السمع والطاعة أم الرأي والمشورة؟
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
قال لي صاحبي وهو يحاورني إن فلاناً أستاذ الشريعة القدير بينما كان يخطب الجمعة دخل الوزير المرموق من باب المسجد،فما كان من هذا الأستاذ إلا أن نزل من على المنبر وقدم الوزير للخطبة بدلاً منه تقديراً لمكانته ومنزلته.قلت: ولكنني أعرف علاناً وهو شاب صغير كان يخطب الجمعة ودخل ذلك الوزير ذاته من باب المسجد، فما كان منه إلا أن واصل خطبته وكأن شيئاً لم يحدث وجلس ذلك الوزير المرموق مثله مثل غيره يسمع لمن هو أصغر من أولاده.
هذا السلوك من ذلك الشاب لم يكن لأنه لا يفهم في الذوق والأصول، ولم يكن أيضاً بالضرورة لأنه أعلم وأتقى من ذلك الوزير، بل بحسب ما فهمت منه لأنه وجد في حضور ذلك الوزير فرصة لا تعوض لإحياء فريضة التناصح بين المسلمين، وإسماع كلمة الحق لأهل السلطان ، فاستشعر الأمانة واستثمر الموقف خير استثمار فتحدث عن ضرورة العدل وخطورة الظلم، وعظم المسئولية التي يتحملها الحاكم، وذكِّر بضرورة الالتفات إلى معاناة الناس والسعي إلى التخفيف منها، وختم خطبته بالتحذير من يوم القيامة وأهواله.
إنني أجد نفسي أميل إلى الرأي الثاني لأن ما ينقصنا اليوم ليس المزيد من التقدير والاعتبار للأشخاص، فالناس بفضل الله على قدر من الأخلاق، ولو أن كل إنسان سكت حين حضور المسئول وقدّمه للحديث بدلاً منه، فسيصبح المسئول هو المتحدث دائماً، والعامة هم المستمعون دائماً، وبذلك لن يعلم ما تخفيه صدور الناس، ولن تكون أمامه مرآة تبصره بنفسه وتكشف له مواطن قصوره، وكما في الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ‘إن من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع’.
لو كان الأمر يتعلق بعالم وحسب دون منصب حكومي لفضلت الرأي الأول، إذ أن مقتضى الأدب والأخلاق أن يتواضع الإنسان أمام من هو أعلم منه وأن يقدمه للحديث، مع الحفاظ على حق من هو أقل علماً في السؤال والمناقشة فكل يؤخذ منه ويرد، أما حين يقرن ذلك العلم بالوزارة، فإن الوزارة تغلب أمام الناس على العلم ، وهنا لا يكون المطلوب هو الصمت، بل أمانة الكلمة والنصيحة للحاكم ومصارحته بحقيقة الواقع من حوله بسيئاته وحسناته دون مواربة أو مجاملة.
وهنا تبرز الحاجة إلى ضرورة تشجيع الرأي الآخر على التعبير عن نفسه، وإيجاد مناخ حر للتفكير والنقد البناء، من أجل تقوية حضور المجتمع أمام مسئوليه، فينتقد ويعترض، ويحاسب ويسائل، ولا يكون دوره هز الرءوس وحسب .
إن من المبادئ التي أسيئ استعمالها في حياتنا هو مبدأ السمع والطاعة، فبهذا المبرر خنقنا الرأي الحر، وصادرنا حق الإنسان في التفكير والتعبير، ومارسنا الإرهاب الفكري في أبشع صوره، فمن يتجرأ ويبدي رأياً مخالفاً للتوجه العام فهو مثبط ومرجف، وفي أحسن الأحوال لا يفهم، والقيادة دائماً هي الحكيمة الرشيدة، فمهما كانت القرارات كارثيةً فبالتأكيد أن لدى القيادة رؤية أوسع من رؤيتنا وأنهم يعلمون ما لا نعلم، وحتى حين تصطدم تلك القرارات بصخرة الواقع ويبين فشلها فبالتأكيد أن هناك مبررات وحيثيات غابت عن عقولنا وليس علينا سوى السمع والطاعة.
بذلك أوجدنا العنصر المقلد الذي لا يفكر، فهناك من يفكر بالنيابة عنه، وهو لا يفقه من مبادئ الحياة سوى السمع والطاعة في المنشط والمكره والصواب والخطأ، ليس لديه رؤية واعية للأحداث من حوله.
خطورة هذا الواقع ليس على العناصر وحدها ولكن على القيادة أيضاً، لأنه يحرمها من قدرات وطاقات كانت ستستفيد منها لو أنها شجعتها على الإفصاح عن نفسها فالقيادة الواعية هي التي تربي قادةً لا أتباعاً،وحين نقهر الرأي الآخر فإننا نلغي الفرامل التي تضبط سيرنا،فنسرع نحو الهاوية دون إبطاء، والعاقل يؤمن بأن الرأي الآخر هو مصدر قوة له، لأنه يبصره بأخطائه ويهدي إليه عيوبه ويفتح أمامه آفاقاً جديدة.
وبقدر ما أعلى الإسلام من منزلة الشورى، وافترضها على الجماعة المؤمنة بقدر ما صادرناها في حياتنا.ربما تكون هناك مجالس وهيئات تحمل اسم الشورى، ولكنها أقرب إلى الديكور منها إلى التأثير الفعلي. أما الثقافة الراسخة في أذهاننا فلا تزال ثقافة الجند والعسكر، نفذ ولا تناقش، والمطلوب لترسيخ الشورى هو تربية أبنائنا عليها، وحثهم على التساؤل وإطلاق العنان للتفكير والاعتراض، وعدم التسليم بشئ دون مناقشة وفهم،
ويتعجب المرء حين يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد كان أكثر الناس مشاورةً لأصحابه في شئون حياتهم ، وكانوا يناقشونه في كل شئ ويتبعون السؤال بسؤال دون ملل، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم في حلم وصبر وسعة صدر دون أن يقول لهم لا تناقشوني فيما أفعل أو أقرر لأنني أفهم منكم، رغم أنه رسول الله يوحى إليه.
وفي غزوة بدر يناقشه صحابي مغمور لم نسمع باسمه قبل هذه الحادثة هو الحباب بن المنذر، ويقول له ليس هذا بالمنزل، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أشرت بالرأي.
بل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلح الحديبية يراجع النبي صلى الله عليه وسلم ويلح عليه، ولا يسكت بعد ذلك بل ويذهب إلى أبي بكر، ويراجعه ويلح عليه، ولنا أن نتصور ذلك المناخ من حرية التفكير والتعبير، الذي يدفع الصحابة إلى مناقشة النبي الذي يوحى إليه وعدم التسليم إلا بعد الاقتناع..
إن المجتمعات لا ترتقي إلا بإيجاد مناخ التفكير الحر، وإطلاق حرية التعبير والتساؤل وإلغاء أي خطوط حمراء تعيق حركة العقل، فالعقل هو الذي يمحو ويثبت وهو الطريق إلى فهم الإسلام والواقع.
إن تعزيز ثقافة التناصح والتشاور هو السبيل إلى إيجاد مجتمع واع مبدع ومجدد ومفكر، متحرر من التقليد والجمود، أما أسلوب الجندية والعسكر وما يعنيه من تسليم دون نقاش فلا يجوز استعماله إلا في أضيق نطاق، وحين التنفيذ، وليس في المناقشة والتخطيط، لأن استعماله الخاطئ مدمر وكارثي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق