الأحد، 15 أغسطس 2010

لا تقتلوا الحب..

أحمد أبورتيمة-كاتب من فلسطين

abu-rtema@hotmail.com

بالحب تصفو النفوس، ويشيع السلام بين الناس، فيحيون إخوةً متحابين تنمو بينهم الطمأنينة والثقة، ويمسي أحدهم آمناً في سربه، وبالحب نغزو قلوب الناس ونملكها، ونهزم مشاعر الحقد والغل والكراهية، حتى في نفوس الأعداء فيتحولون إلى أصدقاء.

هذه الوصفة الناجعة نبهنا إليها القرآن الكريم فقال:"ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"، ونصح بها المسيح عليه الصلاة والسلام حوارييه فقال:أحبوا أعداءكم.

وهو لا شك أمر شاق على النفس أن تحب عدوها الذي يكن لها البغضاء، وبلوغ هذه الدرجة العظيمة بحاجة إلى مجاهدة ومكابدة طويلة، لذلك عقب القرآن فقال:"وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".

وصول هذه المرحلة بحاجة إلى تصبر وتدرب شاق، على العفو عن الإساءة، والتماس العذر للمسئ، ومحاولة تفهم ظروفه، وتنقية القلب من الخواطر السلبية، حتى يصير أبيض كالثلج لا يحمل غلاً ولا ضغينةً لأحد.

وقد خاطب القرآن الصحابة مخبراً عن حالهم فقال:"هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم"، وفي هذا إخبار عن حال وقع فعلاً، وهذا أبلغ من الأمر بالمحبة "أحبوا أعداءكم"..كذلك صور القرآن حال الصحابة الذين قدموا أروع مثال لمحبة الإنسان لأخيه:"يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

حين يحب المرء عدوه فإنه يحرر قلبه من الأغلال والضغائن، ويتعالى عن الإخلاد لأثقال الأرض والطين، ويحلق في سماء الروح، وهذا الحب ينتج عن الفصل بين المريض والمرض فأنت تحب في الذي بينك وبينه عداوة النفخة الإلهية، والروح الإنسانية، دون أن يعني هذا الرضا والإقرار بجاهليته، كمثل الطبيب الذي يعمل للقضاء على المرض، ليس لأنه يكره المريض، بل إن دافعه في ذلك هو الرغبة في شفائه. وحين ترتفع أخلاق الإنسان فإنه ينظر إلى الناس في ضلالهم بأنهم مرضى يستحقون الشفقة والرأفة بحالهم فهو طبيبهم الحريص على علاجهم، ولا ينظر إليهم نظرة ازدراء وتعال أو كره ورغبة في التشفي والشماتة، هكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم ذو الخلق العظيم، الذي بلغ به شدة حبه للناس وحرصه على هدايتهم أن تطلب الأمر جرعةً توازنيةً من الوحي حتى لا يهلك من شدة خوفه على قومه فينزل القرآن مخاطباً إياه:"إنك لا تهدي من أحببت"، ويخاطبه:"فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً"..

ونصوص الكتاب والسنة تفيض بهذه الدعوة السلامية، فالكلمة الطيبة صدقة، والقرآن يدعو إلى الأحسن في الفعل والقول "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن"، "وقولوا للناس حسناً"، ولأن الإسلام حريص على إقامة المجتمع المتحاب المتماسك كانت هذه الطريقة الرائعة لإرساء المحبة بين الناس" "ألا أدلكم على شئ إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم".

وفي مقدمة الحديث أن المحبة هي شرط الإيمان، فإذا لم توجد المحبة فلا إيمان "لن تؤمنوا حتى تحابوا".

وقد كان منهج الأنبياء في دعوة أقوامهم أنهم يتوجهون إليهم بروح الأخ الناصح الأمين يخاطبونهم بلين وإشفاق "ياقوم إني أخاف عليكم"، وهذه الكلمات التي تتكرر كثيراً في القرآن لمن تأملها تنبض بالحب والرحمة والشفقة والحرص على خير الناس، فالمرء يخاف على من يحب..

إن هذه الروح الخيرة السلامية هي التي تجذب الناس وترقق قلوبهم، وتستثير كوامن الخير في نفوسهم، أما الخطاب الفظ الغليظ المتعالي فإنه يعمق الفجوة، وينفر الناس ويدفعهم إلى المعاندة والإعراض عن نداء الهداية، وبذلك يكون أصحاب المبادئ عامل طرد لا عامل جذب حتى وإن كانوا على حق.

إن الناس في زماننا هذا تحتاج هذه الروح النبوية الرحيمة. إنهم يبحثون عن مسحة حانية وقلب رحيم يشعرهم بالرغبة الصادقة في جلب الخير لهم..إن الخطب والدروس والكتابات الجافة المجدبة من العاطفة والرحمة لا تترك أثراً عميقاً في النفوس، إن الناس في هذا الزمان الذي طغا فيه الجشع المادي والأطماع السياسية تبحث عمن يعيد الاعتبار لإنسانيتها ويخاطب فيها أشواق الروح..

إننا في حديثنا مع الناس، في المقالة والمحاضرة والمناقشة مطالبون بأن نبتعد عن الحديث الجاف، وأن تكون كلماتنا حيةً تنبض بالحب والسلام، وتحفر في الوجدان، أن نتحلى بمنهج "ياقوم إني أخاف عليكم".

حتى حين نختلف في الرأي ونختصم في السياسية ألا نفجر في الخصومة، فلا يغيب من حديثنا التسامح واللين في القول، وأن نتجنب استعمال الكلمات التصادمية العنيفة، بل نستعمل الكلمات التقريبية التأليفية، وإذا انتقدنا فبسهولة ورفق بعيداً عن التجريح والاتهام والفحش في القول، فما دخل الرفق في شئ إلا زانه وما نزع من شئ إلا شانه.

إن المعاملة الحسنة والكلمة الطيبة والدفع بالتي هي أحسن هي التي تهزم الشر في النفوس فينقلب العدو إلى ولي حميم.

الخطاب اللين الرحيم يقضي على بذور الكراهية، ويجهض التفكير الشرير في مهده. ويرفع الغطاء الأخلاقي عن الذين يتربصون بالمجتمع السوء، فيعزلهم عن الوسط المحيط، وبذلك يصعب عليهم مهمة تنفيذ مخططاتهم الشريرة، أما الخطاب الذي ينضح بالعنف والقسوة فإنه يوفر لهم المبرر الذي يستندون إليه في تنفيذ مكائدهم، ويهيئ البيئة المناسبة التي تفرخ العناصر المتطرفة التي تمارس العنف.

إن لغة السباب والشتائم وتقاذف اللعنات وشيطنة الخصوم، وهي موجودة مع الأسف في فضائياتنا وصحافتنا، لن تقنع أحداً بل ستفض الناس من حولنا لأن النفس البشرية تنفر من الكلمات الغليظة القاسية بينما يجذبها الخطاب الحاني التأليفي الوحدوي.

إن أكثر ما تفعله لغة السب والشتم والإغلاظ في القول أنها تفرغ الطاقة المكبوتة بطريقة سلبية ليشعر صاحبها براحة مؤقتة، وفي مقابل ذلك تؤدي إلى تعميق الكراهية وتوتير النفوس وشد الأعصاب، وتهيئة الأجواء الاجتماعية لمزيد من التفكك والصدام، وقطع طريق الرجعة على المصالحة وتأليف ذات البين.

لقد علمنا القرآن منهجاً رائعاً بأن نبقي باباً للرجعة مهما بلغت العداوات، وألا نقطع شعرة معاوية مهما استشرت الخصومات فقال: "عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً"، وختم الآية "والله غفور رحيم"، إذ أن التأليف والتصالح هو من مظاهر رحمة الله بعباده.وهذا المعنى يؤكده الحديث أو القول المأثور أبغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما..

إن الحب ينبع من القلب ثم يفيض فيرى أثره في الكلمة والنظرة والسلوك..إن الحب عطاء وهو الذي يخرج من الإنسان أفضل ما عنده، إذ تتجلى النفخة الإلهية فتستثار كوامن الخير وتختفي عوارض الشر، وكما تعلمت من أستاذي المفكر جودت سعيد أن الإنسان بالحب والإقناع يقدم روحه وكل ما يملك، بينما بالإكراه لا يعطي إلا الحد الأدنى اضطراراً تحت ضغط التهديد.

إن الكره يخرج من الإنسان أضغانه، ويحوله إلى شيطان مريد..

الحب يعود على الإنسان بالطمأنينة القلبية والصحة النفسية، بينما الكراهية تشعل القلوب بالوساوس والشكوك، والقلق الذي تنتج عنه الأمراض والآفات، فيرتد ضررها على الذات ويمارس صاحبها انتحاراً بطيئاً.

إن الحب والتسامح هو جنة الدنيا وكما قيل فإن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وحتى ندخل الجنة فإن علينا أن نتخلق بأخلاق أهلها، فننزع ما في صدورنا من غل، ويصبح كلامنا في الدنيا سلاماً سلاماً وبذلك نتهيأ لأن ينادى علينا يوم القيامة "ادخلوها بسلام آمنين"، فندخل دار السلام لا خوف فيها ولا هم يحزنون تحيتهم فيها سلام، ونحيا كما قال ربنا: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين"، "لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً إلا قيلاً سلاماً سلاماً".

إننا بحاجة إلى صناعة المحبة ابتداءً من البيت فنكون لأبنائنا حضناً دافئاً ونغدق عليهم الحب والحنان حتى يفيضوا به على الناس، لأن فاقد الشئ لا يعطيه، ونعودهم على العطاء والإحساس بالآخرين والسعي لتقديم الخير لهم، كما أن وسائل الإعلام مطالبة بأن تبث هذه الروح السلامية فتسدد وتقارب، وتقول التي هي أحسن، في خطاب وحدوي تجميعي تقريبي، وبذلك نصنع المجتمع المؤمن المتحاب المتكافل، وتكون على الأرض جنة قبل جنة الآخرة..

"رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"

والله أعلى وأعلم..

هناك تعليق واحد: