراد من قوانين ينطبق على الجماعات أيضاً،فالأمم بحاجة إلى قوة دفع دائمة ومتجددة لتحمي نفسها من جاذبية السقوط،وحين تغتر أمة من الأمم بإنجازاتها وتستكثر أعمالها وتتوقف عن الإبداع والتجديد وتستكبر عن المراجعة والتقويم فإن مسيرتها تبدأ في منحنى النزول والتأخر وتتقدم أمة أخرى لتقود الحضارة،
وهذا قانون عام يفسر لنا سقوط كل الحضارات بما في ذلك الحضارة الإسلامية حين توقفت عن الإبداع الحضاري فتستمر في التألق حيناً من الدهر بفعل قوة الدفع الأولى "كما سماها المفكر الإسلامي مالك بن نبي"، ثم لا تلبث أن تنطفئ ويخبو إشعاعها : (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق