مع وضع الحرب الصهيونية المجرمة على غزة أوزارها في يناير 2009 بدأت قناعة جديدة بالتشكل لدى فريقي الصراع سواءً الاحتلال الصهيوني أو فصائل المقاومة الفلسطينية بأن خيار المواجهة العسكرية ليس هو الخيار الأمثل،وأنه باهظ التكلفة وأنه طريق مسدود لا يؤدي إلى النتائج السياسية المرجوة،فمن جهته أدرك الاحتلال صعوبة وربما استحالة حسم المعركة عسكرياً مع المقاومة في غزة.صحيح أنه قادر على التدمير والقتل والتضييق على الناس،لكن هذه الأفعال لن تحقق أهدافه السياسية،بل سيكون عليه تحمل تبعاتها الإعلامية والاقتصادية والأمنية،والنتيجة الوحيدة التي يستطيع تحقيقها على أرض الواقع هي القتل والدمار. أما فصائل المقاومة الفلسطينية فقد خرجت من حرب غزة بدرس مفاده أن المقاومة العسكرية المتمثلة بإطلاق الصواريخ وتفجير العبوات ليست خياراً متاحاً دائماً،وأن ممارستها يجب أن يخضع لحسابات سياسية معقدة تقيد انطلاقتها،وتقلل من وتيرتها،لذا فإن من السهل ملاحظة الانخفاض الكبير في وتيرة إطلاق الصواريخ من غزة في مرحلة ما بعد الحرب،وفي المقابل الانخفاض الواضح في الاعتداءات العسكرية الصهيونية على القطاع،ورغم أنه لا يوجد إعلان رسمي عن تهدئة،إلا أن مستوى الالتزام بالتهدئة الميدانية يفوق الالتزام بكل التهدئات السابقة التي كانت بإعلان رسمي. بالتأكيد فإن الأمر لن يخلو من مكابرة ومحاولة إثبات القوة،والظهور بمظهر المنتصر المصر على صواب منهجه،مثلما يفعل الاحتلال بين الحين والآخر بالتلويح بالعودة للحرب،أو قيامه فعلاً بقصف أهداف متفرقة،واحتمال الانتكاسة والعودة إلى دوامة المواجهة غير مستبعد تماماً،لكن الحقيقة التي لا تحتمل الإنكار هي أن هناك قناعات جديدة وواقعاً جديداً بعد الحرب على غزة. هذا الواقع الجديد الذي أنتجته الحرب الظالمة لا يخلو من خير للفلسطينيين أصحاب الحق والقضية العادلة والنضال المشروع،فانحسار الخيار العسكري أمامهم،وتضييق الخناق عليه من شأنه أن يفتح أعينهم على آفاق أوسع وخيارات أكثر في معركتهم لاسترداد حقوقهم،هذه الخيارات الجديدة لا تقل أهميةً وفاعليةً عن الخيار العسكري دون أن يعني هذا إلغاءً لحق المقاومة المشروعة ضد الاحتلال. وحين نتحدث عن خيارات أخرى غير عسكرية فإننا نعني الأشكال المتعددة لما اصطلح على تسميته بالمقاومة المدنية،فالتظاهرات والاعتصامات السلمية،والإضرابات،ومقاطعة منتجات العدو،والسعي لتوفير بديل وطني عنها،وخوض المعركة القضائية لإدانة مجرمي الحرب الصهاينة،والتوظيف الواعي لوسائل الإعلام وللفن في مخاطبة العالم باللغة التي يفهمها وإظهار جرائم الاحتلال بحق الإنسان والتاريخ والأرض،والعمل على تحشيد رأي عالمي مناهض لهذا الاحتلال،كل هذه أشكال نضالية لا تقل أهمية عن النضال العسكري وربما تتفوق عليه. وسنة الدروع البشرية التي استنها الشهيد القائد نزار ريان ودفع حياته وحياة عائلته من أجلها هي من أرقى أشكال المقاومة المدنية،حين يتصدى المدنيون بأجسادهم الضعيفة لطائرات الأف 16 الأمريكية شديدة التدمير لمنعها من قصف المنازل. ومسيرة الحرائر التي قادتها الأخت المجاهدة جميلة الشنطي وشارك فيها حوالي ألفين من النسوة ونجحت في اختراق حصار الدبابات الصهيونية لعشرات المجاهدين في مسجد النصر في بيت حانون،وقامت بتحريرهم هي مفخرة للنضال الفلسطيني،وهبة النساء في معبر رفح ونجاحهن في اقتحامه وما أعقب ذلك من تدفق الفلسطينيين عبر الحدود هو مثال آخر للمقاومة المدنية.وما يفعله أهالي بلدتي نعلين وبلعين من التظاهر كل جمعة برفقة متضامنين أجانب ضد الجدار العنصري الذي يلتهم أراضيهم ويقطع شجر زيتونهم هو أيضاً مثال رائع للثبات الفلسطيني في وجه الجبروت الصهيوني بوسائل سلمية مجردة. كما أن سفن كسر الحصار التي نجحت في الوصول إلى شواطئ غزة رغم أنف الصهاينة، وكذلك القوافل البرية التي قادها متضامنون أجانب هي دليل ساطع على انتصار الإنسانية على قوى الظلم والاستبداد دون اللجوء إلى استعمال السلاح. إن ما يميز المقاومة المدنية أنها صالحة للممارسة في كل وقت بخلاف المقاومة العسكرية التي يجب إخضاعها لحسابات سياسية معقدة،كما أنها تشرك كافة شرائح المجتمع وتفعل دور الأغلبية الصامتة من النساء والرجال،وتخلق روح المبادرة والإيجابية في نفوس عامة الشعب، وتكلفتها اقتصادية،كما أنها تعمق مأزق الاحتلال أخلاقياً وإعلامياً واقتصادياً،وتزيد الضغط العالمي عليه،وتكسب الفلسطينيين مزيداً من الدعم والتعاطف من كل أنصار الحرية في العالم، وتبرز الجانب الأخلاقي لقضيتهم وهو الجانب الأهم الذي يغيبه غبار الصواريخ والتفجيرات، فيلتبس الحق بالباطل ويصبح الفلسطيني متهماً بجرائم حرب مثله مثل الصهيوني كما أشار إلى ذلك تقرير غولدستون أخيراً. إن الحديث عن المقاومة المدنية لا يعني إطلاقاً الدعوة إلى الانهزام والاستسلام،بل هو الطريق الأمثل لتعميق أزمة الاحتلال الأخلاقية وتفجير صراع نفسي داخل المجتمع الصهيوني،فالجندي حين يقتل مسلحاً سينظر إلى نفسه وسينظر إليه مجتمعه بأنه بطل يدافع عن نفسه،أما حين يقتل مدنياً يزرع شجرة زيتون أو يتظاهر سلمياً فسيؤدي ذلك إلى صراع نفسي مرير،وربما قاده في نهاية المطاف إلى الانتحار كما أشارت إلى ذلك الإحصائيات بارتفاع نسبة الانتحار في صفوف الجنود الصهاينة بعد الحرب. المقاومة المدنية لا تعني التخلي عن الجهاد بل هي شكل من أشكاله وهي بحاجة إلى تضحيات وشهداء،وقد اعتبر القرآن الكريم الصدع بكلمة الحق في وجه الظالمين جهاداً كبيراً:'وجاهدهم به جهاداً كبيراً'،بل إن التغيير السلمي هو طريقة الأنبياء كما ورد في سورة إبراهيم على لسان الأنبياء جميعاً في دعوتهم لأقوامهم:'ولنصبرن على ما آذيتمونا'،أي أنهم لن يردوا على العنف بعنف مقابل،وهم بذلك يراهنون لحسم المعركة على القوة الأخلاقية التي تتضمنها دعوتهم لا على قوة السلاح،وهذه هي فلسفة المقاومة المدنية. أما القتال فليس هدفاً لذاته بل إن القرآن حين فرض القتال خاطب الصحابة بالقول:'كتب عليكم القتال وهو كره لكم'،فالمؤمن ليس متعطشاً لسفك الدماء،وهو حين يقاتل فإنه لا يفعل ذلك إلا اضطراراً لانعدام البدائل،وحين تكون هناك بدائل أقل تكلفة وتؤدي إلى نفس النتائج فإن الأولى هو تبنيها. مما يميز المقاومة المدنية أيضاً أنها تصلح للممارسة في كل ميدان،سواءً في مواجهة الاحتلال الخارجي،أو لتصحيح الأوضاع الداخلية،والاحتلال ليس هو العدو الوحيد للشعوب،لكن الفساد والظلم الداخلي هي أعداء لا يقل خطرها عن خطر العدو الخارجي ويجب مواجهتها بنفس الدرجة ،وإذا كان بالإمكان التعامل مع الاحتلال الخارجي بمنطق الحسم العسكري، فإن التعامل بنفس الطريقة مع الأوضاع الداخلية سيؤدي إلى ورطة وإلى انقسام وفرقة،أما من يوطن نفسه على المقاومة السلمية للاحتلال فلن يكون في حرج من التعامل بنفس الطريقة مع الأوضاع الداخلية،فهو سلاح فعال ومفيد في أي ميدان ولا يؤدي إلى مضاعفات. إن خيار المقاومة المدنية قد أثبت نجاعته وتأثيره وإيلامه للعدو،وللتدليل على ذلك نكتفي بذكر تعليقات عدد من القادة الصهاينة على مسيرة فدائيات الحصار التي قادتها الأخت المجاهدة جميلة الشنطي في بيت حانون عام 2006 حيث علق رئيس حركة ' ميريتس ' يوسي بيلين أن ما قامت به هؤلاء النسوة هو أسطورة، وموقف بطولي سيضفي الصدقية والاحترام على النضال الوطني الفلسطيني. أما الجنرال زئيف شيف المعلق العسكري لصحيفة ' هارتس '، فقد قال أن هؤلاء النسوة صنعن تاريخاً بعد أن تزودن بإيمان كبير وعقيدة صلبة جعلتهن يقدمن على هذه المخاطرة التي أسفرت عن مقتل ثلاثة وجرح عدد كبير منهن من أجل العمل على فك الحصار عن المقاومين الفلسطينيين الذين كانوا محاصرين في المسجد. واعتبر شيف أن ما قامت به نساء بيت حانون بقيادة النائب عن حركة حماس جميلة الشنطي سيسجل كحدث هام وسيدرس في كتب التاريخ. إن العاقل الفطن هو من يختار ميدان المواجهة الذي يملك فيه عناصر القوة،ويتجنب خوض معركة لا يملك فيها الأوراق الكافية للانتصار،وإذا كانت موازين القوة العسكرية في هذه المرحلة مختلةً لصالح العدو،فإن الفلسطينيين قادرون على حسم المعركة دون منافس في ميدان المواجهة الأخلاقية والإعلامية والإنسانية إن هم أحسنوا استثمار عناصر القوة التي بحوزتهم،وقوة الفلسطينيين ليست في السلاح ولكنها في عدالة القضية والحق الذي يمتلكونه. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق