عالمية الإسلام
بقلم أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
الإسلام دين عالمي،فهو ليس دعوةً لقوم من الأقوام أو شعب أو إقليم أو لسان دون غيرهم ،بل جاء للناس كافة (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً),وقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). وصفة العالمية في الإسلام هي خاصية مميزة للشريعة المحمدية دون ما سبقها من الشرائع فقد عدها النبي صلى الله عليه وسلم واحدةً من خمس خصائص أعطاها الله له دون غيره من الأنبياء وهي أن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة أما هو فقد بعث إلى الناس عامة.
وإذا علمنا أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين،فلا نبي بعده تبين لنا جانب من حكمة العالمية في رسالته،فهو قد جاء مبشراً بعالم جديد يتقارب فيه الناس ويتعارفون وتزول بينهم الحواجز والسدود،وتنزوي مشارق الأرض ومغاربها فيصبح العالم كأنه قرية صغيرة،موحد في تواصله وفي اهتماماته وهمومه.
وقديماً كانت تقوم أكثر من حضارة في الوقت الواحد لا تعرف الواحدة منها عن الأخرى شيئاً كما يذكر المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي عن حضارة الانكا والمايا في أمريكا الجنوبية والوسطى وحضارة الصين في أقصى الشرق،أو كما في القرآن الكريم في قصة سليمان مع الهدهد حين قال له (جئتك من سبأ بنبأ يقين)،فقد كانت حضارة سليمان في فلسطين وحضارة سبأ في اليمن ولم يكن يعلم عنها شيئاً إلا حين اكتشفها الهدهد أثناء تجواله بمحض الصدفة،لذلك كان رسالات الأنبياء تأتي بالطريقة التي تلائم تلك العصور فيبعث النبي إلى قومه خاصة،وفي ذات الوقت يبعث أنبياء آخرون في أماكن أخرى لأقوامهم
أما في هذا الزمان فلم تعد هناك سوى حضارة عالمية واحدة.
وعالم بهذا التوحد في التواصل والحضارة لا بد أن يكون موحداً في المنهج والشرعة التي يحتكم إليها..
لقد أحدث التطور العلمي والتقني الهائل الذي شهده هذا العصر قفزةً نوعيةً في طبيعة الحياة البشرية والعلاقات الإنسانية،وصار بإمكان الإنسان بالطائرة أن يقطع الأرض من مشرقها إلى مغربها في يوم أو بضع يوم،واستطاعت الفضائيات أن تلغي المسافات الفاصلة بين القارات فيرى الإنسان ما يحدث في أي مكان من العالم في نفس اللحظة ،كما نجحت وسائل الاتصال الحديثة من جوالات وشبكة معلوماتية في التغلب على الحدود المصطنعة بين الشعوب،وتواصل الإنسان مع أخيه الإنسان رغم أنوف السياسيين وحواجزهم المقيتة،وبذلك أصبحت الظروف مهيأة لتحقيق الغاية القرآنية في التعارف بين الناس (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)
وهكذا هي سنة الله في خلقه أن يتقدم الناس نحو إقامة دين الله في الأرض إن لم يكن إيماناً بالغيب،فبالتجربة والخطأ وبمقتضى التطور التاريخي وفق السنة القرآنية (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)،وكلما زاد رصيد البشرية من العلوم والمعارف والتجارب كلما تقدمت خطوةً نحو الإسلام حتى تصل إلى مرحلة الدينونة الكاملة له: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)،وبهذا المنطق فإن التقدم العلمي والتقني والفكري في هذا العصر قد ساهم في صياغة عالم جديد يؤمن بقيم العالمية والتواصل والتعارف،ويدرك أكثر من أي وقت مضى الحاجة إلى التقارب والتوحد وإقامة التكتلات الكبرى،أما دعاة الانفصال في اليمن والسودان والعراق ومثلهم كثيرون في بلادنا العربية فإنهم يسيرون عكس اتجاه التاريخ ويعاندون سنة الله في الأرض وسوف يتجاوزهم التاريخ وتطويهم الأيام وتكون لهم سوء العاقبة..
تتضح عالمية الإسلام في القرآن الكريم من الفئة المخاطبة فيه،فالقرآن لا يخاطب قبيلةً أو قوماً أو إقليماً ولكنه يخاطب الناس جميعاً بصيغة (يا أيها الناس)،وحتى عندما يخاطب المؤمنين بصيغة (يا أيها الذين آمنوا)،فهذا لا ينفي عالميته لأن "الذين آمنوا"ليسوا قبيلةً أو قوماً،ولكنهم فريق من الناس حققوا شروطاً معينة،وكل إنسان يستطيع أن يصبح جزءً من "الذين آمنوا" بمحض إرادته فيدخل في هذه الدائرة ،كما أن مناداته للذين آمنوا تأتي دائماً بغرض التكليف أو التذكير أو التحذير وليس بغرض المحاباة والتعصب لهم.
تتضح عالمية القرآن أيضاً من طبيعة المواضيع التي يعالجها فهي قضايا إنسانية عامة،تمس الإنسان من حيث كونه إنساناً بغض النظر عن قومه ولونه وإقليمه بل وحتى دينه،والمشكلات الكبرى التي يعالجها القرآن مثل الشرك والكفر والظلم هي مشكلات إنسانية عامة تصيب الناس جميعاً بمقدار قل أو كثر،فلا يحق لنا كمسلمين أن نزكي أنفسنا ونؤول الآيات التي تتناول هذه القضايا بأنها تقصد الأمم الأخرى بل إن لنا نصيبنا من دلالة هذه الآيات مهما كانت المواضيع التي تتناولها،لذا نجد أن القرآن ينهى النبي نفسه عن الشرك (ولا تكونن من المشركين)(ولا تدع مع الله إلهاً آخر)،والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ دائماً أن يشرك بالله شيئاً يعلمه ويستغفره لما يعلمه،كما كان يستعيذ بالله من الكفر والفقر، فإذا كان النبي وهو خير الخلق لا يأمن أن يصيبه شئ من الشرك أو الكفر،فأولى بنا ألا نزكي أنفسنا وأن ندرك بأن هذه القضايا لا تخص الآخرين وحدهم ولكن لكل درجات مما عملوا،ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم.
هذا الفهم للقرآن الكريم يساعد في تحقيق مبدأ العالمية،لأنه يحررنا من التعصب وتنزيه الذات والتعالي على الآخرين،ويجعلنا أكثر انفتاحاً عليهم وأكثر تواضعاً تجاه أنفسنا.
وقد تجسد مبدأ العالمية واقعاً عملياً في المجتمع الإسلامي الأول حيث قام هذا المجتمع ابتداءً على أساس الفكر وليس القومية أو الوطنية،فالرابطة التي تجمع أفراده هي الإيمان،وهي أرقى رابطة يمكن أن تجمع الناس لأنها تستعلي على اعتبارات الدم والأرض واللغة التي تفرض على الإنسان قبل أن يولد فلا يكون له دخل في اختيارها،أما هذه الرابطة فهي تقوم على أساس الفكر الذي يختاره الإنسان بإرادته،وهي مرحلة متقدمة في العلاقات بين الناس بدأت البشرية تدرك قيمتها مؤخراً فأقامت روابط على أسس فكرية مثل الاشتراكية .
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على مبدأ المساواة الإنسانية فقرر أنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وبذلك ضم المجتمع المسلم أفراداً من مختلف الألوان والأجناس مثل بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي.
لكن هذه الصورة المشرقة لعالمية الإسلام وإنسانيته لن ينفعنا أن نتباهى بها ما دمنا بعيدين عن الاستفادة منها في واقع حياتنا العملية،وواقع المسلمين اليوم هو أبعد ما يكون عن هذه المعاني السامية،فهو واقع يزدهر فيه التعصب والانغلاق والعنصرية وتمجيد الذات وتحقير الآخر،وفي الوقت الذي يلح فيه الإسلام على أنه للناس كافة ويذكر هذه الأمة بدورها الحضاري "لتكونوا شهداء على الناس"،فإننا عاجزون عن تقديم أي مشروع حضاري مفيد للعالم، وصرنا عالة على الآخرين نأكل مما يعملون،ونستهلك ما ينتجون.
وحين يطلق أحدنا العنان لخياله لرسم صورة حالمة للمستقبل فإنه يصور المسلمين وقد أحكموا قبضتهم على العالم،وسيطروا على الثروات والأسلحة، وقد ذلت أمريكا وخضعت لنا الشعوب الأخرى وهم صاغرون،ونحن نظن أننا نحسن صنعاً بهذه الأحلام.
وكأن كل معركتنا الحضارية هي القضاء على الهيمنة والعلو الأمريكي ليحل محلهما هيمنة المسلمين وعلوهم،مع أن العلو في الأرض ليس هو الهدف الحضاري للمسلمين (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً)،والإسلام لم يأت ليحل مشاكل المسلمين على حساب غيرهم،بل أتى ليقدم الحلول للناس كافة،والرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وليس للمسلمين وحدهم،وعندما اتهم يهودي في المدينة بالسرقة نزل القرآن من فوق سبع سموات ليبرئ اليهودي الذي لا يؤمن بالقرآن ويعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على تصديقه للدعوى ضد اليهودي في نحو عشر آيات من سورة النساء.وهكذا فإن الإسلام ليس عنصرياً متعصباً لأتباعه،بل هو إنساني عالمي ينتصر للمظلوم أياً كان،ويشهد بالحق ولو على أتباعه..
والخطأ الذي يتضمنه الخطاب الحضاري للأمة الإسلامية اليوم هو أنه يتمحور حول الذات ولا ينظر إلى الآخر إلا بأنه تابع،وبذلك نفقد تميزنا عن الأمم الأخرى ولا نختلف كثيراً عن أمريكا أو الصين أو الاتحاد الأوروبي، فكل أمة تسعى إلى الهيمنة والنفوذ وإضعاف خصومها وتحسين حياة مواطنيها دون غيرهم ..
رب قائل يقول إنه لا مجال للمقارنة بين المسلمين وبين الأمم الأخرى لأننا نحن أصحاب الدين الحق وقد أمرنا الله بالقتال حتى يكون الدين كله لله،وقد قرر القرآن أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين،وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ملك أمته سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها،ونحن نقول إن الإسلام لم يأت بدعوة الاستعلاء في الأرض حتى لو كان هذا المستعلي مسلماً،وإن أمراض الكبر والعلو والطغيان هي أمراض إنسانية تصيب المسلمين كما تصيب غيرهم،وقد قرر القرآن حقيقة في غاية الخطورة وهي (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)،فشعور المسلم بالاستغناء والاستفراد في الأرض يقوده إلى الطغيان،وهدف الإسلام هي أن تنتشر قيمه وتعاليمه في الأرض لا أن يستعلي أتباعه على غيرهم،أما نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بأن ملك أمته سيبلغ ما بلغ الليل والنهار فإن ذلك يكون بتميزهم الأخلاقي ودعوتهم الإنسانية وليس بالقهر والإكراه..
إن الدور المنتظر من الأمة الإسلامية في هذا العصر هو أن تقدم للعالم مشروعاً حضارياً يكون محوره الإنسان وليس الذات المسلمة، فيه حلول عملية للأزمات التي تواجه البشرية مثل الحروب والفقر والاستبداد والتعصب، وحين تتحقق العدالة والسلام وتنتشر الحرية الدينية والسياسية في العالم،وينتهي الظلم العالمي ويلغى الفيتو من مجلس الأمن الذي يجعل من الدول الخمس الكبرى آلهة تعبد من دون الله فمن حق أي منها إلغاء أي قرار حتى لو وافقت عليه كل الدول وهل التأله غير هذا؟!،حين تصبح الدول سواسية ويكون للأمم المتحدة دورها الحقيقي في إرساء السلام والاستقرار،وتكون هناك عدالة في توزيع الثروة بين الشعوب دون غنى طاغ أو فقر مميت، حين يتحقق هذا يكون الإنجاز الحضاري الذي نبتغيه،لأن المشروع الإسلامي هو أن تسود مبادئ الإسلام في الأرض التي بعث الأنبياء من أجلها والتي لخصها قوله تعالى (ليقوم الناس بالقسط)،وليس أن يحكم المسلمون بأشخاصهم وهيئاتهم.
بمثل هذا الخطاب يتحقق مبدأ العالمية الذي جاء به الإسلام،ونكسب المبرر الأخلاقي لوجودنا الحضاري لأننا لا نعيش لذواتنا بل للآخرين،ولا نريد العلو في الأرض أو الفساد كما تفعل أمريكا اليوم،بل نسعى لتحرير الإنسانية من أغلال العبودية وتخليصها من الظلم الواقع عليها ،وحين يتحقق هذا الهدف لا يضر إن ظلت أمريكا هي التي تحكم أو جاء غيرها ،فليس للأمة الإسلامية أهداف خاصة للحكم والسيطرة،ومبرر وجود هذه الأمة هو ما تقدمه للناس وليس ما تقدمه لنفسها،أما المشكلات الخاصة بالأمة فإن حلها يكون كجزء من الحلول العامة لمشكلات البشرية ..
هذا الخطاب الإنساني وحده هو الجدير بالانتصار والتمكين له في الأرض دون غيره من المشاريع المحدودة المتمحورة حول الذات أعجميةً كانت أم عربية, (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..
ولن يكتب للأمة الإسلامية النهوض ووراثة الحضارة البشرية إلا باعتماد هذا الخطاب، وتربية أبنائها عليه،أما إذا آثرت المحدودية والقطرية والعنصرية فستظل متجمدة في مربع الزمن وستتجاوزها سنة الله التي تصدع في جنبات التاريخ: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق