يقول الله عز وجل "إن كيد الشيطان كان ضعيفاً"، وتقول الثقافة السائدة في مجتمعاتنا العربية إن كيد الشيطان قوي، وإن إسرائيل تمتلك قوةً جبارةً وتخطيطاً متقناً لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وإنها تقف خلف كل مصائب العالم، وما من مصيبة في الأرض ولا في أنفسنا، إلا وثمة مؤامرة صهيونية وراءها، حتى وإن اختلف أحدهم مع زوجته، أو نشب اقتتال على مباراة كرة قدم، ولم يستبعد أحدهم أن يكون الكيان الصهيوني خلف توقيت المونديال المعروف كل أربع سنين حتى يصرف الأنظار عن تداعيات جريمة أسطول الحرية، فهل إسرائيل قوية إلى هذا الحد وهل نحن أبرياء وضحايا دائماً للمؤامرات العالمية؟ لنعد إلى القرآن الذي اتخذناه مهجوراً بإعراضنا عن منهجه في معالجة الأمور، فالقرآن يعلمنا دائماً أن نتوجه إلى داخل أنفسنا للبحث عن الخلل لا إلى الخارج، والإنسان يحسن تعليق أخطائه على شماعة خارجية، ويجد في ذلك راحة له وتنزيهاً لنفسه عن التقصير، ولكن القليل هو من يتحلى بالشجاعة ويدين نفسه وذلك هو الكيس الفطن.. هذا المنهج القرآني لا يظهر في آية أو بضع آيات وحسب، بل هو توجه عام يركز القرآن عليه دائماً، فهو قد أقسم بالنفس اللوامة التي تكثر من إدانة صاحبها ومراجعة أخطائها، وفي غزوة أحد حين هزم المسلمون وقالوا أنى هذا لأنهم كانوا يظنون أنهم لم يرتكبوا أي تقصير، لم ينزل القرآن ليقول لهم إن قريشاً هي سبب الهزيمة، أو أن عبقرية خالد في الالتفاف حول الجبل هي المشكلة، بل أرجع السبب إلى أنفسهم "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"، وفي سورة الشورى "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم"، والآية جاءت بأسلوب الحصر والقصر لتفيد بأن كل مكروه يصيب الإنسان صغيراً أو كبيراً، على مستوى الفرد أو على مستوى الجماعة فهو نتيجة لخطأ الذاتي. ونفس المعنى نجده في قول الله تعالى "ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"، فزوال نعمة العافية أو الأمن أو النصر أو الغنى هو مقياس دقيق لتغير حدث داخل النفس.. حين يكون الإنسان محصناً داخلياً سواءً على مستوى الفرد أو الأمة، فإنه سيكتسب مناعةً ذاتيةً ضد أي محاولة للاختراق، وستصبح مؤامرات الأعداء لا قيمة لها لأنها ستصطدم بجدار حصين، وفي القرآن يقول الله عز وجل: "وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً"، بمقدار الصبر والتقوى بمقدار تعطل مفعول أي مؤامرة من قبل الأعداء، والتقوى هنا لا ينبغي أن نحصرها في المعنى الروحي وحسب على أهميته، ولكن لها بعدها الاجتماعي فالتقوى تعني الاتقاء والحذر والاحتياط من مخططات الأعداء. وإذا كان الشيطان رمز الشر في الوجود قد قال الله في حقه: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين"، فالشيطان لا يملك أن يؤثر على الإنسان إلا بقدر قابلية الإنسان للتأثر والضلال والغواية، وبذلك فإن الشيطان لا يزيد دوره عن كاشف لحقيقة دعوى الإيمان وهو دور إيجابي، ولم يكن الله ليخلق شيئاً إلا لحكمة وخير..فإذا كان هذا أقصى ما يملكه الشيطان فإن كل قوى الشر ممن هم دون الشيطان لا يملكون أن يضروا أحداً إلا بقدر قابليته للتأثر وانهزامه النفسي، والإنسان حين يقعده المرض فإن المشكلة لا تكون بقوة الفيروس المسبب للمرض، ولكن بضعف جهاز مناعته فيفتح الباب أمام غزو الفيروسات فإذا هم من كل حدب ينسلون.. كذلك في المستوى الاجتماعي، فإسرائيل لم تغز منطقتنا العربية وهي صحيحة معافاة، ولكنها وجدت تفككاً وضعفاً أغراها بالهجوم، وبذلك تكون إسرائيل نتيجةً وليس سبباً، وحين نصحح أوضاعنا الداخلية وتتبدل أحوالنا من ضعف إلى قوة ومن ذل إلى عز ومن تفرق إلى وحدة فإن هذا النظام العنصري سيحاصر ويعزل ويتلاشى بتحصيل حاصل... وكما أن الشيطان يقوم بدور إيجابي باستفزاز الإيمان، فإنه يمكن توظيف وجود إسرائيل في منطقتنا العربية إيجابياً لاستفزاز الطاقات كما عبر عن ذلك المؤرخ البريطاني المبدع أرنولد توينبي حين قال بأن إسرائيل منخس حضاري موقظ للعرب من أجل اليقظة.. وتوينبي ذاته هو صاحب نظرية التحدي والاستجابة في تفسير نشوء الحضارات بأنه يجب أن يكون هناك قدر من التحدي لاستفزاز البشر للنهوض الحضاري، وبذلك فإن ما نسميه مؤامرات هو ضرورة تاريخية لحثنا على النهوض "لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم".. إن تصوير أعدائنا بأن لهم اليد الخفية التي تحرك كل الأحداث والمصائب في العالم هو مناقض لمبدأ التوحيد الذي قام عليه أمر الدين كله، فالتوحيد يعني أن أحداً من دون الله لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وكل مكرهم الذي يحيكونه نملك أن نواجهه بمخططات مضادة بجهد منظم، ونبطله حتى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال، فمن منحهم القدرة على التفكير منحنا القدرة ذاتها.. نحن لا ننفي وجود مؤامرات ومخططات فمن السذاجة أن تفترض في عدوك السذاجة، ومن الطبيعي أن يخططوا بكل جهدهم لإلحاق الضرر بأعدائهم، ولكن لماذا نسمح لهذه المخططات بالتأثير علينا، ولا نلوم أنفسنا لغياب الجهد المنظم لإبطالها.. حين ندين أنفسنا في المقام الأول فهذا لا يعني إطلاقاً أن نغض الطرف عن إسرائيل وجرائمها، بل نحشد الطاقات ونستنهض الأمة ونحرضها على خوض المعركة الشاملة ضد الاحتلال وجرائمه، ولكن لا يكون التركيز على الاحتلال فرصةً لصرف الأنظار عن مشكلاتنا الداخلية ولتعليق أخطائنا على شماعة الغير، بل فرصة لتحرير الإنسان من أي استعباد و تربية الشعوب على الكرامة وتخليصها من حالة القعود.. إننا حين نحمل إسرائيل مسئولية كل مصائبنا فهذا يعني أننا نؤثر الراحة والقعود ونعزف عن العمل وننتظر الفرج من الغيب، لأننا أبرياء ومظلومون، وليس بيدنا حيلة.. أما حين نتبع منهج القرآن وندين أنفسنا، ونتوب من أخطائنا، فإننا نكون قد خطونا في طريق الحل وخرجنا من دائرة الشكوى والسلبية إلى دائرة العمل والإنتاج.. والله أعلى وأعلم.. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق