الجمعة، 7 يناير 2011

لماذا لا نقرأ؟

(إننا لن نغير شيئاً بالانفعالات والعواطف والغرق في تفاصيل الأحداث، وإن من لا يوطن نفسه على القراءة الجادة خمس ساعات في اليوم على الأقل فلن يستطيع أن يقدم لأمته ومجتمعه إضافةً نوعيةً مهما بلغت حماسته وانفعالاته..)


لماذا لا نقرأ؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

حين أفرغ من كتابة مقالة أجلي فيها فكرةً وأضيف فيها معنىً يراودني شعور بالرضا أن ساهمت بإضاءة شمعة، لكن هذا الشعور سرعان ما يتبدد حين أتذكر أنني أكتب في وسط لا يقرأ فيه إلا من رحم الله، فأتساءل: ما قيمة أن أكتب مئات المقالات وأن أحشد كل الأدلة والبراهين لتوضيح فكرة بينما الناس لا يقرءون، وما فائدة محطة الإرسال دون جهاز استقبال، وماذا ينفع أن نوجد في عصر الطوفان المعرفي وبين أيدينا شبكة عنكبوتية جبارة من ملايين الكتب والمواقع، بينما لم نصنع الإنسان القارئ، وإذا كانت عيناك مظلمتين فماذا ينفعك ضياء الكون؟..

إن إيجاد الإنسان القارئ مقدمة لا بد منها حتى لا تكون كتاباتنا نقشاً على الماء أو صرخةً في واد..

القراءة هي التي تعطي للإنسان معنى، ومثل الذي يقرأ والذي لا يقرأ كمثل الحي والميت..والقراءة ليست مجرد هواية كما يسميها البعض، بل هي فريضة واجبة وضرورة تمليها طبيعة العصر، فنحن في عصر العلم والمعرفة، والقراءة هي معراج الصعود وسبيل صناعة الحضارة..

القراءة هي التي توسع آفاق الإنسان، وتبصره بأسرار الحياة، وتضاعف خبرته فيكسب إلى حياته حيوات مضاعفةً، وحين سئل عباس العقاد عن سر ولعه بالقراءة قال:إن حياةً واحدةً لا تكفيني..وهو يعني بهذا أنه حين يقرأ كتاباً فإنه يهضم خلاصة تجربة حياة كاتبه في عشرات السنين، فيقطفها القارئ في ساعات قليلة، فكأنما أضاف إلى عمره عمراً جديداً..

القراءة هي سبيل المعرفة. والمعرفة هي التي تمكن الإنسان من تسخير الطبيعة، ومن إمساك مقاليد الأمور، وتمنحه شعوراً بالأمان والسيطرة..فلو جاءت معلومة إلى إحدى الدول بأن سفينةً معاديةً تقترب من شواطئها دون تحديد طبيعة السفينة وتوقيت مجيئها وخط سيرها ونوع الأسلحة التي تحملها، فإن الدولة ستضطر إلى استنفار آلاف العناصر من قواتها البحرية على طول شواطئها وتزويدهم بالأسلحة المختلفة للتصدي لهذه السفينة المجهولة، ومراقبة كل السفن القادمة وتفتيشها، والانتظار لأوقات طويلة قبل أن تصل السفينة..كل هذه التكلفة الباهظة نتيجة غياب المعلومة الدقيقة..لكن ماذا لو كانت هناك معلومات محددة تمتلكها الدولة حول طبيعة السفينة وعدد العناصر الذين على متنها ونوع الأسلحة التي يمتلكونها، ومكان وزمان رسوها، فإنها ستختصر هذه التكلفة إلى أدنى حد ممكن، وستكتفي بإرسال عناصر قليلة بأسلحة محددة للتعامل معها..

أرأيتم كم هو الفرق الذي تصنعه المعرفة كبيراً "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"..

القراءة هي التي توسع أفق الإنسان وتعطيه الرؤية الشاملة المحيطة فتتغير نظرته للحياة، فلا يستغرقه نكد اللحظة ولا تحبطه مآسيها ونكباتها، وإن عظمت، لأنه يراها في سياق أوسع فهو قد غاص إلى بواطن الأمور واطلع على سير الأولين فعلم أن هذه الحياة تسير في خط معلوم، وأن ما يبدو شراً هو خير بالنظر إلى صيرورته وعاقبته..

إن القراءة كانت دائماً شرطاً للارتقاء وهي أكثر إلحاحاً في هذا العصر الذي باتت فيه المعلومة أكثر فاعليةً من الأسلحة المدججة.وإذا أردنا أن تكون لنا مكانتنا اللائقة بين الأمم، فإن ذلك لن يتأتى إلا بإيجاد جيل قارئ.

القراءة ليست ترفاً يمارسه الفارغون، بل هي رسالة حياة وهي جهاد في سبيل الله، يؤجر المرء عليها حين يستحضر النية بأنه يريد أن يقرأ لينفع الناس ويقدم حلولاً إبداعيةً تخرجهم من الظلمات إلى النور

بل إن القراءة بهذه النية هي الجهاد الأكبر، وهي واجب الساعة، لأن كل عمل لا يبنى على علم ومعرفة فهو عمل مهتز لا يملك أساساً متيناً يمكنه من الصمود في مواجهة الرياح العاتية..

وحتى تكون القراءة مثمرةً ينبغي أن تكون قراءةً شاملةً متنوعةً، فلا يقرأ الإنسان من أجل الشهادة الجامعية أو الوظيفة، ولكن يقرأ لأنه صاحب رسالة، فيقطف من كل بستان زهرة وينهل من حكم الأولين والآخرين، والشرقيين والغربيين، والإسلاميين والقوميين، يطالع في الفكر والتاريخ، والسياسة والإدارة، والتراث والحداثة، والآداب والعلوم، لا يقتصر في قراءته على لون فكري واحد حتى لا ينتهي إلى الجمود وضيق الأفق، ولكن ينوع مصادره فتتوسع آفاقه ويبصر الحياة من زوايا جديدة، فيكون الإبداع والانفتاح الفكري، ويتحرر من التعصب والانغلاق..

والقراءة للآخر لا يشترط فيها أن نتفق مع كل أفكاره..لأن قيمتها هي أنها تنبهنا بأن هناك زوايا نظر جديدة، وأننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن المسألة تحتمل أفهاماً أخرى، فلنوطن أنفسنا على القراءة للآخرين حتى ننقذ أنفسنا من الجمود والانغلاق على الذات..

إن للكتاب ميزات لا تشاركه فيها أية وسيلة أخرى، وعبثاً يظن فريق من الناس أنه يستطيع أن يبني نفسه معرفياً من خلال التلفاز فيهمل الكتاب..لأن التلفاز كما يقول علي عزت بيغوبيتش رحمه الله يعزز الثقافة الاستهلاكية فيتلقى المشاهد وجبته اليومية من المحتوى التلفزيوني تلقياً سلبياً دون أن يكون أمامه وقت للتفكير، والمناقشة..

ويستفيض الكاتب صهيب الشريف في شرح خطورة تقديم التلفاز على الكتاب كوسيلة معرفية فيقول:

(إن سرعة انتقال الصورة-في التلفاز- التي تحتوي ملايين النقاط الضوئية pixel والموجه على الشاشة لا تترك فرصة للمتلقي كي يدرك كنهها , لأن حجم ما تحمله من المعلومات أكبر بكثير من قدرة الدماغ على استيعابها بوقت قصير.

كما أن الرسائل الإعلانية التي لا تكاد تحتوي على معلومة مفيدة, تكرر وبسرعة خاطفة صور متتالية ,كأنها ضرب على رأس المشاهد ,ولا يبقى إلا اسم السلعة المعلن عنها, وهنا يتحول المشاهد إلى زبون يتلهف لتلقف السلعة, وليس لديه الوقت للتبصر بمدى حاجته إليها.

هذه الميديا البصرية تعمل على الاستئثار باهتمامنا,ولكن لا تتيح لنا الفرصة للتأمل والتفكير.)

لهذا السبب الذي أبدع الأستاذ صهيب الشريف في شرحه يتبين أنه لا بديل عن الكتاب مصدراً للمعرفة يدربنا على التفكير التفاعلي والإيجابية..

وكما أن التلفاز لا يعد بديلاً عن الكتاب، فإن الانترنت ليس بديلاً كاملاً كذلك، لأنه يعطي عناوين أكثر من إعطائه معرفةً عميقةً، ومستخدم الانترنت بطبيعته يميل إلى سرعة الملل والتنقل بين المواقع فيحرم نفسه من ميزة التركيز والعمق التي يمنحها الكتاب..

ولأننا في عصر الانفجار المعرفي ولأن أعمارنا قصيرة فإننا لا ندعو إلى القراءة العشوائية ولكن لا بد من ترتيب الأولويات فنقرأ الأهم قبل المهم، ونميز في التعامل مع الكتب، فهناك منها ما يكفي أن تطالع عنوانه وفهرسه ومقدمته، وهناك ما يكفي فيه القراءة السريعة، وهناك من الكتب العميقة التي تعب عليها أصحابها والتي تعد خلاصة تجارب حياتهم فهذه ينبغي التوقف عند كل جملة فيها لأنها تمثل إضافةً نوعيةً وليست مجرد حشو وتكرار..

ليس من المقبول في عصر الثورة المعلوماتية أن نسمع من يقول: إنني لم أتعود على القراءة، فالنفوس قابلة للتحول نحو عادات جديدة، وإنما العلم بالتعلم، فلنجاهد أنفسنا ولنلزمها بالإقبال على القراءة، وإن لم نشعر برغبة تجاه القراءة، فلنتعامل معها كما نتعامل مع الدواء المر الذي لا نكاد نسيغه ولكننا لا نستغني عنه طلباً للشفاء والعافية، وكما أن الدواء يشفي الأبدان فإن القراءة تشفي الأرواح، ويستطيع المرء إذا عزم النية ليصبح قارئاً أن يبدأ بالقصص والروايات، وأن يخصص للقراءة وقتاً معلوماً، على أن يتدرج حتى تكون قرة عينه ولذة روحه في القراءة فلا يستطيع أن يستغني عنها لأنها غدت جزءً من كينونته..

إننا لن نغير شيئاً بالعواطف والانفعالات واللهاث خلف الأحداث، وإن من لا يجاهد نفسه ليجلس أمام الكتاب خمس ساعات في اليوم على الأقل فلن ينجح في إضافة خدمة نوعية لأمته، ولن يكون أكثر من تكرار لنسخ تقليدية مهما كانت حماسته وانفعاله..

إن مما يؤسف له أن تكون أمة "اقرأ" أقل الأمم قراءةً ..بينما في الأمم الأخرى يستثمرون كل لحظة في سبيل المعرفة حتى في أوقات الأزمات كما رأينا في المطارات الأوروبية في بركان آيسلندا.فلم يقض المسافرون أوقات الانتظار في الثرثرة وقزقزة اللب، ولكن رأينا الواحد منهم يمسك كتاباً ويتصفحه حتى لا تضيع ساعة من أوقاتهم دون فائدة..

أليس من العبث أن نتساءل بعد ذلك عن سر نهضتهم وتفوقهم علينا..

والله أعلى وأعلم..


لماذا نكتب؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

أن يملك الإنسان القدرة على الكتابة فهذه نعمة يمن الله بها عليه "خلق الإنسان علمه البيان"، والقدرة على البيان تمكن الإنسان من التواصل والامتداد، والتعالي على محدوديته، , والتعبير ليس فقط عما يجيش في صدره بل عما يجيش في صدور الناس ولكنهم يعجزون عن التعبير عنه فيشفي صدورهم بتبيانه. مما يشرح صدره ويشعره أن أثقالاً جاثمةً قد انزاحت عن كاهله، لأن احتباس المعاني دون القدرة على التعبير عنها يشعر النفس بالاختناق، ولعل هذا ما دفع موسى عليه السلام إلى القول: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني".فثمة علاقة سببية بين عدم انطلاق اللسان وضيق الصدر..

وحتى يشكر الكاتب نعمة الله التي أنعمها عليه فلا بد أن يسخر قلمه في الدعوة إلى الخير والتحذير من الشر، وفي البناء لا الهدم، وذلك حتى يكون له دور إيجابي مميز في هذه الحياة..

فالكاتب أولاً ينبغي أن يكون موضوعياً قدر استطاعته متجرداً من الأهواء الحزبية والطائفية والسياسية، وهذه الموضوعية هي بلغة الدين الصدق والعدل فلا يلبس منظاراً قاتماً من التعصب والحزبية والمواقف المسبقة لا يرى الأحداث والعالم إلا من خلالها، ولكن يكون قائماً بالقسط "كونوا قوامين لله شهداء بالقسط"، يكتب ما يراه حقاً ولا يصمت عما يراه باطلاً وإن على نفسه أو حزبه"ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه".ليس شرط ذلك أن يتخلى عن انتماءاته السياسية والفكرية فهذا أقرب للمستحيل، ولكن ألا يمنعه انتماؤه من وزن الأمور بعقلانية وموضوعية فلا يدافع دفاعاً أعمى لأنه إن فعل ذلك فسينال غضب الله أولاً وسيفقد مصداقيته عند الناس ثانياً، والقراء ليسوا على قدر من السذاجة والسطحية ليصدقوا كل دعوى وإن كانت مخالفةً للمنطق، والإنسان يستطيع أن يوظف قلمه لإقناع الناس ليس بالانفعال وإعلاء الصوت وشيطنة الخصوم ولكن بالطرح العقلاني الهادئ الذي يقدم الحجج والبراهين ويرد على المخالفين بأخلاقية عالية دون أن يفجر في الخصومة..

والكاتب ذو الدور الفاعل ليس هو من يتبع طريقة التمجيد والتبرير، فيصفق لحزبه ويكيل له عبارات الثناء والمديح ويجعل في شخص قائده شجاعة خالد، وكرم حاتم، ودهاء عمرو، وذكاء إياس، فإن أخطأ حزبه أو قائده، اجتهد في إيجاد الأعذار لهم، ولوى عنق الأحداث، ونقب في كل قواعد المنطق والتاريخ والدين لتبرير خطئهم، وهذا الأسلوب المنتشر في عالمنا العربي لا يساهم إلا في مزيد من التراجع، ويفقد الكاتب أهليته لأن دوره يتحول من إصلاح الواقع إلى تزويقه، ومن نصح الجماهير إلى تخديرها، وحتى لو كانت عبارات الثناء والمديح مستحقةً فهي تكرار للواقع، ووظيفة الكاتب ليس تكرار الموجود، بل النقد البناء وإكمال النقص والتوجيه نحو موطن العمل..

وفي المقابل تجد فريقاً من الكتاب تفيض مقالاتهم بالتشاؤم ولعن الواقع والشكوى والتذمر والقول بأن الناس قد هلكوا، دون أن يوجهوا نحو خطوات عملية للتغيير، وهم بذلك لا يقدمون للقارئ جديداً، فحتى العجائز يحسنّ أسلوب الشكاية والتذمر، ومهمة الكاتب هي أن يوقد شمعةً لا أن يلعن الظلام ألف مرة فيناقش المشكلات نقاشاً موضوعياً علمياً، وينفذ إلى الأسباب العميقة ويقدم الحلول الإبداعية.

والكاتب ينبغي ألا يكتب لمجرد الكتابة، ولا تكون كتاباته حشواً تضيع وقت القارئ دون أن تضيف له جديداً، ولا تكون كتاباته لتسجيل حضور في الأحداث وحسب، ولكن ينبغي أن يكتب لهدف، فيسأل نفسه قبل الشروع بكتابة أية مقالة:هل سأضيف للقارئ فكرةً جديدةً، أو أرسخ مفهوماً قائماً، أم ستكون فكرةً مكررةً مستهلكةً تقليديةً؟ فإن كان نعم فليتقدم وإن كان لا فليتأخر..فنحن في عصر الطوفان المعرفي والإنسان حائر ماذا يقرأ وماذا يترك فلا ينقصنا الكم، ولكن تنقصنا الإضافة النوعية..

وحتى يكون الكاتب قادراً على تقديم الإضافة النوعية فلا بد أن يكون قارئاً جيداً، فالأفكار لا تأتي من فراغ، ولكنها إفراز للحصيلة المعرفية، وكلما كان الكاتب مشبعاً بالوعي والمعرفة كلما قدم مادةًً أكثر فائدةً وعمقاً، وكان أبعد عن السطحية والتكرار، وفي هذا الصدد أفادتني نصيحة قيمة للمفكر خالص جلبي وهي إذا أردت أن تكون الكاتب الأول فكن القارئ الأول..

ومن أمارات صدق الكاتب أنه لا يعاني من مرض تضخم الذات فلا يهمه تحقيق شهرة وبناء مجد شخصي بقدر ما يهمه تبيان حقيقة وتصحيح مفهوم، فإذا رأى فكرةً مفيدةً لكاتب آخر حسنها وقواها ونسبها إلى صاحبها دون أن يجد حرجاً في نفسه وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله يود لو أن الناس تعلموا علمه دون أن ينسبوه إليه، فهو لا يهمه إثبات الفكرة لنفسه بقدر ما يهمه إيمان الناس بالفكرة، ولا يجد مشكلةً أن يكثر في مقاله من الاقتباسات وتذكير القراء بصاحب الفكرة الحقيقي.ومما يؤسف له ما تجده من أمراض بعض الكتاب التي تتضح في الحوارات التي تجري بينهم فيقول الأول لقد كتبت مقالاً حول كذا وكذا فيرد الثاني وأنا كتبت مقالةً حول كذا وكذا، فيرجع الأول ليقول وأنا كتبت مقالةً في موضوع ثالث. فبدل أن يتناقشوا ليبلوروا فكرةً جديدةً يصبح هم أحدهم أن يسوق نفسه ويضخم ذاته، وبذلك يغرد كل كاتب في سرب خاص به دون أن تتضافر الجهود وتصدق النيات للخروج بعمل فكري متكامل ينفع الناس.

وبعد ذلك فالكاتب لا ينبغي أن يكون منفعلاً تفقده الأحداث صواب الرؤية فيكتب مندفعاً تحت تأثير اللحظة دون أن ينظر إلى الأفق، فالكاتب المنشود هو الفاعل وليس المنفعل..إننا بحاجة إلى الكاتب الذي يتجاوز تفاصيل الأحداث الصغيرة ليقدم رؤيةً متكاملةً بعيدة المدى، فلا يبقى في دائرة ردود الفعل تستنزفه التفاصيل وتشتته الأحداث، ولكن ينظر إلى الواقع بموضوعية وهدوء ويتجاوز أعراض المشكلة، وتعدد مظاهرها إلى أسبابها الجوهرية وقواعدها العامة، ويحسن تشخيص المرض ليقدم الدواء الشافي.

والكاتب حتى يكون له دور إيجابي فإنه ينبغي أن يتناول أموراً عمليةً لا نظريةً وجدليةً، وكما قال سلفنا الصالح فإن كل قول لا يبنى عليه عمل فهو لغو..فلا يتناول قضايا تاريخيةً تجاوزها الزمن، ولا يخوض في مسائل نظريةً العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر، ولكن يتناول هموم الناس الملحة، وقضاياهم الحية، لا يشبعهم وعظاً ومثاليات وحسب ولكن يقدم لهم مقترحاً عملياً مهما كان متواضعاً فإنه سيضيء شمعةً ويضع لبنةً وسينقلنا من الشعارات العامة إلى الخطوات العملية..

وحتى ينجح الكاتب في مهمته فإنه ينبغي أن يوجه تركيزه نحو المعاني لا نحو زخرفة الألفاظ وتنميقها، فالكتابة في المقام الأول من أجل توضيح فكرة، وليس من أجل إبراز المهارات اللغوية والتكلف باستعمال ألفاظ معقدة مبهمة للإيجاء بالثقافة، ولا ضير أن يستعمل الكاتب أسلوباً مبسطاً لإفهام الناس فكرته، فمقياس المقالة هو عمق الفكرة وليس غموض الألفاظ وتعقيدها، وأروع المقالات هي التي يعبر فيها الكاتب عما يريده بعفوية وتلقائية دون تنميق ألفاظها..

والكاتب ينبغي أن يستشعر خطورة الثغر الذي يقف عليه، وأن كلماته التي تخطها يمينه هي سهام تنطلق فلا يستطيع ردها، فيحرص على أن يكون داعية خير يسدد ويقارب ويؤلف ويزرع الحب في النفوس، لا أن يعميه تعصبه الحزبي فيؤجج الفتن ويشعل الحرائق ويعمق الشرخ في المجتمع، وينثر بذور الكراهية والحقد..

قال لي أحد أصدقائي إنه حين كتب رسالة الماجستير دقق في اختيار كل كلمة فيها لأنه قبل أن يكتب الكلمة كان يتخيل هذا الكتاب بعد عقود من الزمن في يد الأجيال القادمة فأراد أن يقدم لهم علماً ينفعهم في حياتهم، وينفعه بعد موته، وهذه الروح إذا تحلى بها الكاتب فإنها تجعله أكثر مسئوليةً وأقل اندفاعاً وتهوراً..

وما من كــاتب إلا سيفنى *** ويبقى الدهر ما كتبت يداه

فلا تكتب بكفك غير شيء *** يسرك في القيامة أن تراه

وصدق ربنا العظيم الذي قال: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد..

والله أعلى وأعلم..