الثلاثاء، 27 يوليو 2010

 لماذا خلق الإنسان في كبد؟!
(فلسفة الألم في حياتنا)
أحمد أبورتيمة

حين يتأمل المرء أحوال الناس من حوله يذهل ذلك القدر الهائل من الألم والمعاناة التي تصبغ حياتهم،فيقف حائراً أمام حقائق الحياة المريرة التي فرضت على الإنسانية أن تشق طريقها وسط ركام من الأحزان وفوق أنهار من الدموع،فأقدار الناس مع المصائب موزعة بين فقير معدم لا يجد قوت يومه،ومشرد فقد بيته فغدا بلا مأوى يفترش الأرض ويلتحف السماء،وأطفال صغار فقدوا أمهم أو أباهم أو كليهما فكتب عليهم أن يتجرعوا مرارة الحرمان باكراًً،و أب مكلوم وأم ثكلى خطف الموت فلذة كبدهما في زهرة عمره وريعان شبابه،ومهاجر يئن من وطأة الغربة ويتلمظ شوقاً للعودة إلى وطنه الذي أخرج منه قسراً،وأسير أفنى سنين عمره في ظلمة السجن و قبضة السجان بعيداً عن الشمس والهواء،ومريض أقعده مرضه طريح الفراش فهو ينتظر الموت في كل حين،ونساء وأطفال روعتهم الحروب والكوارث وقذفت في قلوبهم الرعب فلا ملجأ يحميهم،وليست هذه إلا أمثلة لألوان لا تحصى من المعاناة.


ومن سلم من هذه الصنوف المادية من الابتلاءات لم يسلم من هم أثقله أو قلق أقض مضجعه أو وحشة ملأت قلبه،أو خوف نغص عليه نعيمه،وكم من ثري أوتي كل أسباب الراحة المادية فلم يجد سوى الهم والقلق والخوف من المجهول والشعور بالوحشة والاكتئاب النفسي،وفي ذلك آية بينة بأن الكبد والعناء ملازم للحياة على الأرض وجزء لا ينفك من طبيعتها وهو ما دفع بعض الفلاسفة لوصف الحياة الإنسانية بأنها مسرحية تراجيدية مروعة.


وإذا تجاوزنا حدود الوطن الصغير وتأملنا في العالم المحيط بنا صدمنا أمام الحصاد المخيف لتجربة الإنسانية الممزوجة بالدماء والدموع ،فكم من مئات من الملايين قتلوا عبر التاريخ في حروب عبثية لم تجن البشرية منها سوى الندامة والخسران،وما زالت الإنسانية تعزف لحناً حزيناً في مسلسل المعاناة المتواصل منذ أن دب الإنسان على هذه الأرض،ولك أن تتخيل عزيزي القارئ في هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذه السطور كم من نفس تزهق ودماء تنزف ودموع تذرف،وكم من نفوس تتألم وصدور تتأوه في هذه الأثناء.


نتأمل هذه الحقائق المريرة ونحن نؤمن بأن رباً حكيماً قدر الأقدار،وهو يراقب المشهد عن قرب ويستطيع أن يمنع هذه المآسي إن أراد،وأنه لم يأذن لشيء بالوقوع إلا لحكمة بالغة يعلمها وإن خفيت عنا،وأن هذه الأحداث بكل مرارتها وقسوتها على نفوسنا تخفي في باطنها أسراراً عظيمة وإن كان ظاهرها العذابً.


لقد أقر القرآن العظيم بحقيقة أن الإنسان خلق في مشقة وعناء: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)،والأرض هي مكان العداوات والأحزان منذ أن هبط آدم وحواء عليها إلى قيام الساعة: (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)،ولو أن هذه الأرض هي نهاية المطاف للإنسان لحق له أن يموت كمداً وحزناً على سوء حظه فيها،ولكنها مقام مؤقت وممر إلى ما وراءها:(مستقر ومتاع إلى حين)،والمصائب التي تعصف بالإنسان على وجه هذه الأرض ما هي إلا رسائل تذكير متتابعة له بأن هذا ليس هو المكان المناسب لاستقراره وسعادته،فلا يطمئن إليه أو يفتن به ،وهي استفزاز له لتشعل في نفسه الحنين إلى موطنه الأصلي وهو الجنة التي أخرج الشيطان أبويه منها،وهي أيضاً تحذير له من عاقبة الذنوب والآثام فلولا ذنب أبيه آدم لما هبط من دار السعادة إلى دار الشقاء ولما كان عليه مواجهة كل هذه المتاعب والآلام (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).

 

كما أن هذه المآسي التي تلون حياة البشرية منبهات تذكره بمدى هشاشته وضعفه وافتقاره إلى خالقه فلا يطغى ولا يتكبر،والطغيان طبع أصيل في الإنسان يظهر حين يظن نفسه قوياً ومستغنياً: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" فتأتي هذه المصائب لتذكره بضعفه وحاجته إلى ربه،ولتلجئه للتضرع إليه: " ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرّعون".

فالشدائد هي التي تقرب الإنسان من الله لأنها تقطع أمله بمن دونه وتنقي قلبه من التعلق بغيره فيتحقق الإخلاص " وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين"ففي الشدة يتعرف الإنسان على ربه،فإذا انجلت المحنة عاد إلى غفلته:( فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور )فيظل محتاجاً إلى محن متتابعة حتى لا ينسى ربه.

وهي تقرب الإنسان من الله لأنها تزيل الحجب الكثيفة التي تعيق الوصول إليه ، لأن هذه الحجب قد تكونت بفعل التكوين الطيني للإنسان فنالت كثافة الطين من شفافية الروح،والألم يضعف من تعلق الإنسان بالهوى الطيني ويساعد في إطلاق روحه.

وبعد ذلك فالمحنة هي التي تستفز الإنسان للإبداع والتطوير،وتستخرج طاقاته الكامنة،لأنها تفرض عليه تحدياً يضيق أمامه الخيارات فيستفزه ذلك للبحث عن مخارج وحلول فيكون الإبداع والارتقاء الذي يؤدي إلى التقدم في مسيرة الحياة والإعمار على هذه الأرض.
وقد أبدع المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في نظرية"التحدي والاستجابة" التي فسر بها نشوء الحضارات عبر التاريخ،فحتى تنشأ أي حضارة لا بد من وجود قدر من التحدي لاستفزاز الطاقات البشرية ودفعها للإبداع وإنشاء الحضارة.

وفي عصرنا الحديث نشأت فكرة الاتحاد الأوروبي بعد حربين عالميتين طاحنتين أبيد فيهما عشرات الملايين ،فلم يفكروا في الوحدة إلا بعد أن ذاقوا مرارة التفرق والاقتتال،وهكذا هم البشر يتعلمون بنار التجارب أكثر من اهتدائهم بنور العقل "لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم" .

إن هذا الكبد والعناء الذي قدر الله للإنسان أن يخلق فيه هو الذي يوفر الظروف الملائمة لتحقيق غاية وجود هذا الإنسان على الأرض وهي الابتلاء والتمحيص: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)،
والمحنة هي الوسط الملائم لتمحيص النفوس وتطهير القلوب وتمييز الطيب من الخبيث:"أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" .
والمصائب تكشف التراحم والتكافل بين الناس أو عدمه،فأصحاب الابتلاءات في أي مجتمع هم مشعر الإيمان والأخلاق فيه،فيظهر معدن المجتمع من خلال هؤلاء، فكما أن الفقير والمريض والضعيف يبتلون في صبرهم على الضراء،فإن الغنى والصحيح والقوي يبتلون في النعمة بأن يشكروا الله عليها ويسخروها في مرضاته،ويحسنوا إلى أصحاب الابتلاءات بينهم، فالعافية والرخاء هي ابتلاء للإنسان أيضا ً: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة".وهنا نفهم قول ربنا عز وجل: 
"وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ".
بقي أن نذكر من فوائد المصائب أنها هي التي تضفي معنى على الحياة،فلولا المرض لما أدركنا قيمة الصحة،ولو لم يعرف الناس الفقر لما تذوق أحد حلاوة الغنى،ولولا الابتلاء لما عرفنا معنى العافية، فالمصائب هي التي تضفي على الحياة مذاقاً لنستمتع بها،والإنسان يستمتع بالنعمة حين تأتيه بعد تعب،وما يقرب هذا المعنى أن الصائم يستلذ بالطعام أكثر من المفطر لأنه يأكله بعد حرمانه وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه:"إذا أفطر فرح بفطره"،ولو كانت حياة الناس عافية مستمرة وغنى متواصلاً وصحةً دائمة لسئم الناس منها ولركدت الحياة وفسدت (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).

أمام كل هذه الفوائد الجليلة يتضح لنا جانب من الحكمة الإلهية في تقدير المصائب والابتلاءات على هذه الأرض،وفي خلق الإنسان في كبد،ومن يدرك هذه المعاني فإنه يحيل المحنة إلى منحة،ويصنع من الليمون شراباً حلواً،ويصير بإمكانه أن يشق طريقه نحو السعادة والطمأنينة من بين ركام المشقة والعناء،لكن أكثر الناس يستسلمون لشقاء الدنيا وبؤسها دون أن ينتبهوا لهذه المعاني العميقة،فيكتبون على أنفسهم معيشةً ضنكى:"وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق