مبدأ عدم التأكد في عالم الأفكار
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
شهد علم الفيزياء في القرن العشرين تطورين نوعيين لم تبق أهميتهما في حدود الفيزياء وحدها، بل تعدتها إلى البعد الفلسفي الذي نرى من خلاله الحياة بكل جوانبها، فأما التطور الأول فقد تمثل في المبدأ الذي وضعه العالم الألماني هايزنبرغ ليفسر به حركة الإلكترون وأسماه مبدأ عدم التأكد ومفاده أننا لا نستطيع الحصول على معلومات مؤكدة تماماً لمعرفة سرعة الإلكترون ومكان وجوده، وأن كل ما يستطيع أن يفعله علم الفيزياء هو أن تكون لديه تنبؤات إحصائية فقط وفق الاحتمالات والترجيح.
وأما التطور الثاني فقد تمثل في نظرية الانفجار العظيم التي تفيد بأن الكون آخذ في التمدد والازدياد، وهكذا فبعد أن كان العلم ينظر إلى الكون في القرون السابقة نظرةً استاتيكيةً ثابتةً، صار ينظر إليه بأنه ديناميكي متوسع "وإنا لموسعون"..
والإنسان بطبعه يميل إلى الاعتقاد بحقائق نهائية ثابتة مسلمة لأن ذلك يريحه من عناء مواصلة البحث والتجديد، وهذا هو منشأ الفلسفة التي سادت طوال القرون الماضية بأن الكون ثابت، لكن هذه النزعة نحو الراحة والسكون لا تستقيم والأرض تميد من تحتنا بالتغيرات، والإنسان تتفتح أمامه آفاق جديدة في كل يوم ويتعلم أشياء جديدة لم يكن يعلمها من قبل، فسنة الله هي التطور والتوسع "والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون"، "يزيد في الخلق ما يشاء".
القيمة الفلسفية لهذين التطورين هي أن الإنسان انتقل من لغة القطع والقول بالحقائق النهائية الثابتة التي كانت تسود خلال القرون الماضية إلى أن يكون أكثر تواضعاً وأن يتحدث بلغة الاحتمالات وألا يجد حرجاً في التعبير عن عجزه عن إدراك الحقائق كاملةً، وهي خطوة تخطوها البشرية إلى الأمام، فالإنسان كلما ازداد علماً كلما زاد علمه بجهله، وقلّ ّّفرحه بما عنده من العلم، لأن سعة علمه تزيده إيماناً بأن دائرة الغيب أو المجهول هي أوسع كثيراً من دائرة الشهادة أو المعلوم، وبذا يصير أكثر تقبلاً لاحتمال خطئه، ويعلم من مطالعته لمسيرة العلم والعلماء من قبله بأن ما علمه ليس إلا خطوةً صغيرةً في طريق شاق وطويل.
هذا التوجه الجديد نحو فلسفة عدم التأكد دفعني إلى عقد مقارنة بين عالم الفيزياء وعالم الأفكار فإذا كانت الفيزياء وهي العلم القائم على التجربة والمختبرات والقياسات الدقيقة قد خلصت إلى مبدأ عدم التأكد فمن باب أولى أن نعتمد مبدأ عدم التأكد في أفكارنا الاجتماعية والتي لا تزيد عن كونها طرحاً نظرياً لم تدخل المعمل لاختبارها، ولا نمتلك أدوات دقيقة لقياس صحتها، وألا نقدمها للناس بأنها الحق الذي ليس بعده إلا الضلال..بل نقدمها بأنها مجرد اجتهادات تحتمل الخطأ والصواب، والتعصب للرأي هو ثمرة الجهل، إذ أنه يسد منافذ الفهم ويحول دون اكتساب المرء لعلوم جديدة.
إن مبدأ عدم التأكد يقتضي ألا نطرح أفكارنا كنقيض للأفكار الأخرى فنسعى إلى إعدامها من الوجود، بل نعرض ما عندنا للمنافسة ولإحداث حالة من التلاقح الفكري والحراك الاجتماعي، دون أن نكون قلقين عليها من التلاشي والذوبان، لأن ما سيحكم أفكارنا وغيرها من الأفكار هو القانون القرآني "فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"، فإن كانت أفكارنا مما ينفع الناس فستمكث في الأرض حتماً، وإن كانت الأخرى فسنكون أول من يسعد بذهابها جفاءً لأن الإنسان حين يتحرر من الهوى وحظوظ النفس ويدور مع الحق حيث دار فلن يهمه حينها أن يجري الله الحق على لسانه أو على لسان غيره.
وكما أن الفرضيات الفيزيائية تخضع للاختبار في المعامل لمحوها أو إثباتها، فإن للأفكار معملها كذلك، ومعمل الأفكار هو التجربة والتاريخ، فمقياس صحة الفكرة أو خطئها لا يكون باستمرار الحديث النظري حولها بل بعرضها في الميدان للممارسة فإما أثبتت جدارتها وإما تجاوزها التاريخ غير مأسوف عليها، ومن هنا فإن القرآن يوجهنا دائماً وبتكرار ملحوظ نحو معمل التاريخ، وهو يطلب منا أن نراهن المكذبين على الانتظار لرؤية عاقبة الأمور.
بالرجوع إلى محرك البحث نجد أن كلمة "تربصوا" تكررت في القرآن خمس مرات، والتربص هو الانتظار لرؤية العواقب "فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى" ، وكذلك وردت كلمة "انتظروا" خمس مرات، وكلمة "ارتقبوا" مرة، أما كلمة "عاقبة" فقد وردت ثمان وعشرين مرةً يقصد بها العاقبة في الدنيا قبل الآخرة، وهذا الحضور القوي لهذه المفردات في القرآن الكريم يدلل بأن منهج القرآن هو الرهان على حكم التاريخ لإثبات الأفكار أو محوها "يمحو الله ما يشاء ويثبت".
ومع أن القرآن هو الحق المبين والكلام الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلا أنه يعلمنا التواضع في طرح أفكارنا فيخاطب المكذبين بالقول: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"، فمبدأ عدم التأكد يفترض في الرأي الآخر احتمال الصواب فلا يقطع كل الحبال معه ويبقي الباب مفتوحاً للرجوع.
تعود أهمية مبدأ عدم التأكد إلى كوننا بشراً نخطئ ونجهل، ومن الغرور أن نفترض في آرائنا الصحة المطلقة، ومن هنا وجب أن نوطن أنفسنا على التواضع في عرض أفكارنا، فمهما كانت فإنها تظل أفكاراً غير معصومة، هذا التواضع يظهر حتى في أسلوب عرض الأفكار فنبتعد عن ألفاظ القطع والجزم ونستعمل بدلاً منها ألفاظاً ظنيةً مثل (ربما، قد يكون)، والتبعيض لا التعميم مثل (من الناس بدل كل الناس)، والنسبية لا الإطلاق مثل (كثير من الناس بدل أكثر الناس، أو هذا جميل بدل هذا أجمل شئ)..
كذلك فإن الأقرب إلى الصواب أن نضفي الطابع الذاتي على أفكارنا وليس الموضوعي لأنها في حقيقتها ذاتية، فهناك دور للظروف النفسية والثقافية والاجتماعية للكاتب تترك بصمتها على أفكاره..لذا حين نطرح أفكارنا ينبغي أن ننسبها إلى ذواتنا لا إلى الحقائق المطلقة وبذلك تكون أقرب إلى الحقيقة.. فمثلاً لو قال إنسان إنه سيحدث أمر ما ولم يتحقق توقعه فإنه يكون قد أخطأ، لكن لو قال أشعر أنه سيحدث هذا الأمر، فإنه سيكون مصيباً حتى لو لم يتحقق توقعه، لأنه أخبرنا عن شعوره، أي بما هو ذاتي، وليس بالحقيقة الموضوعية..
وقد وجدنا هذا الفقه عند الأئمة الأربعة رضي الله عنهم إذ أن أحدهم لم يكن يقول هذا حرام ولكن كان يقول أكره كذا، وكلمات مثل (أكره، أحب، أفضل) هي كلمات ذاتية بينما كلمة (حرام) كلمة موضوعية قاطعة فيها إخبار عن الله، فكان يختار ما هو أصوب وأسلم من الزلل..
وكون الأفكار ذاتيةً وليس موضوعيةً لا يقلل من أهميتها إذ أن العبرة بفاعلية هذه الأفكار ومدى الاستفادة منها في واقع الحياة، فحين يخبرني الكاتب عن شعوره تجاه مسألة ما فإنه يقرب إلي تصور الحقيقة ويعطيني إشارةً على الطريق.وهو دور ليس باليسير إذ أنه مهما أوتي إنسان من قدرات بلاغية فلن يزيد دوره عن تقريب الحقائق وليس نسخها بشكل كلي فالخبر ليس كالمعاينة..
ولا يشترط في الأفكار حتى تكون فاعلةً أن تكون صحتها مطلقةً، بل يكفي أن تكون نسبيةً، وحتى لو تبين مستقبلاً أن تلك الأفكار تحمل قدراً من الخطأ فإن هذا لا يبخس من الأثر الإيجابي الذي تركته على أرض الواقع في إحدى الأوقات.
لمبدأ عدم التأكد أهمية في أنه يطلق العنان للإبداع دون معوقات أو قيود، فالإنسان تلوح أمامه خواطر لم تنضج بعد لتصبح حقائق، فإذا انتظر حتى تكتمل ربما ضاعت وتلاشت وربما لم تكتمل طول عمره، كما قال أحد المؤلفين القدماء:« لو انتظرت حتى يتم الأمر لما ظهر الكتاب »، فيكتبها الإنسان كما هي حتى قبل أن تكتمل لأنها ربما أعطت وهي في صورتها الابتدائية إشارةً أو حفزت إنساناً على التفكير فأنضجها، والعلم تراكمي يبدأ بإشارة لطيفة وينتهي بعلم متكامل، وحين يلوح لصاحبها بعد كتابتها استدراك أو شرح يضيفه إليها، والإنسان لا يكتب شيئاً ويراجعه في غده إلا ويقول لو أنني أضفت كذا وحذفت كذا.وفي هذا آية بينة على قصور البشر ومحدوديتهم.
إن قدر الإنسان على هذه الأرض أن يظل كادحاً في طلب الحقيقة دون أن يبلغها، ففي كل يوم حذف وإضافة ، وقيمة هذه الديناميكية أنها تجعل الإنسان لا يرضى بهذه الحياة الدنيا ولا يطمئن بها فهو دائم الحركة والتقدم، كادح إلى ربه، يركب طبقاً عن طبق حتى يصل إلى خالقهمصدر الحقيقة المطلقة يوم القيامة "يوم يأتي تأويله"..
إننا مطالبون بأن نوطن أنفسنا بألا نقرأ شيئاً بأنه حقائق مسلمة بل هي مجرد أفكار واجتهادات في طريق البحث عن الحقيقة، فنتعامل مع ما نقرأه بنفسية أنها قابلة للأخذ والرد. هذا المنهج في القراءة بحذر ونسبية هو الذي سيحررنا من الجمود والتقليد وسيمنحنا تنوعاً معرفياً وثراءً فكرياً وسيملأ قلوبنا طمأنينةً وسلاماً.
رب قائل يقول إن كل ما سبق ذكره ربما يصلح في حالة الأفكار البشرية ولكننا نقرأ القرآن وهو الحق المبين وليس مجرد أفكار، ونحن نرد على هذا الرأي بأن القرآن الكريم مقدس من لدن حكيم عليم لكن فهمنا له ليس مقدساً، وهذا الفهم يحتمل الصواب والخطأ، ومن هنا وجب أن نخضع فهمنا للقرآن لمبدأ عدم التأكد..
من مقتضيات مبدأ عدم التأكد أن الإنسان بعد أن يجتهد ويفرغ من تفصيل فكرته أن ينسب إلى نفسه العجز والمحدودية وأن ينتقل من المحدود إلى المطلق بنسب العلم إلى من أحاط بكل شئ علماً، فيختم بالقول (الله أعلم).
والله أعلى وأعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق