الجمعة، 27 أغسطس 2010

عدالة القرآن

أحمد أبو رتيمة

تأملوا معي هذا المشهد الرائع من سورة النساء الممتد من الآية 105 إلى الآية 113

يقول الله في إحدى آياته:"ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً"..

ربما يكون مفاجئاً للبعض بأن البرئ الذي تذكره الآية وكان سبباً في نزول هذه الآيات، هو يهودي كان يسكن في المدينة واتهم بالسرقة، فغار الله في سمائه وأبى إلا أن يحق الحق، فأنزل نحواً من عشر آيات بينات انتصاراً ليهودي، وماذا يعني أن يكون يهودياً، يعني ذلك أنه يكذب بالقرآن، القرآن ينتصر لمن لا يؤمن به أصلاً ويعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على تصديقه لمن اتهمه "ولا تكن للخائنين خصيماً"

إن القرآن لم يصمت ولم يواري ويداري، ولم ينزل جبريل لينبه النبي في السر بأن اليهودي مظلوم، بل نزلت الآيات على الملأ تتلى إلى يوم الدين بأن اليهودي المكذب بالقرآن على حق.

إن هذا المشهد القرآني هو شهادة لدين الإسلام، فهو ليس عنصرياً ولا فئوياً بل هو رحمة للعالمين، وهو مبدأ إنساني عام لا يقدم أي اعتبار سياسي أو مصلحة فئوية على إقامة العدل..

لكن العدالة في القرآن لا تقف عند هذه الآيات، بل تمتد لتكون سمةً مميزةً له في جميع آياته وأحكامه، هذه العدالة لا تتأثر بخصومة وعداوة، فتجده منصفاً حتى مع الأمم التي أساءت إلى الله، ومن ذلك اليهود الذين قالوا في حق الله جل في علاه قولاً عظيماً، ومع ذلك ظل القرآن منصفاً لهم مبتعداً عن لغة التعميم فقال عنهم: ليسوا سواءً، وقال: منهم المؤمنون، وقال: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون..

بينما في واقعنا البشري إن اختصم أحدهم مع شخص من إحدى العائلات، ثم سئل عن تلك العائلة لقال: كلهم سيئون، إياك والتعامل مع أحد منهم، ونفس أسلوب إصدار الأحكام العامة نجده في التعامل مع الشعوب والأمم الأخرى وحتى مع الأحزاب السياسية حين تختلف مع بعضها فالحزب الآخر أفراده كلهم عملاء أو خونة وكل حزب بما لديهم فرحون.

التعميم فيه مجانبة للعدل، فليس من العدل أن نطلق صفةً عامةً على أمة أو شعب أو حزب أو عائلة، ولكن أسلوب التبعيض كما علمنا القرآن فمنهم ومنهم وهم ليسوا سواءً..

حتى في التعامل مع الشخص الواحد ينبغي أن نتحرر من النظرة الثنائية، فلا نتعامل مع الناس بأنهم إما ملك وإما شيطان، إما مقدس وإما دنس ولكن العدل أن نحكم على الموقف والعمل فنتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم، وإذا ظهر من الإنسان عمل سئ فهذا لا يعني أن نقطع أي صلة به، وأن نحكم عليه بالإعدام المعنوي وأنه لن يفعل في حياته خيراً قط، ولكن نرفض عملاً ونقبل آخر، والنبي صلى الله عليه وسلم لم تدفعه محاربة قريش له وإخراجه من بيته بأن يخرج عن شهادة العدل قيد أنملة فقال عن حلف الفضول الذي أنشئ في الجاهلية:لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت.

وكما أنه ليس من العدل شيطنة الخصم، فليس من العدل كذلك التعامل مع القريب بأنه ملاك كريم منزه عن الخطأ، فلا يعني أن يكون الإنسان موالياً أو صديقاً أو قريباً أنه معصوم وأن كل ما يصدر منه مبرر ويجب الدفاع الأعمى عنه، ونجد ذلك في هدي النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي ذر رضي الله عنه:إنك امرؤ فيك جاهلية، فكونه صحابي ومن السابقين إلى الإسلام لا يمنع انتقاده في موقف أخطأ فيه.

يخشع المرء حين يتأمل الأسلوب القرآني واتسامه بالموضوعية حتى في حديثه عن الشياطين التي هي رمز الشر فيتحدث عن تسخيرهم للعمل مع سليمان عليه السلام:{وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}..هكذا "وكنا لهم حافظين" بأسلوب موضوعي دون التعريج إلى كونهم شياطين بينما إذا أراد كثير من الناس الحديث عن عدو له أكال سيلاً من السباب والشتائم والشيطنة له قبل أن تفهم جملةً مفيدةً تخبر عن الموضوع الذي يريد الحديث عنه..وهذا الأسلوب الموضوعي نجده جلياً في قصة بني إسرائيل في سورة الأعراف، ففي آيتين متتابعتين يثني في الأولى على صبر بني إسرائيل على أذى فرعون، وفي الآية التي تعقبها مباشرةً يتحدث عن قولهم لموسى عليه السلام:اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة..وكم هو عظيم أن يصل الإنسان إلى هذه الدرجة من العدل والصدق والموضوعية.

إن القرآن قد جاء برسالة العدل المطلق الذي لا يتأثر بقرابة أو عصبية أو حب أو كره، فالإنسان يقول الحق ولو على نفسه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا"

وهي درجة لا يبلغها الإنسان بسهولة بل تحتاج إلى مجاهدة وتدريب "وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ".

هذه العدالة القرآنية هي التي دفعت الصحفية البريطانية إيفون ريدلي إلى اعتناق الإسلام بعد خروجها من أسر طالبان عام 2001 ، وحين سئلت عن سبب ذلك وهي التي كانت تعد ذلك المستحيل بعينه فقالت: لقد درست القرآن فأذهلتني العدالة المطلقة فيه..

لكن هذا التباهي بعدالة القرآن لن ينفعنا في شئ وسيكون حجةً علينا لا حجةً لنا إن لم نستفد منه في حياتنا العملية فنوطن أنفسنا أن نكون قوامين لله شهداء بالقسط، فلا نؤثر العصبية والجاهلية والحزبية على شهادة الحق، ولا يجرمنا شنآن قوم على ألا نعدل اعدلوا هو أقرب للتقوى..

إن أمة الإسلام ينبغي أن تكون أمة مبادئ وإنسانية وليست أمة مصالح وأطماع وعصبية، وكل اعتبارات السياسة لا تبرر أن يظلم إنسان واحد، أو أن يسكت عن قول شهادة الحق على الملأ ولو كان فيها إدانة للذات و مصلحة للأعداء..

وبذلك نكون قد نلنا الأهلية الأخلاقية للتمكين في الأرض ليس بالقوة والإكراه والاستعلاء على الشعوب، ولكن بالعدل والكلمة السواء..

"والله يقول الحق وهو يهدي السبيل"..

الجمعة، 20 أغسطس 2010


في المعارضة حياة..

أحمد أبورتيمة-كاتب من فلسطين

abu-rtema@hotmail.com

في بلادنا العربية نضيق ذرعاً بكل من يعارضنا الرأي، ونعتبره خطراً يهدد وجودنا، ونظن أن أمارة الصحة والعافية هي ألا يسمع إلا صوت واحد ورأي واحد، وأن ذلك مؤشر على استقرار البلاد وأمنها..

هذه الطريقة في التفكير هي في بعدها النفسي العميق من أشكال الشرك الخفي الذي يناقض مبدأ التوحيد، لأن من يريد ألا يكون هناك معقب لحكمه، وأن يكون الأمر كله له ويظن أن رأيه هو الحق الذي ليس بعده إلا الضلال، فهو يظن أنه وصل إلى درجة الكمال، وهو بذلك ينازع الإله في صفاته، إن لم يقل ذلك بلسان المقال فبلسان الحال..وهذا يدل على أن كثيرين منا يعيشون في جاهلية وشرك..

التوحيد الحقيقي يعني أنه لا يوجد إلا إله واحد في السماء، أما من على الأرض فكلهم بشر يصيبون ويخطئون، وكونهم يخطئون فهذا يؤكد الحاجة إلى وجود من ينبههم إلى أخطائهم، وهذا هو دور المعارضة..

لذا فإن المؤمن الحقيقي بوحدانية الله وبقصوره البشري لا يضيق ذرعاً بوجود الرأي الآخر بل يرى فيه ضرورةً حيويةً لإكمال نقصه، فلو لم تكن هناك معارضة لبحث عنها وأوجدها بنفسه ليستفيد منها عملاً بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي".

هذا الترحيب من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالمعارضة لم يكن نظرياً فحسب بل نجد ذلك في سيرته العملية حين وقف أعرابي يعترض عليه في المسجد، فلم يسكته لأنه أفقه منه، ولم يزاود عليه بتاريخه النضالي في الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم بل فرح بوجود هذا النفس المعارض، وحمد الله على الوعي المبكر من قبل الأمة بدورها تجاه الحاكم وقال كلمةً دخلت التاريخ: لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها..


إن دور الشعوب ليس هو التصفيق للحاكم والاكتفاء بعدّ مناقبه وإنجازاته فهذا يصيبه بالغرور، إنما دورها أن تراقبه وتنصح له وتحاسبه، والحاكم الراشد يرحب بهذه المعارضة ليس ترحيباً للمجاملات والعلاقات العامة وحسب، بل يستفيد منها في تقويم سلوكه وتحسين أدائه.

أما الذين يضيقون ذرعاً بالمعارضة فهم إنما يتبعون خطا ابن آدم الأول حين قال لأخيه "لأقتلنك"، وفي هذه الكلمة تلخيص لثقافة الإلغاء والإقصاء والرغبة في التفرد بالأمر.

إن المعارضة البناءة تكمل دور الحاكم ولا تناقضه لأنها من حيث موقعها في المعارضة ومخالطتها للجماهير ترى ما لا يراه الحاكم فتكون أكثر انتباهاً لأخطائه فرداً كان أم حزباً، أما الحاكم فإن انشغاله بمسئوليات الحكم يغرقه في التفاصيل فتغيب عنه رؤية الصورة الكاملة، وبذلك تقع الأخطاء والتجاوزات، فتكون الحاجة إلى وجود فرامل تضبط السير وتمنع الانزلاق نحو الهاوية..

أما في ظل غياب المعارضة فإن الأخطاء -وهي حتمية الوقوع كون الحاكم بشراً- لن تجد من يعالجها مما سيؤدي إلى تفاقمها وتراكمها حتى تصل بالمجتمع إلى الهلاك.

حتى لو كان للمعارضة أهدافها الحزبية من انتقادها للحكومة كما تتذرع بذلك الحكومات المستبدة لتبرير قمعها فإنه لا بأس في ذلك ما دامت هناك خطوط وطنية عامة يلتزم بها الجميع، ويمكن توظيف هذه الحزبية بشكل إيجابي لأن سعي المعارضة لتسجيل نقاط لصالحها يجعلها تنظر إلى أخطاء الحكومة بمنظار مكبر، وهذا شيء إيجابي، لأن تكبير الخطأ يساهم في التنبيه إليه، ومن ثم معالجته..

إن جدلية العلاقة بين الحكومة والمعارضة يمكن تلخيصها بالتعبير القرآني "أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"..إذا ضلت الحكومة ذكرتها المعارضة بتسليط الضوء على أخطائها فتضطر الحكومة للتراجع إن لم يكن رغبةً فإلجاءً.

وإذا كانت فلسفة الوجود قائمةً على قانون الزوجية "ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون"، والتزاوج هو سبب النمو والتكاثر، فإن هذا الشيء ينطبق على زوجية الحكومة والمعارضة، فوجودهما معاً يؤدي إلى تطور المجتمعات ونموها، بينما الاستفراد يؤدي إلى الاستبداد والفساد.

إن وجود معارضة قوية فاعلة هو ضمانة للمجتمع تحميه من الاستبداد، والحاجة إلى المعارضة لا يلغيها أن تكون الحكومة راشدةً أو رشيدةً، فمهما بلغت كفاءة الحكومة فإن رأي الواحد ليس كرأي الاثنين مهما بلغت حكمة ذلك الواحد، ومهما كثرت إنجازات الحكومة المستبدة فإن ذلك لن يغفر لها الخطيئة الكبرى وهي مخالفة مبدأ الشورى والاستفراد في الحكم..

لقد قرر القرآن في أول سورة نزلت قاعدةً مهمةً تصلح أن نتخذها أساساً للحياة السياسية، وهي "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"..فالأصل في الإنسان هو الطغيان وحب الاستبداد إلا من رحم ربك، والبيئة الاجتماعية هي التي تقاوم هذه النزعة أو تنميها، فإذا كانت تلك البيئة تشجع الاستفراد في الحكم وتعطي الثقة المطلقة للحاكم دون رقيب أو حسيب فإن ذلك سيشجعه على الاستبداد، كما يقول المثل العامي (المال السايب بيعلم السرقة)، والفرق بين حاكم غربي ديمقراطي، وآخر عربي مستبد ليس أن الأول هو أتقى وأخشى، ولكن لأن بيئة الحكم في بلاده لا تسمح له بإطلاق العنان لأهوائه، ولو تبدلت الأدوار وحكم بلداً عربياً لما اختلف كثيراً عن حكامها.

لذلك فلا رهان على تقوى الإنسان وإيمانه الفردي، لأن الفرد لا تؤمن فتنته، والضمانة الحقيقية للحكم الرشيد هي المشاركة السياسية وآليات الحكم الجماعي وتعزيز الشورى وتقوية المعارضة والتداول السلمي للسلطة..

إن مشكلة ثقافتنا العربية أنها تعزز الفردية في الحكم ، فيكثر عندنا استعمال تعبيرات مثل أن الحاكم الفلاني رجل طيب، وحتى في دعائنا فإن ثقافة الفردية هي المهيمنة فندعو الله بأن يهيئ للأمة قائداً ربانياً، وما ينقصنا قبل القائد الرباني هو الأمة الربانية، وحينها يكون هناك قادة ربانيون وليس واحداً، وهناك من يرى الحل في وجود خليفة، وثالث ينتظر المهدي المنتظر، ورابع يبحث عن صلاح الدين أو عن المعتصم، وكل هؤلاء يتفقون في تصورهم بأن الحل السحري سيأتي على يد فرد واحد ملهم وليس من خلال نظام حكم جماعي، ونصفق كثيراً حينما نقرأ قصة عن كرم أحد الخلفاء حين أمر بآلاف الدنانير لأحد الشعراء مكافأةً له على إحدى قصائده، ولا نتساءل عن آليات الرقابة والشفافية والمحاسبة، وأين كان دور الخزانة ووزارة المالية..كل هذه الأدبيات تكشف عن تغلغل ثقافة الفردية في مجتمعاتنا، وأننا لا نرى الحل إلا من خلال حاكم عادل مستبد..

إن الإسلام يفرض علينا أن نعدل حتى مع أعدائنا، وإننا ملزمون بالاعتراف للغرب بأنه سبقنا في هذا العصر بتعزيز آليات الحكم الجماعي والمحاسبة، وخير ما فعله في هذا المضمار أنه نزع الحكم من الأفراد، فالحاكم مهما علا قدره لا يزيد دوره عن موظف يؤدي وظيفته في خدمة شعبه بضع سنين، وإذا أخطأ فالمعارضة له بالمرصاد..

ربما نسمح في بلادنا العربية لوجود معارضة بصلاحيات محدودة، ولكن دورها أقرب إلى ديكور تجميلي للأنظمة المستبدة التي تضع لها سقفاً يحظر تجاوزه، وبذلك تفقد مضمونها فالمعارضة الفاعلة هي التي تذهب إلى آخر مدىً في معارضتها السلمية للحاكم، وليس من حقه أن يمنعها، بل يكون من حقها إخراجه من الحكم بطريقة سلمية، لا أن تكون معارضتها منةً من الحاكم، لأن الديمقراطية التي تعطى بقرار فوقي تنزع بقرار فوقي أيضاً، بل تكون نابعةً من إدراك بتساوي الحقوق العامة بين المعارضة والحكومة.

حين تتعزز في بلادنا ثقافة الشورى وآليات الحكم الجماعي وأجهزة المراقبة والمحاسبة والتدقيق وسيادة القانون على الجميع فإنه لن يختلف كثيراً أن يكون الحاكم ربانياً أو دون ذلك لأنه سيكون مقيداً بآليات صارمة تحاسبه على كل خطوة يخطوها، ومعارضة تترصد له كل حركة وسكنة، وإذا لم يثبت كفاءته في موقعه، فإن عليه أن يغادره ويخليه لمن بعده..ومفهوم الحاكم الرباني هو الذي يعمل وفق مبدأ الشورى والمشاركة والتناصح..

إن وجود حاكم متواضع الكفاءة في نظام ديمقراطي خير من وجود حاكم عبقري ملهم في نظام فردي، لأن الأول سيعوض نقصه توزيع السلطات ووجود آليات المحاسبة والتدقيق التي ستقيله بعد ذلك إن لم يؤد أمانته، أما الثاني فإن استفراده في الحكم سيدفعه غالباً إلى التقصير في أداء مهمته، واتباع أهوائه البشرية فيقرب من يحب ويبعد من يبغض دون اعتبار للمصلحة العامة، وبذلك يسير بالبلاد نحو الهاوية..

في بلادنا العربية نبرر قمع المعارضة بالتشكيك في مقاصدها أو المزاودة عليها بالتاريخ النضالي وخدمة الوطن، وهذا ليس إلا نتيجة جهل سياسي، لأن ما يهمنا هو الظاهر، فإذا كان احتجاجها في محله فإننا نستفيد منه في معالجة الخطأ وتدارك موطن القصور، وإن لم يكن في محله، رددنا على الكلمة بالكلمة وأوضحنا موقفنا للرأي العام بالحجة والبرهان..

إننا بحاجة ملحة إلى تعزيز ثقافة المعارضة في بلادنا العربية والسماح لكل ذي رأي بالتعبير عن رأيه بحرية مهما بدا ذلك الرأي سخيفاً أو لا يستحق المناقشة، لأن إيجاد أجواء من النقاش الحر تحت الشمس هو الذي يقضي على الجراثيم الفكرية، أما القمع والملاحقة فإنه سيوجد جواً غير صحي تفرخ فيه الأفكار المنحرفة التي ستنتج العنف والتطرف ..

إن الوطن ليس ملكيةً خاصةً لفرد أو حزب، ولكنه السفينة التي يركبها الجميع، وحين يخرقه أحدهم فإن الجميع مهدد بالغرق.لذا فمن حق الجميع أن يدلي بدلوه وفق ما يراه صواباً وخيراً للمجتمع .

والله أعلى وأعلم..


الأحد، 15 أغسطس 2010

لا تقتلوا الحب..

أحمد أبورتيمة-كاتب من فلسطين

abu-rtema@hotmail.com

بالحب تصفو النفوس، ويشيع السلام بين الناس، فيحيون إخوةً متحابين تنمو بينهم الطمأنينة والثقة، ويمسي أحدهم آمناً في سربه، وبالحب نغزو قلوب الناس ونملكها، ونهزم مشاعر الحقد والغل والكراهية، حتى في نفوس الأعداء فيتحولون إلى أصدقاء.

هذه الوصفة الناجعة نبهنا إليها القرآن الكريم فقال:"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، ونصح بها المسيح عليه الصلاة والسلام حوارييه فقال:أحبوا أعداءكم.

وهو لا شك أمر شاق على النفس أن تحب عدوها الذي يكن لها البغضاء، وبلوغ هذه الدرجة العظيمة بحاجة إلى مجاهدة ومكابدة طويلة، لذلك عقب القرآن فقال:"وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".

وصول هذه المرحلة بحاجة إلى تصبر وتدرب شاق، على العفو عن الإساءة، والتماس العذر للمسئ، ومحاولة تفهم ظروفه، وتنقية القلب من الخواطر السلبية، حتى يصير أبيض كالثلج لا يحمل غلاً ولا ضغينةً لأحد.

وقد خاطب القرآن الصحابة مخبراً عن حالهم فقال:"هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم"، وفي هذا إخبار عن حال وقع فعلاً، وهذا أبلغ من الأمر بالمحبة "أحبوا أعداءكم"..كذلك صور القرآن حال الصحابة الذين قدموا أروع مثال لمحبة الإنسان لأخيه:"يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

حين يحب المرء عدوه فإنه يحرر قلبه من الأغلال والضغائن، ويتعالى عن الإخلاد لأثقال الأرض والطين، ويحلق في سماء الروح، وهذا الحب ينتج عن الفصل بين المريض والمرض فأنت تحب في الذي بينك وبينه عداوة النفخة الإلهية، والروح الإنسانية، دون أن يعني هذا الرضا والإقرار بجاهليته، كمثل الطبيب الذي يعمل للقضاء على المرض، ليس لأنه يكره المريض، بل إن دافعه في ذلك هو الرغبة في شفائه. وحين ترتفع أخلاق الإنسان فإنه ينظر إلى الناس في ضلالهم بأنهم مرضى يستحقون الشفقة والرأفة بحالهم فهو طبيبهم الحريص على علاجهم، ولا ينظر إليهم نظرة ازدراء وتعال أو كره ورغبة في التشفي والشماتة، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ذو الخلق العظيم، الذي بلغ به شدة حبه للناس وحرصه على هدايتهم أن تطلب الأمر جرعةً توازنيةً من الوحي حتى لا يهلك من شدة خوفه على قومه فينزل القرآن مخاطباً إياه:"إنك لا تهدي من أحببت"، ويخاطبه:"فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً"..

ونصوص الكتاب والسنة تفيض بهذه الدعوة السلامية، فالكلمة الطيبة صدقة، والقرآن يدعو إلى الأحسن في الفعل والقول "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن"، "وقولوا للناس حسناً"، ولأن الإسلام حريص على إقامة المجتمع المتحاب المتماسك كانت هذه الطريقة الرائعة لإرساء المحبة بين الناس" "ألا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم".

وفي مقدمة الحديث أن المحبة هي شرط الإيمان، فإذا لم توجد المحبة فلا إيمان "لن تؤمنوا حتى تحابوا".

وقد كان منهج الأنبياء في دعوة أقوامهم أنهم يتوجهون إليهم بروح الأخ الناصح الأمين يخاطبونهم بلين وإشفاق "ياقوم إني أخاف عليكم"، وهذه الكلمات التي تتكرر كثيراً في القرآن لمن تأملها تنبض بالحب والرحمة والشفقة والحرص على خير الناس، فالمرء يخاف على من يحب..

إن هذه الروح الخيرة السلامية هي التي تجذب الناس وترقق قلوبهم، وتستثير كوامن الخير في نفوسهم، أما الخطاب الفظ الغليظ المتعالي فإنه يعمق الفجوة، وينفر الناس ويدفعهم إلى المعاندة والإعراض عن نداء الهداية، وبذلك يكون أصحاب المبادئ عامل طرد لا عامل جذب حتى وإن كانوا على حق.

إن الناس في زماننا هذا تحتاج هذه الروح النبوية الرحيمة. إنهم يبحثون عن مسحة حانية وقلب رحيم يشعرهم بالرغبة الصادقة في جلب الخير لهم..إن الخطب والدروس والكتابات الجافة المجدبة من العاطفة والرحمة لا تترك أثراً عميقاً في النفوس، إن الناس في هذا الزمان الذي طغا فيه الجشع المادي والأطماع السياسية تبحث عمن يعيد الاعتبار لإنسانيتها ويخاطب فيها أشواق الروح..

إننا في حديثنا مع الناس، في المقالة والمحاضرة والمناقشة مطالبون بأن نبتعد عن الحديث الجاف، وأن تكون كلماتنا حيةً تنبض بالحب والسلام، وتحفر في الوجدان، أن نتحلى بمنهج "ياقوم إني أخاف عليكم".

حتى حين نختلف في الرأي ونختصم في السياسية ألا نفجر في الخصومة، فلا يغيب من حديثنا التسامح واللين في القول، وأن نتجنب استعمال الكلمات التصادمية العنيفة، بل نستعمل الكلمات التقريبية التأليفية، وإذا انتقدنا فبسهولة ورفق بعيداً عن التجريح والاتهام والفحش في القول، فما دخل الرفق في شئ إلا زانه وما نزع من شئ إلا شانه.

إن المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة والدفع بالتي هي أحسن هي التي تهزم الشر في النفوس فينقلب العدو إلى ولي حميم.

الخطاب اللين الرحيم يقضي على بذور الكراهية، ويجهض التفكير الشرير في مهده. ويرفع الغطاء الأخلاقي عن الذين يتربصون بالمجتمع السوء، فيعزلهم عن الوسط المحيط، وبذلك يصعب عليهم مهمة تنفيذ مخططاتهم الشريرة، أما الخطاب الذي ينضح بالعنف والقسوة فإنه يوفر لهم المبرر الذي يستندون إليه في تنفيذ مكائدهم، ويهيئ البيئة المناسبة التي تفرخ العناصر المتطرفة التي تمارس العنف.

إن لغة السباب والشتائم وتقاذف اللعنات وشيطنة الخصوم، وهي موجودة مع الأسف في فضائياتنا وصحافتنا، لن تقنع أحداً بل ستفض الناس من حولنا لأن النفس البشرية تنفر من الكلمات الغليظة القاسية بينما يجذبها الخطاب الحاني التأليفي الوحدوي.

إن أكثر ما تفعله لغة السب والشتم والإغلاظ في القول أنها تفرغ الطاقة المكبوتة بطريقة سلبية ليشعر صاحبها براحة مؤقتة، وفي مقابل ذلك تؤدي إلى تعميق الكراهية وتوتير النفوس وشد الأعصاب، وتهيئة الأجواء الاجتماعية لمزيد من التفكك والصدام، وقطع طريق الرجعة على المصالحة وتأليف ذات البين.

لقد علمنا القرآن منهجاً رائعاً بأن نبقي باباً للرجعة مهما بلغت العداوات، وألا نقطع شعرة معاوية مهما استشرت الخصومات فقال: "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً"، وختم الآية "والله غفور رحيم"، إذ أن التأليف والتصالح هو من مظاهر رحمة الله بعباده.وهذا المعنى يؤكده الحديث أو القول المأثور أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما..

إن الحب ينبع من القلب ثم يفيض فيرى أثره في الكلمة والنظرة والسلوك..إن الحب عطاء وهو الذي يخرج من الإنسان أفضل ما عنده، إذ تتجلى النفخة الإلهية فتستثار كوامن الخير وتختفي عوارض الشر، وكما تعلمت من أستاذي المفكر جودت سعيد أن الإنسان بالحب والإقناع يقدم روحه وكل ما يملك، بينما بالإكراه لا يعطي إلا الحد الأدنى اضطراراً تحت ضغط التهديد.

إن الكره يخرج من الإنسان أضغانه، ويحوله إلى شيطان مريد..

الحب يعود على الإنسان بالطمأنينة القلبية والصحة النفسية، بينما الكراهية تشعل القلوب بالوساوس والشكوك، والقلق الذي تنتج عنه الأمراض والآفات، فيرتد ضررها على الذات ويمارس صاحبها انتحاراً بطيئاً.

إن الحب والتسامح هو جنة الدنيا وكما قيل فإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وحتى ندخل الجنة فإن علينا أن نتخلق بأخلاق أهلها، فننزع ما في صدورنا من غل، ويصبح كلامنا في الدنيا سلاماً سلاماً وبذلك نتهيأ لأن ينادى علينا يوم القيامة "ادخلوها بسلام آمنين"، فندخل دار السلام لا خوف فيها ولا هم يحزنون تحيتهم فيها سلام، ونحيا كما قال ربنا: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين"، "لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً إلا قيلاً سلاماً سلاماً".

إننا بحاجة إلى صناعة المحبة ابتداءً من البيت فنكون لأبنائنا حضناً دافئاً ونغدق عليهم الحب والحنان حتى يفيضوا به على الناس، لأن فاقد الشئ لا يعطيه، ونعودهم على العطاء والإحساس بالآخرين والسعي لتقديم الخير لهم، كما أن وسائل الإعلام مطالبة بأن تبث هذه الروح السلامية فتسدد وتقارب، وتقول التي هي أحسن، في خطاب وحدوي تجميعي تقريبي، وبذلك نصنع المجتمع المؤمن المتحاب المتكافل، وتكون على الأرض جنة قبل جنة الآخرة..

"رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"

والله أعلى وأعلم..