الثلاثاء، 27 يوليو 2010

أولوية العمل الاجتماعي في الإسلام

 

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

 
أرسل الله الإسلام لهداية الناس وإسعادهم في الدنيا والآخرة "فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"،وقد خاطب القرآن نبينا عليه الصلاة والسلام فقال:"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، بل إن الغاية الكبرى لإرسال الرسل عبر التاريخ كانت هي إقامة العدل والقسط في حياة الناس كما أفاد بذلك قول الله تعالى في سورة الحديد: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) .
وما يعنيه هذا هو أن الإنسان سواءً كان فرداً أو جماعة هو محور الاهتمام في الإسلام ،فالإسلام لم يأت للرهبانية والانقطاع عن الناس وهجر الحياة،وفي نفس سورة الحديد ذم ربنا عز وجل فريقاً من النصارى في رهبانيتهم واعتزالهم الحياة فقال:"ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها"، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرهبانية فقال لعثمان بن مظعون رضي الله عنه الذي كان يصوم النهار لا يفطر ويقوم الليل لا يفتر ويهجر امرأته فقال له نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام:" يَا عُثْمَانُ لَمْ يُرْسِلْنِي اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّهْبَانِيَّةِ ، ولَكِنْ بَعَثَنِي بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ ".
 
لذا فقد أفرد الإسلام اهتماماً خاصاً بالعمل الاجتماعي الذي يعود بالخير على الناس ورفع من شأن كل عمل فيه تحقيق لمصالح العباد وقضاء لحوائجهم،وتفريج لكرباتهم وتهوين لمصائبهم ،والشواهد على ذلك لا يتسع المقام لحصرها، ففي القرآن الكريم تجد مثلاً الحث على المسارعة في فعل الخيرات،والتعاون على البر والتقوى،والتواصي بالحق والتواصي بالصبر،والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،والإنفاق على الفقراء والمحتاجين،وصلة الأرحام، وبر الوالدين والدفع بالتي هي أحسن وكظم الغيظ والعفو عن الناس ،كما تجد آيات أخرى تنهى عن البغي و الظلم والقتل وأكل أموال الناس بالباطل،والاعتداء،وغمط حقوق النساء واليتامى والضعفاء،وإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وغيرها.
وكل هذه الأوامر والمنهيات القرآنية هي في حقيقتها أعمال اجتماعية لا يقتصر تأثيرها على فاعلها بل يتعداه لمنفعة الغير،وهذا يدلل على طبيعة الرسالة التي جاء بها الإسلام وهي إقامة القسط بين الناس، وإنشاء مجتمع قائم على العدل والتكافل والتراحم.
أما الأحاديث النبوية التي تؤكد هذه الحقيقة فنذكر منها هذا الحديث الوافي الكافي الذي يبرز بصورة جلية أهمية العمل الاجتماعي في الإسلام وأدعو إلى تأمل كل جملة فيه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم:
(أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس ، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم ، أو تكشف عنه كربة ، أو تقضي عنه دَيناً ، أو تطرد عنه جوعا ، ولئن أمشي مع أخ لي في حاجة أحبّ إلي من أن أعتكف في هذا المسجد شهراً - في مسجد المدينة - ومن كفّ غضبه ستر الله عورته ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يثبتها له ثبّت الله قدمه يوم تزول الأقدام.)
 
وهذا الحديث يقرر حقيقة مهمة وهي أن القرب من الله يمر عبر إعانة الناس ومنفعتهم،وهذا ما يضفي على الإسلام تميزه فهو ليس كالعقائد المنحرفة التي زعمت أن الدين علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه وأنه يجب أن يظل محصوراً بين جدران أربع وألا يتدخل في شئون الحياة، ففي الإسلام لا معنى للعبادة بدون العمل الاجتماعي،بل إن العبادة إن لم تقترن بحسن الخلق والمعاملة مع الناس فإنها تجلب الوزر لا الأجر، وهو المعنى الذي يتضح في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن امرأة تصوم النهار وتقوم الليل لكنها تؤذي جيرانها،فقال عليه الصلاة والسلام:هي في النار.
 
بل إن الشعائر التعبدية المحضة في الإسلام لا تخلو من أبعاد اجتماعية،وإذا تأملنا أركان الإسلام الخمسة نجد أن لكل منها آثاره الاجتماعية،فالصلاة مثلاً تجدد شحن المسلم بطاقة روحية تعينه على مواصلة دوره الاجتماعي وتهون عليه العقبات التي يواجهها في حياته، و الصوم يزكي النفس ويجعلها أكثر إحساساً بالفقراء والمساكين،أما الزكاة فأثرها الاجتماعي لا يحتاج إلى برهان فهي التي تحقق التكافل وتنشئ مجتمعاً متراحماً متحاباً لا يبغض فقراؤه أغنياءه ولا يحسدونهم ،والحج فيه اجتماع للمسلمين وتحقيق للمساواة بينهم لا فضل لغني على فقير ولا لأسود على أبيض كلهم بلباس واحد وفي صعيد واحد يدعون رباً واحداً..
 
وهكذا يستبين أمامنا أن الإسلام في جملته هو رسالة إصلاحية تهدف إلى إسعاد الناس في الدنيا والآخرة،وليس الانزواء بعيداً عنهم في المساجد والصوامع.
 
غير أن فريقاً من المسلمين قد ظلموا أنفسهم وظنوا بالله غير الحق ظن الجاهلية،تعرفهم بسيماهم يجتهد أحدهم في الصلاة والصيام وهو مانع للزكاة ظاناً أن صلاته وصيامه يشفعان له ويعفيانه من مسئوليته تجاه الفقراء والمساكين،وآخر يحرص على أداء العمرة والحج في كل عام وهو قاطع لرحمه مغتصب لحقوق الناس،وما علم هذا المسكين أن الله لم يفترض عليه إلا حجة واحدة إن استطاع،أما حقوق الناس فهي معلقة في رقبته لا تسقط إلا بأدائها أو مسامحة أصحابها،حتى لو قضى شهيداً في سبيل الله ،بل إنه لو لم يكن مديناً لأحد فإن هناك أوجهاً من عمل الخير أولى من العمرة وحج النافلة،ويروى أن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه كان في طريقه إلى الحج فوجد امرأةً تبحث في القمامة حتى وجدت طائراً ميتاً فأخذته لتأكله من شدة الفقر فلما رأى حالها أعطاها كل ما لديه من أموال ولم يبق معه إلا ما يبلغه طريق الإياب ولم يحج بل قال لمن معه: هذا أفضل من حجنا لهذا العام ، وهذا هو فقه مراتب الأعمال أن يقدم الفاضل من الأعمال على المفضول وإن كان خيراً ،وهو الفقه الذي وصفه الإمام ابن تيمية بأنه حقيقة الدين،وحاجتنا إلى هذا الفقه في هذا الزمان كحاجة الظمآن في فصل الصيف إلى الماء البارد.
فليس من الدين أن نقابل الأزمات الطاحنة التي نعيشها من فقر وبطالة وفساد وظلم بالانسحاب من المجتمع والاعتكاف في الزوايا، لأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
وليس من الفقه في شيء أن ينفق الغني أمواله في الحج والعمرة كل عام،أو في زخرفة المساجد إلى حد الإسراف والترف،ويترك المجتمع غارقاً أزماته،لكن مقتضى الفقه في الدين أن ينفق هذه الأموال في الأوجه الأكثر نفعاً للمجتمع،فيساعد فقيراً أو يقضي ديناً أو يفرج كرباً،أو يزوج شاباً أو ينشئ مستشفى أو مدرسة أو جامعةً،ولسان حاله كحال عبد الله بن المبارك إذ قال: (هذا أفضل من حجنا هذا العام).
 
والله تعالى أعلم...
مرض الاستكبار في الأرض

                                                                                                                                             أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

الكبر هو الذنب الذي عصى به إبليس ربه حين رفض السجود لآدم واستحق به الطرد من الجنة حيث لا مكان للمتكبرين فيها:"فما يكون لك أن تتكبر فيها"ولاحقته اللعنة إلى يوم الدين.

وأكثر بني آدم هم أتباع لإبليس فهم على طريقته،لذا فإن مرض البشرية المزمن عبر التاريخ هو الكبر،وكل مشكلات العالم اليوم سببها الاستكبار بدءً من البيت الصغير بين الأب وأبنائه أو بين الزوج وزوجته وانتهاءً بمشكلة استعلاء أمريكا في الأرض والزعم بأنها إله من دون الله.

تندلع المشكلات الكبيرة بين الناس من أسباب تافهة لأن كل فريق يصر على إنفاذ كلمته وعدم الرجوع عن موقفه وعدم كسر هيبته ،حتى وإن أدى ذلك إلى معالجة الخطأ بكارثة،ولو كان الإنسان مسلماً حقيقةً بأنه إنسان لا أكثر وأن كل ابن آدم خطاء لما وجد حرجاً في الاعتراف بخطئه والتنازل لصاحبه إذ تبين له أنه على حق،ولكنه يظن في قرار نفسه أنه يمتلك بعض صفات الألوهية  فهو الأكبر والأعلى في زعمه ولا ينبغي أن يكون هناك معقب لحكمه، فيرفض التسليم بالحق ويصر أنها عنزة وإن طارت،ويرفض الحق لأنه جاء ممن هو أصغر منه سناً أو أقل علماً أو مالاً أو منزلةً بين الناس،وفي السلوك الاجتماعي يظهر الكبر في الاستنكاف عن مشاركة عامة الناس في طعامهم وحديثهم وأفراحهم وأحزانهم ،وهذا هو معنى الكبر كما بينه النبي محمد صلى الله عليه وسلم بأنه بطر الحق وغمط الناس أي احتقارهم والتعالي عليهم.

ومن يفعل هذه الأفعال في بيته أو بين زملائه في العمل أو في مجتمعه الصغير  فهو يحمل في صدره بذور الاستكبار والقابلية له،وهو لا يختلف شيئاً عن قوى الاستكبار العالمية ولو قدر له أن يحكم العالم لما كان أفضل حالاً من جورج بوش الذي خاض الحروب لإثبات أن كلمة أمريكا هي العليا،فالعبرة بالقابلية النفسية للمرض،كما في القرآن أن من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً.


 المستكبر ينازع الله في ألوهيته لأن الله هو المتكبر الوحيد بحق،وفي الحديث الشريف يقول رب العزة:(الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار)،والمستكبر يقول للناس اتخذوني إلهاً من دون الله،وبينما يقول المؤمن "الله أكبر"،يقول المستكبر: "أنا أكبر"،وهو إن لم يقلها بصريح المقال،فلسان حاله يؤكدها.

والكبر هو مرض فرعون الذي خلده القرآن إذ قال "أنا ربكم الأعلى"،بل هو مرض جميع الأقوام الذين كفروا بأنبيائهم استكباراً من أنفسهم وهم يقولون:"أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا""،وما منع الكفار من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ليس هو نقص الأدلة على صدقه،ولكنه الكبر والأنفة،واحتقار شخص النبي الكريم عليه الصلاة والسلام "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم".

ومن هنا كان تشديد الإسلام وتشنيعه على المتكبرين حيث يقول الحديث النبوي الشريف: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"،ويقول القرآن الكريم:"أليس في جهنم مثوى للمتكبرين"،وذلك لأن المتكبر يزعم أنه إله فإن لم يرجع عن ذلك كان دخول جهنم ضرورياً لكسر هذا الكبر وإقناعه بحقيقة نفسه:"لو كانوا آلهة ما وردوها"،وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

إن الكبر ضار بصاحبه أكثر من ضرره بغيره،وفي الدنيا قبل الآخرة،وذلك لأن من يتمكن الكبر من صدره فإنه يحيط نفسه بهالات كاذبة وحجب كثيفة من الألوهية المدعاة فلا يسمح لأحد بالاقتراب منه ويأنف مشاركة الناس ولا يتكلم معهم إلا بفوقية،وبذلك يحرم من الطمأنينة القلبية والسعادة الروحية،ويعيش في قلق واضطراب لعدم تمكنه من تحقيق ذاته الكاذبة:"إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه"،كما أنه يحرم نفسه من الاستفادة من علم الآخرين وحكمتهم وتجاربهم لأنه يأبى التواضع والاستماع لما عندهم،وبذلك يغلق على نفسه منافذ الفهم والإدراك،وتسد أمامه الآفاق:"فلا تفتح لهم أبواب السماء" ،ومن يصل إلى هذه الحالة فقد حكم على نفسه بالإعدام الروحي وبدأ طريق النهاية.

وحين يتحرر الإنسان من الكبر لن يجد حرجاً في اتباع الحق أياً كان قائله،وبذلك ستتفتح أمامه آفاق واسعة،وسيزداد علماً وهدى.

إن الطريق إلى خلاص البشرية بأسرها مما هو واقع بها من مصائب هو التخلص من مرض الكبر وتواضع الإنسان لأخيه الإنسان،فلا يعلو بعضهم على بعض ولا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله،فتكون المساواة الإنسانية لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح،وقد جاء الإسلام برسالة المساواة بين الناس:"تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله".

 والدعوة إلى توحيد الله وعدم الإشراك به ليس حديثاً في الميتافيزيقيا وحسب كما يصورها البعض،ولكنها ضرورة اجتماعية وحضارية ملحة،وشرك هذا الزمان ليس بعبادة الأصنام الحجرية ،ولكنه بعبادة الطواغيت من الدول والحكام،وليس شرطاً أن تكون عبادتهم بالركوع والسجود بين أيديهم،ولكنها بالخضوع والذل لهم وطاعتهم في الباطل والإقرار بتجبرهم في الأرض.

إن هذه الآية التي تحدثت عن كلمة السواء تصلح لأن تكون قاعدة للحوار بين البشر وللمصالحة العالمية،وهي كما نرى لم تتطرق إلى الأحكام التفصيلية في الإسلام ولا إلى أركانه كالصلاة والزكاة والصوم ولكنها اكتفت بذكر القاعدة الكبرى التي تصلح ليجتمع عليها البشر وتكون قاسماً مشتركاً بين أتباع الملل والشرائع المختلفة،وهي المساواة الإنسانية والتخلص من روح الاستعلاء والاستكبار.

والتوحيد الذي جاء به الإسلام وقام عليه أمر الدين كله يعني في إحدى جوانبه المساواة بين البشر،فما دام الإله لهذا الكون هو إله واحد في السماء فهذا يعني أن كل من على الأرض هم عبيد له لا يحق لأحد منهم أن يعلو على غيره ويقول لهم إني إله من دونه.

والمسلمون ليسوا استثناءً من القاعدة وهم ليسوا مبرئين من هذا المرض،فهم بشر ممن خلق الله يصيبهم ما يصيب غيرهم من الأمم، وبعض المسلمين يظن أن كونه مسلماً يؤهله للاستعلاء على الناس وإخضاع رقابهم لحكم دولة إسلامية عالمية،وهذا التصور يجعلنا لا نختلف كثيراً عن أمريكا في روحها الإمبراطورية، والإسلام لا يدعو إلى العلو في الأرض: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً"،فالمشروع الإسلامي الحضاري ليس مشروع هيمنة واستعلاء ولكنه مشروع هداية وتعزيز لقيم العدالة والمساواة في الأرض ومحاربة للاستكبار أياً كان مصدره،وأينما تكون الدعوة إلى هذه القيم فثمة الإسلام حتى لو جاءت من غير المسلمين،كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:"أينما يكون العدل فثم شرع الله.  

ستتخلص البشرية من مرض الكبر حين يعترف أتباع الشرائع والثقافات والقوميات المختلفة أن الآخر المختلف عنهم هو إنسان مكتمل الخصائص الإنسانية وأن لديه ما ينفع به العالم ،وأن الاستكبار في الأرض له عواقب وخيمة على الجميع ،وهو ليس في مصلحة أحد،حينها لن تظل البشرية على ملة هتلر الذي نادى بتفوق الجنس الآري ورفع شعار: "ألمانيا فوق الجميع"،وستصير ألمانيا وأمريكا وفلسطين والصومال مثل الجميع،ويطبق الجميع الوصية النبوية الخالدة:"كونوا عباد الله إخواناً"،وهي مرحلة سيصل إليها البشر بالعلم وبالتجربة بعد أن ذاقوا عاقبة الاستكبار،حينها فقط سيعم السلام وستتوقف الحروب والكراهية وسيكون الدين كله لله.

والله أعلى وأعلم...


الجاذبية الأرضية بين الفيزياء والإنسان

أحمد أبورتيمة

"قانون الجاذبية الأرضية"هو ذلك القانون الذي اكتشفه العالم الفيزيائي إسحاق نيوتن وملخصه أن للأرض قوة جذب تسحب إليها الأشياء،وتمنعها من البقاء في الهواء،وأنه لو كانت هناك قوة أكبر من قوة جاذبية الأرض في أي اتجاه لاندفعت الأشياء إلى ذلك الاتجاه،لذلك إذا ألقينا حجراً نحوالسماء فإنه يندفع إلى أعلى ويبقى في الهواء مدة زمنية تتناسب مع قوة الدفع التي رميناه بها،فإذا نفدت الطاقة التي منحت له جذبته الأرض إليها ثانيةً.
وبفهم هذاالقانون استلهم العلماء فكرة إطلاق مركبة الفضاء. فهذه المركبة تتغلب على قوة جاذبية الأرض بواسطة صواريخ دفع تثبت في أسفلها ،وعندما يحترق أحد هذه الصواريخ،يتولى مهمة دفع المركبة صاروخ آخر لمعاكسة الجاذبية حتى تتحرر المركبة من مجال الجاذبية الأرضية وتحلق في السماء.
هذا القانون وإن كان فيزيائياً في المقام الأول،إلا أننا نجد ما يماثله بدرجة كبيرة في طبيعة النفس البشرية وحركة المجتمع والتاريخ مما يذكرنا بوحدة الخالق عز وجل ووحدة السنن التي بثها في خلقه: "ولن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً".
ففي عالم النفس البشرية ما يمكن اعتباره جاذبيةً أرضيةً،وهو أمر يسهل فهمه إذا علمنا بأن الأرض هي أصل الإنسان وإليها معاده: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى)،
وقد ورد في القرآن الكريم عدة إشارات تبين لنا تأثير الجاذبية الأرضية على النفس البشرية مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض)،وقوله عز وجل: (ولوشئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه)، فالإنسان منذ أن خلق الله آدم وحتى قيام الساعة تتنازعه قوتان متعاكستان:قوة الطين التي تجذبه إلى الأرض وتغريه بشهواته وأهوائه، وقوة الروح التي تشده إلى السماء وتعده بالعودة إلى الجنة التيأخرج منها،وبالدخول في ملكوت الله الذي خلقه ونفخ فيه من روحه.

ولما كان للأرض جاذبيتها المهيمنة التي تستمدها من قدرتها على تلبية شهوات الإنسان العاجلة،والاستجابة لأهواء نفسه المتمكنة،فإن الطريق إلى السماء بحاجة إلى قوة دفع معاكسة تتغلب على جاذبية الأرض والطين،تماماً كما أن الحجر بحاجة إلى قوة دفع ليحلق إلى أعلى،ولكن القوة التي تمنح للحجر سرعان ما ينفد مفعولها فيتوقف عن الارتفاع ويهوي إلى الأرض،وهذا ما يحدث مع الإنسان حين يجاهد نفسه ويكدح مرةً واحدةً فيصلي ركعتين خاشعتين في جوف الليل أو يصوم يوماً نافلةً أو يتصدق بصدقة فيسبيل الله أو يكظم غيظه أو غير ذلك من أفعال الخير ثم يقنع بفعله ويركن إليه،فسرعان ما ينفد مفعول الطاقة التي كسبها تحت تأثير سلطان جاذبية الأرض التي تشده إليها ثانيةً.
أما من كان يريد أن يواصل كدحه إلى ربه حتى يلاقيه ويستمر في غذ المسير نحوالسماء فإن عليه أن يظل مستنفراً لفعل الخيرات وألا يستكثر عمله بل يتبع الطاعة بالطاعة ويرتقي من حال إلى حال ويركب طبقاً عن طبق،فمجاهدة النفس وتزكيتها هي عملية متواصلة لا تنتهي إلا بانتهاء حياة الإنسان.
وفي القرآن الكريم يقول ربنا عزوجل: "لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر"فالإنسان في جميع مراحل حياته متذبذب بين تقدم أو تأخر فلا مجال للسكون والاستقرار على حال واحدة ،وكل غفلة عن التقدم بالنفس هو بالضرورة تأخر بها،ومن هنا كان تجديد الإيمان فريضة قرآنيةً وضرورة بشرية حتى لايبلى،
وفي ذلك يقول الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا آمنوا"،
فكيف يؤمن من هو مؤمن أصلاً والجواب هو بالاستمرار على هذا الإيمان وتجديده وزيادته،
فتجديد الإيمان هو تجديد لقوة الدفع التي تحول دون سقوط الإنسان بفعل الجاذبية ،وهي الضمانة لاستمرارارتفاعه في السماء: "ولو نشاء لرفعناه بها"،
أي أن الإنسان المؤمن مطالب بأن يكون مثل مركبة الفضاء فيزود نفسه بصواريخ دافعة متعددة المراحل ،ليتحرر من نطاق الجاذبية،ولا يكون كالحجر الذي تنفد طاقته سريعاً فيهوي إلى الأرض،وتطبيق ذلك في حياتنا العملية أن يطور الإنسان دائماً من نفسه وألا يتوقف عن الإبداع والتجديد وأن يبتكر وسائل جديدة ويبحث عن ميادين مبتكرة لفعل الخيرات وألا يتوقف عن الطموح والارتقاء بنفسه من حال إلى حال،وليحذر بأن كل غفلة عن التقدم والتطوير والإبداع هي بالضرورة تأخر وضمور وانكفاء،
وأنه بينما يتطلب الارتفاع بذل جهد متواصل للدفع فإن السقوط لا يتطلب أكثر من الغفلة عن بذل ذلك الجهد،ومثال ذلك في الصلاة فحتى يحافظ الإنسان على خشوعه فإن عليه مواصلة التركيز وبذل الجهد في استحضار معاني الآيات،وأما التفات القلب فلا يحتاج لأي جهد سوى الغفلة وشرود الذهن. 

وخطورة السقوط أن الإنسان لا ينتبه إليه لأن تفكيره يتجمد في نقطة من نقاط الزمن فيظن أنه لا يزال بعافية وخير ولا يلاحظ انسحاب بساط الزمن من تحت قدميه ،وتقدم الآخرين على حسابه وهذا ينطبق على الأفراد والجماعات والأمم والحضارات.
من أوجه الشبه أيضاً بين المادة والنفس في تأثير الجاذبية الأرضية أنه كلما خف وزن المادة كلما كانت أكثر قدرة على التحليق في الهواء،لذلك تحلق قطعة الورق بخفة في الهواء بينما تسقط قطعة الحديد سريعاً
،ونفس الشيء نجده في حياة الإنسان،فكلما تخفف الإنسان من أحمال الدنيا وأثقالها كلما كان ذلك عوناً له في دخول ملكوت السماء والاقتراب من الله،أما من يحمل أثقالاً من المظالم ويدنس نفسه في أوحال الأرض وطينها ،وطين الأرض هو كناية عن الشهوات والأهواء، فأولئك الذين "لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط".

هذا الحديث عن تأثير الجاذبية الأرضية على النفس البشرية لا نقصره على الإنسان المفرد،ولكنه يصلح أيضاً لتفسير سقوط الجماعات والحركات والأمم والحضارات، فالجماعة ليست سوى تجمع للأفراد وما ينطبق على الأفراد من قوانين ينطبق على الجماعات أيضاً،فالأمم بحاجة إلى قوة دفع دائمة ومتجددة لتحمي نفسها من جاذبية السقوط،وحين تغتر أمة من الأمم بإنجازاتها وتستكثر أعمالها وتتوقف عن الإبداع والتجديد وتستكبر عن المراجعة والتقويم فإن مسيرتها تبدأ في منحنى النزول والتأخر وتتقدم أمة أخرى لتقود الحضارة،
وهذا قانون عام يفسر لنا سقوط كل الحضارات بما في ذلك الحضارة الإسلامية حين توقفت عن الإبداع الحضاري فتستمر في التألق حيناً من الدهر بفعل قوة الدفع الأولى "كما سماها المفكر الإسلامي مالك بن نبي"، ثم لا تلبث أن تنطفئ ويخبو إشعاعها : (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً) . 
 لماذا خلق الإنسان في كبد؟!
(فلسفة الألم في حياتنا)
أحمد أبورتيمة

حين يتأمل المرء أحوال الناس من حوله يذهل ذلك القدر الهائل من الألم والمعاناة التي تصبغ حياتهم،فيقف حائراً أمام حقائق الحياة المريرة التي فرضت على الإنسانية أن تشق طريقها وسط ركام من الأحزان وفوق أنهار من الدموع،فأقدار الناس مع المصائب موزعة بين فقير معدم لا يجد قوت يومه،ومشرد فقد بيته فغدا بلا مأوى يفترش الأرض ويلتحف السماء،وأطفال صغار فقدوا أمهم أو أباهم أو كليهما فكتب عليهم أن يتجرعوا مرارة الحرمان باكراًً،و أب مكلوم وأم ثكلى خطف الموت فلذة كبدهما في زهرة عمره وريعان شبابه،ومهاجر يئن من وطأة الغربة ويتلمظ شوقاً للعودة إلى وطنه الذي أخرج منه قسراً،وأسير أفنى سنين عمره في ظلمة السجن و قبضة السجان بعيداً عن الشمس والهواء،ومريض أقعده مرضه طريح الفراش فهو ينتظر الموت في كل حين،ونساء وأطفال روعتهم الحروب والكوارث وقذفت في قلوبهم الرعب فلا ملجأ يحميهم،وليست هذه إلا أمثلة لألوان لا تحصى من المعاناة.


ومن سلم من هذه الصنوف المادية من الابتلاءات لم يسلم من هم أثقله أو قلق أقض مضجعه أو وحشة ملأت قلبه،أو خوف نغص عليه نعيمه،وكم من ثري أوتي كل أسباب الراحة المادية فلم يجد سوى الهم والقلق والخوف من المجهول والشعور بالوحشة والاكتئاب النفسي،وفي ذلك آية بينة بأن الكبد والعناء ملازم للحياة على الأرض وجزء لا ينفك من طبيعتها وهو ما دفع بعض الفلاسفة لوصف الحياة الإنسانية بأنها مسرحية تراجيدية مروعة.


وإذا تجاوزنا حدود الوطن الصغير وتأملنا في العالم المحيط بنا صدمنا أمام الحصاد المخيف لتجربة الإنسانية الممزوجة بالدماء والدموع ،فكم من مئات من الملايين قتلوا عبر التاريخ في حروب عبثية لم تجن البشرية منها سوى الندامة والخسران،وما زالت الإنسانية تعزف لحناً حزيناً في مسلسل المعاناة المتواصل منذ أن دب الإنسان على هذه الأرض،ولك أن تتخيل عزيزي القارئ في هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذه السطور كم من نفس تزهق ودماء تنزف ودموع تذرف،وكم من نفوس تتألم وصدور تتأوه في هذه الأثناء.


نتأمل هذه الحقائق المريرة ونحن نؤمن بأن رباً حكيماً قدر الأقدار،وهو يراقب المشهد عن قرب ويستطيع أن يمنع هذه المآسي إن أراد،وأنه لم يأذن لشيء بالوقوع إلا لحكمة بالغة يعلمها وإن خفيت عنا،وأن هذه الأحداث بكل مرارتها وقسوتها على نفوسنا تخفي في باطنها أسراراً عظيمة وإن كان ظاهرها العذابً.


لقد أقر القرآن العظيم بحقيقة أن الإنسان خلق في مشقة وعناء: (لقد خلقنا الإنسان في كبد)،والأرض هي مكان العداوات والأحزان منذ أن هبط آدم وحواء عليها إلى قيام الساعة: (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو)،ولو أن هذه الأرض هي نهاية المطاف للإنسان لحق له أن يموت كمداً وحزناً على سوء حظه فيها،ولكنها مقام مؤقت وممر إلى ما وراءها:(مستقر ومتاع إلى حين)،والمصائب التي تعصف بالإنسان على وجه هذه الأرض ما هي إلا رسائل تذكير متتابعة له بأن هذا ليس هو المكان المناسب لاستقراره وسعادته،فلا يطمئن إليه أو يفتن به ،وهي استفزاز له لتشعل في نفسه الحنين إلى موطنه الأصلي وهو الجنة التي أخرج الشيطان أبويه منها،وهي أيضاً تحذير له من عاقبة الذنوب والآثام فلولا ذنب أبيه آدم لما هبط من دار السعادة إلى دار الشقاء ولما كان عليه مواجهة كل هذه المتاعب والآلام (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم).

 

كما أن هذه المآسي التي تلون حياة البشرية منبهات تذكره بمدى هشاشته وضعفه وافتقاره إلى خالقه فلا يطغى ولا يتكبر،والطغيان طبع أصيل في الإنسان يظهر حين يظن نفسه قوياً ومستغنياً: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" فتأتي هذه المصائب لتذكره بضعفه وحاجته إلى ربه،ولتلجئه للتضرع إليه: " ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرّعون".

فالشدائد هي التي تقرب الإنسان من الله لأنها تقطع أمله بمن دونه وتنقي قلبه من التعلق بغيره فيتحقق الإخلاص " وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين"ففي الشدة يتعرف الإنسان على ربه،فإذا انجلت المحنة عاد إلى غفلته:( فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور )فيظل محتاجاً إلى محن متتابعة حتى لا ينسى ربه.

وهي تقرب الإنسان من الله لأنها تزيل الحجب الكثيفة التي تعيق الوصول إليه ، لأن هذه الحجب قد تكونت بفعل التكوين الطيني للإنسان فنالت كثافة الطين من شفافية الروح،والألم يضعف من تعلق الإنسان بالهوى الطيني ويساعد في إطلاق روحه.

وبعد ذلك فالمحنة هي التي تستفز الإنسان للإبداع والتطوير،وتستخرج طاقاته الكامنة،لأنها تفرض عليه تحدياً يضيق أمامه الخيارات فيستفزه ذلك للبحث عن مخارج وحلول فيكون الإبداع والارتقاء الذي يؤدي إلى التقدم في مسيرة الحياة والإعمار على هذه الأرض.
وقد أبدع المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في نظرية"التحدي والاستجابة" التي فسر بها نشوء الحضارات عبر التاريخ،فحتى تنشأ أي حضارة لا بد من وجود قدر من التحدي لاستفزاز الطاقات البشرية ودفعها للإبداع وإنشاء الحضارة.

وفي عصرنا الحديث نشأت فكرة الاتحاد الأوروبي بعد حربين عالميتين طاحنتين أبيد فيهما عشرات الملايين ،فلم يفكروا في الوحدة إلا بعد أن ذاقوا مرارة التفرق والاقتتال،وهكذا هم البشر يتعلمون بنار التجارب أكثر من اهتدائهم بنور العقل "لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم" .

إن هذا الكبد والعناء الذي قدر الله للإنسان أن يخلق فيه هو الذي يوفر الظروف الملائمة لتحقيق غاية وجود هذا الإنسان على الأرض وهي الابتلاء والتمحيص: (هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)،
والمحنة هي الوسط الملائم لتمحيص النفوس وتطهير القلوب وتمييز الطيب من الخبيث:"أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون" .
والمصائب تكشف التراحم والتكافل بين الناس أو عدمه،فأصحاب الابتلاءات في أي مجتمع هم مشعر الإيمان والأخلاق فيه،فيظهر معدن المجتمع من خلال هؤلاء، فكما أن الفقير والمريض والضعيف يبتلون في صبرهم على الضراء،فإن الغنى والصحيح والقوي يبتلون في النعمة بأن يشكروا الله عليها ويسخروها في مرضاته،ويحسنوا إلى أصحاب الابتلاءات بينهم، فالعافية والرخاء هي ابتلاء للإنسان أيضا ً: "ونبلوكم بالشر والخير فتنة".وهنا نفهم قول ربنا عز وجل: 
"وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ".
بقي أن نذكر من فوائد المصائب أنها هي التي تضفي معنى على الحياة،فلولا المرض لما أدركنا قيمة الصحة،ولو لم يعرف الناس الفقر لما تذوق أحد حلاوة الغنى،ولولا الابتلاء لما عرفنا معنى العافية، فالمصائب هي التي تضفي على الحياة مذاقاً لنستمتع بها،والإنسان يستمتع بالنعمة حين تأتيه بعد تعب،وما يقرب هذا المعنى أن الصائم يستلذ بالطعام أكثر من المفطر لأنه يأكله بعد حرمانه وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنه:"إذا أفطر فرح بفطره"،ولو كانت حياة الناس عافية مستمرة وغنى متواصلاً وصحةً دائمة لسئم الناس منها ولركدت الحياة وفسدت (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).

أمام كل هذه الفوائد الجليلة يتضح لنا جانب من الحكمة الإلهية في تقدير المصائب والابتلاءات على هذه الأرض،وفي خلق الإنسان في كبد،ومن يدرك هذه المعاني فإنه يحيل المحنة إلى منحة،ويصنع من الليمون شراباً حلواً،ويصير بإمكانه أن يشق طريقه نحو السعادة والطمأنينة من بين ركام المشقة والعناء،لكن أكثر الناس يستسلمون لشقاء الدنيا وبؤسها دون أن ينتبهوا لهذه المعاني العميقة،فيكتبون على أنفسهم معيشةً ضنكى:"وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين".
عالمية الإسلام
بقلم أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
الإسلام دين عالمي،فهو ليس دعوةً لقوم من الأقوام أو شعب أو إقليم أو لسان دون غيرهم ،بل جاء للناس كافة (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً),وقد خاطب الله عز وجل النبي محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). 
وصفة العالمية في الإسلام هي خاصية مميزة للشريعة المحمدية دون ما سبقها من الشرائع فقد عدها النبي صلى الله عليه وسلم واحدةً من خمس خصائص أعطاها الله له دون غيره من الأنبياء وهي أن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة أما هو فقد بعث إلى الناس عامة.
وإذا علمنا أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين،فلا نبي بعده تبين لنا جانب من حكمة العالمية في رسالته،فهو قد جاء مبشراً بعالم جديد يتقارب فيه الناس ويتعارفون وتزول بينهم الحواجز والسدود،وتنزوي مشارق الأرض ومغاربها فيصبح العالم كأنه قرية صغيرة،موحد في تواصله وفي اهتماماته وهمومه.
وقديماً كانت تقوم أكثر من حضارة في الوقت الواحد لا تعرف الواحدة منها عن الأخرى شيئاً كما يذكر المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي عن حضارة الانكا والمايا في أمريكا الجنوبية والوسطى وحضارة الصين في أقصى الشرق،أو كما في القرآن الكريم في قصة سليمان مع الهدهد حين قال له (جئتك من سبأ بنبأ يقين)،فقد كانت حضارة سليمان في فلسطين وحضارة سبأ في اليمن ولم يكن يعلم عنها شيئاً إلا حين اكتشفها الهدهد أثناء تجواله بمحض الصدفة،لذلك كان رسالات الأنبياء تأتي بالطريقة التي تلائم تلك العصور فيبعث النبي إلى قومه خاصة،وفي ذات الوقت يبعث أنبياء آخرون في أماكن أخرى لأقوامهم
أما في هذا الزمان فلم تعد هناك سوى حضارة عالمية واحدة.
وعالم بهذا التوحد في التواصل والحضارة لا بد أن يكون موحداً في المنهج والشرعة التي يحتكم إليها..

لقد أحدث التطور العلمي والتقني الهائل الذي شهده هذا العصر قفزةً نوعيةً في طبيعة الحياة البشرية والعلاقات الإنسانية،وصار بإمكان الإنسان بالطائرة أن يقطع الأرض من مشرقها إلى مغربها في يوم أو بضع يوم،واستطاعت الفضائيات أن تلغي المسافات الفاصلة بين القارات فيرى الإنسان ما يحدث في أي مكان من العالم في نفس اللحظة ،كما نجحت وسائل الاتصال الحديثة من جوالات وشبكة معلوماتية في التغلب على الحدود المصطنعة بين الشعوب،وتواصل الإنسان مع أخيه الإنسان رغم أنوف السياسيين وحواجزهم المقيتة،وبذلك أصبحت الظروف مهيأة لتحقيق الغاية القرآنية في التعارف بين الناس (وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)
وهكذا هي سنة الله في خلقه أن يتقدم الناس نحو إقامة دين الله في الأرض إن لم يكن إيماناً بالغيب،فبالتجربة والخطأ وبمقتضى التطور التاريخي وفق السنة القرآنية (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)،وكلما زاد رصيد البشرية من العلوم والمعارف والتجارب كلما تقدمت خطوةً نحو الإسلام حتى تصل إلى مرحلة الدينونة الكاملة له: (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون)،وبهذا المنطق فإن التقدم العلمي والتقني والفكري في هذا العصر قد ساهم في صياغة عالم جديد يؤمن بقيم العالمية والتواصل والتعارف،ويدرك أكثر من أي وقت مضى الحاجة إلى التقارب والتوحد وإقامة التكتلات الكبرى،أما دعاة الانفصال في اليمن والسودان والعراق ومثلهم كثيرون في بلادنا العربية فإنهم يسيرون عكس اتجاه التاريخ ويعاندون سنة الله في الأرض وسوف يتجاوزهم التاريخ وتطويهم الأيام وتكون لهم سوء العاقبة..

تتضح عالمية الإسلام في القرآن الكريم من الفئة المخاطبة فيه،فالقرآن لا يخاطب قبيلةً أو قوماً أو إقليماً ولكنه يخاطب الناس جميعاً بصيغة (يا أيها الناس)،وحتى عندما يخاطب المؤمنين بصيغة (يا أيها الذين آمنوا)،فهذا لا ينفي عالميته لأن "الذين آمنوا"ليسوا قبيلةً أو قوماً،ولكنهم فريق من الناس حققوا شروطاً معينة،وكل إنسان يستطيع أن يصبح جزءً من "الذين آمنوا" بمحض إرادته فيدخل في هذه الدائرة ،كما أن مناداته للذين آمنوا تأتي دائماً بغرض التكليف أو التذكير أو التحذير وليس بغرض المحاباة والتعصب لهم.
تتضح عالمية القرآن أيضاً من طبيعة المواضيع التي يعالجها فهي قضايا إنسانية عامة،تمس الإنسان من حيث كونه إنساناً بغض النظر عن قومه ولونه وإقليمه بل وحتى دينه،والمشكلات الكبرى التي يعالجها القرآن مثل الشرك والكفر والظلم هي مشكلات إنسانية عامة تصيب الناس جميعاً بمقدار قل أو كثر،فلا يحق لنا كمسلمين أن نزكي أنفسنا ونؤول الآيات التي تتناول هذه القضايا بأنها تقصد الأمم الأخرى بل إن لنا نصيبنا من دلالة هذه الآيات مهما كانت المواضيع التي تتناولها،لذا نجد أن القرآن ينهى النبي نفسه عن الشرك (ولا تكونن من المشركين)(ولا تدع مع الله إلهاً آخر)،والرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ دائماً أن يشرك بالله شيئاً يعلمه ويستغفره لما يعلمه،كما كان يستعيذ بالله من الكفر والفقر، فإذا كان النبي وهو خير الخلق لا يأمن أن يصيبه شئ من الشرك أو الكفر،فأولى بنا ألا نزكي أنفسنا وأن ندرك بأن هذه القضايا لا تخص الآخرين وحدهم ولكن لكل درجات مما عملوا،ولكل امرئ ما اكتسب من الإثم.
هذا الفهم للقرآن الكريم يساعد في تحقيق مبدأ العالمية،لأنه يحررنا من التعصب وتنزيه الذات والتعالي على الآخرين،ويجعلنا أكثر انفتاحاً عليهم وأكثر تواضعاً تجاه أنفسنا.

وقد تجسد مبدأ العالمية واقعاً عملياً في المجتمع الإسلامي الأول حيث قام هذا المجتمع ابتداءً على أساس الفكر وليس القومية أو الوطنية،فالرابطة التي تجمع أفراده هي الإيمان،وهي أرقى رابطة يمكن أن تجمع الناس لأنها تستعلي على اعتبارات الدم والأرض واللغة التي تفرض على الإنسان قبل أن يولد فلا يكون له دخل في اختيارها،أما هذه الرابطة فهي تقوم على أساس الفكر الذي يختاره الإنسان بإرادته،وهي مرحلة متقدمة في العلاقات بين الناس بدأت البشرية تدرك قيمتها مؤخراً فأقامت روابط على أسس فكرية مثل الاشتراكية .
وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم على مبدأ المساواة الإنسانية فقرر أنه لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وبذلك ضم المجتمع المسلم أفراداً من مختلف الألوان والأجناس مثل بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي.

لكن هذه الصورة المشرقة لعالمية الإسلام وإنسانيته لن ينفعنا أن نتباهى بها ما دمنا بعيدين عن الاستفادة منها في واقع حياتنا العملية،وواقع المسلمين اليوم هو أبعد ما يكون عن هذه المعاني السامية،فهو واقع يزدهر فيه التعصب والانغلاق والعنصرية وتمجيد الذات وتحقير الآخر،وفي الوقت الذي يلح فيه الإسلام على أنه للناس كافة ويذكر هذه الأمة بدورها الحضاري "لتكونوا شهداء على الناس"،فإننا عاجزون عن تقديم أي مشروع حضاري مفيد للعالم، وصرنا عالة على الآخرين نأكل مما يعملون،ونستهلك ما ينتجون.
وحين يطلق أحدنا العنان لخياله لرسم صورة حالمة للمستقبل فإنه يصور المسلمين وقد أحكموا قبضتهم على العالم،وسيطروا على الثروات والأسلحة، وقد ذلت أمريكا وخضعت لنا الشعوب الأخرى وهم صاغرون،ونحن نظن أننا نحسن صنعاً بهذه الأحلام.
وكأن كل معركتنا الحضارية هي القضاء على الهيمنة والعلو الأمريكي ليحل محلهما هيمنة المسلمين وعلوهم،مع أن العلو في الأرض ليس هو الهدف الحضاري للمسلمين (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً)،والإسلام لم يأت ليحل مشاكل المسلمين على حساب غيرهم،بل أتى ليقدم الحلول للناس كافة،والرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وليس للمسلمين وحدهم،وعندما اتهم يهودي في المدينة بالسرقة نزل القرآن من فوق سبع سموات ليبرئ اليهودي الذي لا يؤمن بالقرآن ويعاتب النبي صلى الله عليه وسلم على تصديقه للدعوى ضد اليهودي في نحو عشر آيات من سورة النساء.وهكذا فإن الإسلام ليس عنصرياً متعصباً لأتباعه،بل هو إنساني عالمي ينتصر للمظلوم أياً كان،ويشهد بالحق ولو على أتباعه..

والخطأ الذي يتضمنه الخطاب الحضاري للأمة الإسلامية اليوم هو أنه يتمحور حول الذات ولا ينظر إلى الآخر إلا بأنه تابع،وبذلك نفقد تميزنا عن الأمم الأخرى ولا نختلف كثيراً عن أمريكا أو الصين أو الاتحاد الأوروبي، فكل أمة تسعى إلى الهيمنة والنفوذ وإضعاف خصومها وتحسين حياة مواطنيها دون غيرهم ..
رب قائل يقول إنه لا مجال للمقارنة بين المسلمين وبين الأمم الأخرى لأننا نحن أصحاب الدين الحق وقد أمرنا الله بالقتال حتى يكون الدين كله لله،وقد قرر القرآن أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين،وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن ملك أمته سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها،ونحن نقول إن الإسلام لم يأت بدعوة الاستعلاء في الأرض حتى لو كان هذا المستعلي مسلماً،وإن أمراض الكبر والعلو والطغيان هي أمراض إنسانية تصيب المسلمين كما تصيب غيرهم،وقد قرر القرآن حقيقة في غاية الخطورة وهي (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)،فشعور المسلم بالاستغناء والاستفراد في الأرض يقوده إلى الطغيان،وهدف الإسلام هي أن تنتشر قيمه وتعاليمه في الأرض لا أن يستعلي أتباعه على غيرهم،أما نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بأن ملك أمته سيبلغ ما بلغ الليل والنهار فإن ذلك يكون بتميزهم الأخلاقي ودعوتهم الإنسانية وليس بالقهر والإكراه.. 
إن الدور المنتظر من الأمة الإسلامية في هذا العصر هو أن تقدم للعالم مشروعاً حضارياً يكون محوره الإنسان وليس الذات المسلمة، فيه حلول عملية للأزمات التي تواجه البشرية مثل الحروب والفقر والاستبداد والتعصب، وحين تتحقق العدالة والسلام وتنتشر الحرية الدينية والسياسية في العالم،وينتهي الظلم العالمي ويلغى الفيتو من مجلس الأمن الذي يجعل من الدول الخمس الكبرى آلهة تعبد من دون الله فمن حق أي منها إلغاء أي قرار حتى لو وافقت عليه كل الدول وهل التأله غير هذا؟!،حين تصبح الدول سواسية ويكون للأمم المتحدة دورها الحقيقي في إرساء السلام والاستقرار،وتكون هناك عدالة في توزيع الثروة بين الشعوب دون غنى طاغ أو فقر مميت، حين يتحقق هذا يكون الإنجاز الحضاري الذي نبتغيه،لأن المشروع الإسلامي هو أن تسود مبادئ الإسلام في الأرض التي بعث الأنبياء من أجلها والتي لخصها قوله تعالى (ليقوم الناس بالقسط)،وليس أن يحكم المسلمون بأشخاصهم وهيئاتهم.
بمثل هذا الخطاب يتحقق مبدأ العالمية الذي جاء به الإسلام،ونكسب المبرر الأخلاقي لوجودنا الحضاري لأننا لا نعيش لذواتنا بل للآخرين،ولا نريد العلو في الأرض أو الفساد كما تفعل أمريكا اليوم،بل نسعى لتحرير الإنسانية من أغلال العبودية وتخليصها من الظلم الواقع عليها ،وحين يتحقق هذا الهدف لا يضر إن ظلت أمريكا هي التي تحكم أو جاء غيرها ،فليس للأمة الإسلامية أهداف خاصة للحكم والسيطرة،ومبرر وجود هذه الأمة هو ما تقدمه للناس وليس ما تقدمه لنفسها،أما المشكلات الخاصة بالأمة فإن حلها يكون كجزء من الحلول العامة لمشكلات البشرية ..
هذا الخطاب الإنساني وحده هو الجدير بالانتصار والتمكين له في الأرض دون غيره من المشاريع المحدودة المتمحورة حول الذات أعجميةً كانت أم عربية, (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..
ولن يكتب للأمة الإسلامية النهوض ووراثة الحضارة البشرية إلا باعتماد هذا الخطاب، وتربية أبنائها عليه،أما إذا آثرت المحدودية والقطرية والعنصرية فستظل متجمدة في مربع الزمن وستتجاوزها سنة الله التي تصدع في جنبات التاريخ: (وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)..

الأربعاء، 21 يوليو 2010

التجديد في فهم التوحيد

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com
 
التوحيد هو أساس دين الإسلام كله،وما من نبي أرسله الله إلا برسالة التوحيد أن اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً،والتوحيد هو الحقيقة الكبرى التي قامت من أجلها السموات والأرض ،وما من حقيقة في هذا الكون من الذرة إلى المجرة،ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا تجليات لهذه الحقيقة الكبرى،وإن من شئ إلا يسبح بحمده.
 
 التوحيد هو إفراد الله بالعبودية،وعدم إشراك أحد من خلقه معه،فهو وحده الإله الخالق الرازق والمحيي والمميت والنافع الضار والمعطي والمانع،والعزيز القهار لا إله إلا هو،له الأمر وإليه المصير.
 
والتوحيد شرط  ضروري لصلاح الحياة،فلو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا،وما نراه في واقع حياتنا يقرب إلينا هذا المعنى،إذ لا توجد مؤسسة بمديرين أو دولة برئيسين،فلا بد من وجود شخص واحد له الكلمة الأخيرة والقول الفصل حتى تستقيم الأمور،ولا يحدث تناقض واضطراب،وهذا شيء آخر غير الاستبداد في الحكم،فقد يكون هناك تعدد في السلطات وتداول للحكم،ولكن قد علم كل اختصاصه وحدوده،فلا يكون هناك قراران متناقضان في وقت واحد.
 
ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل،فالأول يملك أمره أكثر من سيد،أحدهما يأمره بالتوجه يميناً والآخر يأمره بالتوجه شمالاً،فهو في حيرة واضطراب إن أرضى أحدهما أغضب الآخر إذ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه،أما الثاني فهو مملوك لسيد واحد فهو متفرغ القلب والجهد له،وكذلك مثل الشرك والتوحيد،فالشرك يشتت القلب ويمزق الجهد،ويخلق حالة من الاضطراب والقلق والصراع الداخلي العنيف لتناقض المشاعر واختلاف الدوافع،والمشرك مثله كأنما خر من السماء فتخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ، وهكذا تستحيل حياة المشرك إلى عذاب أليم في الدنيا،قبل الآخرة التي يأتي فيها الجزاء موافقاً للعمل.
 
أما التوحيد فإنه يحرر النفس البشرية من التشتت والاضطراب وتنازع الدوافع،ويوجه كل طاقاتها في اتجاه واحد أعلى ،مما يورثها حالة من الطمأنينة والسلام الداخلي ‘ألا بذكر الله تطمئن القلوب’، التوحيد يعني الانسجام والتوافق مع الفطرة،فالموحد مجتمع القلب والهم والفكر،ولا يتلقى منهج حياته إلا من مصدر واحد متعال،وفي القرآن الكريم فإن التوحيد النقي من الشرك يثمر الأمن والهداية في حياة الإنسان:’الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون’.
 
ولا يتحقق انسجام النفس البشرية إلا بالتوحيد،لذلك فإن المؤمن العاصي يعيش حالةً من التناقض والتوتر لأنه يؤمن بتعاليم لا ينفذها في حياته،فهو يسعى للتخلص من هذا التناقض ويبحث عن حالة توافق وتوحد داخلي،فإما يرفعه إيمانه فيتخلص من الذنوب،أو توبقه ذنوبه فتقضي على دينه،فلا بد من توحيد داخلي بين أجزاء النفس. 
 
التوحيد في مفهومه البسيط هو الخروج من تعدد المظاهر وكثرتها إلى وحدة الأصل،وهذا هو مفهوم القانون الذي وضعه البشر لتسهيل التعامل مع ظواهر الكون،،فالقانون هو توحيد الظواهر الكثيرة والأحداث المتفرقة،وردها إلى أصل واحد،والإنسان يميل فطرياً إلى الخروج من حالة التعدد والتشتت إلى التجميع والتوحيد،لما في ذلك من راحة ويسر وتركيز للجهد،وهذا منهج نلمسه لدى العلماء المعاصرين ،فقد وحد العالم الفيزيائي جيمس مكسويل القوتين الكهربية والمغناطيسية في قوة واحدة هي الكهرطيسية،وذكر عن العالم العبقري ألبرت آينشتاين أنه قضى سنوات عمره العشرين الأخيرة وهو يحاول دمج الطاقات كلها بطاقة واحدة في محاولة للوصول إلى القانون التوحيدي للوجود،وذلك بعد أن وحد الطاقة والمادة في قانون واحد،ووحد الزمان والمكان في قانون واحد،ومثل هذه المحاولات من قبل علماء وازنين تدل على أن منهج التوحيد مغروس في أعماق فطرة الإنسان.
 
التوحيد ليس شأناً غيبياً وحسب لا صلة له بواقع حياة الناس،كما أساء فهمه كثير من المسلمين فظنوا أنه حديث في الميتافيزيقيا و الماورائيات،ولكنه ضرورة اجتماعية وسياسية وحضارية، فأن يعبد الإنسان إلًه واحداً ولا يشرك به شيئاً يقتضي أن يتحرر من الخضوع لأي قوة أو سلطان أرضي،وأن يكفر بكل الأصنام التي من دون الله،وهذه الأصنام التي تعبد من دون الله ليست مقتصرة على هبل أو اللات والعزة ومناة،التي كان يعبدها الأولون،فهذا الشكل من أشكال الشرك قد تجاوزه كثير من البشر في هذا الزمان حتى أولئك من غير المسلمين،وتناول الشرك بهذا المعنى هو جمود للفكر،وغياب عن الحاضر، لكن هذا التجاوز لأشكال الأصنام القديمة لا يعني تحرراً من الشرك،بل لا تزال هناك أصنام أخرى تعبد في الأرض من دون الله،والقرآن تحدث عن الهوى الذي يتخذه الناس إلهاً من دون الله ‘أفرأيت من اتخذ إلهه هواه ‘،والهوى كلمة جامعة لكل ميول النفس، من حب المال والشهوات والزعامة والظهور والخضوع للطواغيت وغيرها،فهذه آلهة مزيفة يعبدها الناس من دون الله،وعبادتهم لها ليس بالسجود والركوع بين يديها،ولكن بطاعتها والخضوع لسلطانها،وهذا هو المعنى العميق الذي يوضحه النبي صلى الله عليه وسلم حين سمعه عدي بن حاتم وهو يقرأ الآية:’اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله’، فاستغرب لأنهم لم يكونوا يركعوا لهم ويسجدون،فقال له النبي محمد صلى الله عليه وسلم ‘إنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم’فتلك عبادتهم لهم.
 
الشرك هو مشكلة عالمية،بل هو أساس مشكلات البشر كلها،ومن هنا نفهم سر كل هذا الإلحاح من قبل القرآن على معالجته،فلا تكاد صفحة من كتاب الله إلا ودعت إلى التوحيد وحذرت من الشرك تفصيلاً أو إجمالاً،لأنه أساس الأمر كله،وإذا كان الأساس فاسداً فسد البناء كله،والتوحيد يعني العدل،فما دام الإله واحداً في السماء فإن كل من على الأرض عباد سواسية ،فلا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي في أصل إنسانيته،ومشكلة البشر اليوم هي في استعلاء بعضهم على بعض،فالذين استكبروا في الأرض من الدول الكبرى،والحكام المستبدين يقولون للناس اتخذونا آلهةً من دون الله،إن لم يكن بصريح المقال فبلسان الحال،فهم يريدون ألا يكون هناك معقب لحكمهم وأن يكون الأمر كله لهم،وأن تكون لهم الكبرياء في الأرض،يعطون من يشاءون ويمنعون من يشاءون،وهم بذلك ينازعون الله في صفاته،ويشركون أنفسهم معه، وفي مجلس الأمن الدولي تنصب الدول الخمسة الكبرى أنفسها آلهةً في الأرض من دون الله،بابتداعهم ما أسموه حق النقض ‘الفيتو’،فإذا كان هناك إجماع عالمي على مسألة ما فإن من حق دولة واحدة من هذه الدول أن تلغي هذا الإجماع وتنفذ رأيها لا معقب لحكمها،وهذه الفكرة استفدتها من المفكر المعاصر جودت سعيد الذي اعتبر حق النقض هو الشرك الأكبر في هذا العصر،وهو مناقض لدعوة التوحيد العالمي التي جاء بها الإسلام أن تعالوا إلى كلمة سواء وألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله.
 
وهكذا فإن مصطلحات القرآن مثل التوحيد والشرك والأصنام ليست قوالب جامدةً أو قاصرةً على زمن انتهى،ولكنها مفاهيم حية وخالدة لها تطبيقاتها في كل زمان.
 
إن التوحيد بمفهومه الصحيح هو المدخل لإصلاح حياة الناس كلهم،لا حياة المسلمين وحسب، وإنشاء حضارة إنسانية قائمة على العدل،فحقيقة التوحيد هي إقامة العدل والمساواة الإنسانية في الأرض،وتحرير الإنسان من كل الآلهة المزيفة ظاهرةً وباطنةً،فالإيمان بالله وحده يمنح الإنسان قوةً نفسية وفكرية هائلة تحرره من الأوهام والخرافات وتزيل من قلبه أي خوف من غير الله،وتطلق عقله وفكره،التوحيد هو الذي يطلق طاقة تحررية تخلص الإنسان من أغلال العبودية والخضوع لأي أحد،فيصير كريماً عزيزاً لا تخيفه كل قوى الأرض ولا يرهبه طواغيتها،لأن أحداً من الخلق لا يملك له ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ،ومهما أوتي من على الأرض من أسباب قوة ونفوذ فهم في حقيقة الأمر لا يملكونها لأنها زائلة عنهم،وإلى الله تصير الأمور.
 
كذلك فإن الموحد بالله لا تخلده شهواته إلى الأرض لأنها عرض زائل ولذة تافهة مؤقتة وما عند الله خير وأبقى،قلبه متصل بالله وحده في السماء،صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين،وإنسان يصل إلى هذه المرحلة هو وحده المتحرر الحقيقي،والآخرون هم عبيد أهوائهم وشهواتهم وسادتهم وكبرائهم.

                   

مسلمون ضد الإسلام
أحمد أبو رتيمة
abu-rtema@hotmail.com
أرسل أخ داعية من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية عبر الانترنت إلى رجل غربي يعرفه بدين الإسلام ويشرح له أوجه العظمة فيه،فرد عليه الغربي قائلاً:كيف تريدون أن تقنعونا بدينكم وأنتم أبعد ما تكونون عن الحضارة والتقدم والنظام،وواصل الغربي رده المزلزل: 'قدموا للعالم شيئاً مفيداً في البداية،ثم بعد ذلك نبدأ النقاش'.
هذه الرسالة وإن صاغها شخص واحد فإنها تلخص نظرة عامة لكثير من غير المسلمين تجاه المسلمين ودينهم،وإذا كنا متفقين بأننا لسنا حجة على الإسلام إلا أننا شئنا أم أبينا فنحن المرآة العاكسة لهذا الدين أمام البشرية،،وهذه الرسالة وإن كانت قاسية على نفوسنا إلا أنها في جزء منها تعبير عن الحقيقة،وينبغي أن تشكل لنا عامل تحد واستفزاز إيجابي،فواقعنا بلا شك هو مثل سيئ لا يشجع على التأسي والاقتداء،وأخطاؤنا لا تحتمل التبرير والمداراة،ومشكلات مثل العجز الحضاري والتخلف العلمي والفقر والبطالة التي تغرق فيها أمتنا لا تساعد في إقناع الآخرين بصحة المنهج الذي ندعو إليه،وحين من الله على المطرب البريطاني كات ستيفنز بالإسلام وتحول إلى يوسف إسلام ورأى بعد ذلك الواقع السلبي للمسلمين قال : :' الحمد لله أني عرفت الإسلام قبل أن أعرف أهله' وهو محق في هذا إذ كيف يقتنع الناس بعظمة تعاليم ديننا ونحن لا نمارسها على أرض الواقع،و كيف نقنعهم مثلاً بأن الإسلام هو دين العدل وهم 

يرون الاستبداد ضارباً بجذوره في بلادنا،وكيف نقنعهم بأن الإسلام هو دين العلم ونحن نقدس الجهل والخرافات في حياتنا،وماذا يفيد صراخنا على المنابر بأن أجدادنا قدموا للبشرية وأفادوها ونحن عاجزون اليوم عن تقديم أي شيء بل صرنا عالةً على الآخرين نستهلك ما ينتجون ونأكل مما يعملون،'كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون'. 

ولعل هذا ما دفع أحد الدعاة إلى القول: (من أجل أن نقنع الغرب بالدخول للإسلام ، ينبغي علينا أن نقنعهم أولاً بأننا لسنا مسلمين ، ولا نمثل حقيقة الإسلام)،وهي عبارة فيها معنى كبير وإن كانت غير قابلة للتحقيق على هذا الوجه إذ يصعب الفصل بين النظرية والتطبيق،أو بين الأفكار والأشخاص خاصةً لدى عموم الناس.

لقد علمنا القرآن الكريم أن ندعو بهذا الدعاء:' رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا'،والمؤمنون يكونون فتنة للذين كفروا حين يذلون بإسلامهم ويكون الكفار أعزة بكفرهم فيقولون: لو كان الإسلام حقاً لكانوا أعزة،وأي فتنة أعظم للكفار من واقع المؤمنين اليوم المفرط في الذل والهوان.

إن الدعوة إلى الإسلام لا تكون بالحديث النظري عن خصائصه ومزاياه ولكنها قبل ذلك تكون بتقديم أسوة حسنة للبشرية في مجال العلم والحضارة والقيم والأخلاق،فلسان الحال أبلغ من لسان المقال والناس تتأثر بما ترى أكثر مما تسمع،وفي القرآن الكريم مشهد ذو دلالات مهمة 
وهو مشهد إسلام ملكة سباً مع سليمان،فإسلامها لم يكن نتيجة لإقناع نظري قام به سليمان
ولكن نتيجة إعجابها بإنجاز حضاري وهو الصرح الممرد من قوارير:
(فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

إن واقع المسلمين اليوم هو أكبر دعاية مضادة للإسلام،وإذا أردنا أن ننجح في مهمة الدعوة التي فرضها الله علينا،فإن علينا الالتفات إلى أنفسنا وإصلاح أوضاعنا،وترجمة المبادئ الإسلامية العامة إلى صيغ تطبيقية،فنقيم العدل في بلادنا ونطلق الحريات ونعالج الفقر والبطالة،وننظف طرقاتنا،ونحسن مخاطبة الناس بلسان العصر وبالحكمة والموعظة الحسنة،وحينها سنكسب ثقتهم وستكون لنا مصداقيتنا.

صحيح أن الإسلام هو دين الله الخالد وقد تكفل بحفظه بنا أو بغيرنا،وصحيح أن الإسلام يستمد قوته من ذاته وليس من أدعيائه أو أتباعه،ولكن الله قد جعل للجهد البشري دوره وأهميتهً،فحين يحسن المسلمون الدعوة إلى دينهم فعلاً وقولاً سيدخل الناس فيه أفواجاً لقدرته على منافسة المناهج الأخرى والتغلب عليها،أما حين يكون الواقع كما نرى فستكون النتيجة صدوداً وإعراضاً عن الإسلام،وحتى لو استمر انتشاره بفعل قوته الذاتية فسيكون بمستوى أقل،ولا يعفينا من مسئولياتنا أمام الناس وأمام الله في الدنيا والآخرة.
والله أعلى وأعلم...

كيف تكون سعيداً؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

كل الناس يبحثون عن السعادة،مسلمين كانوا أم غير ذلك،وكل فعل يقوم به إنسان تكون غايته إما جلب لذة أو دفع ألم،رغم ذلك فإن أكثر الناس يقضون غالبية أعمارهم في شقاوة وتعاسة وهموم وأحزان،وهذه حقيقة ملموسة في واقع البشرية المعاصر،فالحضارة التي وفرت للإنسان كل سبل الرفاهية المادية وذللت أمامه العوائق لم تنجح في توفير السكينة والطمأنينة وهدوء البال له ومن المفارقة أن الدول التي بها أعلى مستوى رفاهية للفرد وهي الدول الاسكندنافية هي ذاتها الدول التي تسجل أعلى نسبة انتحار وهذا من أعظم الآيات الدالة على أن السعادة هي شيء آخر غير الأموال والمتع الحسية، والقرآن يفيدنا بأن الأموال والأولاد قد تتحول إلى مصدر عذاب بدل أن تكون مصدر سعادة :’فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا’.

إن أكثر الناس يخطئون طريق السعادة  حين يظنون أنها تدرك بإشباع الحاجات المادية لأجسادهم،فيلهثون وراء جمع الأموال،والأولاد،ويستكثرون من ألوان المتع الحسية،بينما يغفلون غذاء الروح،وهم بذلك يعتنون بالغلاف الطيني الخارجي لأنفسهم،ويهملون جوهرها وكينونتها ،فتبقى وحشة الأرواح والقلوب،لأنهم لم يلبوا متطلباتها واحتياجاتها ‘نسوا الله فأنساهم أنفسهم’،ومن نسيانهم لأنفسهم أن ينسوا أعظم ما فيها وهو الروح فلا يدركوا السبيل إلى راحتها وطمأنينتها،مثلهم في ذلك تماماً كمثل من يتجاهل حقيقة المرض ويتعامل مع العرض فيبقى المرض وإن خفت الأعراض قليلاً ،والمتع الحسية تمنح الإنسان شعوراً باللذة لبعض الوقت لكنه شعور سرعان ما يزول ليحل محله الأرق والقلق والضنك ووحشة القلب والصراع النفسي.

السعادة هي شعور قلبي ينبع من داخل الإنسان،ويأتي حين يتصالح الإنسان مع أعماق فطرته،فيشعر بالرضا لانسجامه مع الناموس الكوني ويطمئن قلبه باتصاله بالمدبر الأعلى لهذا الكون:’ألا بذكر الله تطمئن القلوب’،فالسعادة هي التوافق الداخلي مع نداء الفطرة،أو بتعبير آخر هي معرفة الله.
 

لذا لا غرابة أن تجد إنساناً بسيطاً لا يكاد يجد قوت يومه ولكن إذا نظرت إليه تعرف في وجهه راحة البال وطمأنينة القلب وانشراح الصدر،ينام آمناً في سربه ليس لديه ما يخشى عليه،أو يشغل باله بالأرق والقلق،وما ذلك إلا لإيمانه بالله وحسن علاقته به فهو واثق بأن هناك من يرعاه ويدبر شئونه،فيكل أمره إليه ويطمئن قلبه بذكره،فلا يحزن على ما فات ولا يخاف مما هو آت،’فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون’ ،وهنا نفهم قول أحد السلف:’لو يعلم الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف’،كما نفهم سر الشعور العجيب الذي عبر عنه بلال بن رباح حين سئل عن تحمله للعذاب فقال:’مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان’،

وحين يعرض الإنسان عن نداء الهداية المنبعث من أعماقه فإنه يشعر بوحشة القلب وحرج الصدر ويقع فريسة للهموم والأحزان كلما أرادوا أن يخرجوا منها من هم أعيدوا فيها وذلك لأنه يصطدم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومع الناموس الكوني،فلا ينفعه أن يملك الدنيا بما حوت ما دام يفتقد للسكينة الداخلية،،’ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً’

  ويستطيع كل إنسان منا أن يقوم بتجربة عملية بأن يؤدي الفجر في جماعة ويقارن يومه بيوم آخر لم يصل فيه الفجر جماعة،بالتأكيد سيلمس الفرق الكبير بين اليومين،يوم فيه الراحة والطمأنينة وهدوء البال،ويوم فيه الضيق والهم وتعكر المزاج.

إذاً هو قانون حتمي لا يخضع للصدفة  أو الانتقائية وهو في دقة قوانين الفيزياء والرياضيات: اتباع الهدي السماوي تنتج عنه السعادة،والإعراض عنه يجلب الشقاء ومعيشة الضنك، وحتى حين يشعر المؤمن بالضيق والهم فهذا ليس خروجاً عن القانون وإنما تأكيد له وفي إطاره،فحين يغفل عن ذكر ربه وتلهيه الدنيا يلقي الله في قلبه وحشة لتكون منبهاً له بأن يعود إلى ربه.

هذه المعاني التي آمنا بها غيباً لأن القرآن أخبرنا بها،يتجه الغرب اليوم للإيمان بها بالتجربة والخطأ فحسب ما نشر في مجلة “العلوم أو سينس”خلص فريق من الباحثين الكنديين في جامعة بريتيش كولومبيا  بعد أن أجروا دراسات على مئات الأشخاص بأن الأفراد الذين ينفقون أموالهم على الآخرين أكثر سعادة من أولئك الذين ينفقونها على أنفسهم،وهو ما يطابق مفاهيم الصدقة والزكاة في ديننا، وهذه تجربة أخرى يستطيع كل منا القيام بها بإنفاق جزء من ماله،ويفضل أن يكون بالسر اتقاءً لحظوظ النفس، ليجد بعد ذلك مدى الطمأنينة والرضا الذي يملاً قلبه. 

إن هذه النظرة إلى مفهوم السعادة ستغير كثيراً في حياتنا ، فمن يؤمن بأن السعادة لا تدرك بجمع الأموال وبالركض خلف الدنيا لن يشحن قلبه بالغل والحسد والبغضاء والضغائن والمنافسة على الدنيا،وإنما سينافس في العمل الصالح،وسيسارع في فعل الخيرات،فيأتي الشعور بالسلام والطمأنينة وصفاء النفوس على مستوى الأفراد والمجتمعات.

السمع والطاعة أم الرأي والمشورة؟

أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
 قال لي صاحبي وهو يحاورني إن فلاناً أستاذ الشريعة القدير بينما كان يخطب الجمعة دخل الوزير المرموق من باب المسجد،فما كان من هذا الأستاذ إلا أن نزل من على المنبر وقدم الوزير للخطبة بدلاً منه تقديراً لمكانته ومنزلته.
 
قلت: ولكنني أعرف علاناً وهو شاب صغير كان يخطب الجمعة ودخل ذلك الوزير ذاته من باب المسجد، فما كان منه إلا أن واصل خطبته وكأن شيئاً لم يحدث وجلس ذلك الوزير المرموق مثله مثل غيره يسمع لمن هو أصغر من أولاده.
 
هذا السلوك من ذلك الشاب لم يكن لأنه لا يفهم في الذوق والأصول، ولم يكن أيضاً بالضرورة لأنه أعلم وأتقى من ذلك الوزير، بل بحسب ما فهمت منه لأنه وجد في حضور ذلك الوزير فرصة لا تعوض لإحياء فريضة التناصح بين المسلمين، وإسماع كلمة الحق لأهل السلطان ، فاستشعر الأمانة واستثمر الموقف خير استثمار فتحدث عن ضرورة العدل وخطورة الظلم، وعظم المسئولية التي يتحملها الحاكم، وذكِّر بضرورة الالتفات إلى معاناة الناس والسعي إلى التخفيف منها، وختم خطبته بالتحذير من يوم القيامة وأهواله.
 
إنني أجد نفسي أميل إلى الرأي الثاني لأن ما ينقصنا اليوم ليس المزيد من التقدير والاعتبار للأشخاص، فالناس بفضل الله على قدر من الأخلاق، ولو أن كل إنسان سكت حين حضور المسئول وقدّمه للحديث بدلاً منه، فسيصبح المسئول هو المتحدث دائماً، والعامة هم المستمعون دائماً، وبذلك لن يعلم ما تخفيه صدور الناس، ولن تكون أمامه مرآة تبصره بنفسه وتكشف له مواطن قصوره، وكما في الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ‘إن من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع’.
 
 لو كان الأمر يتعلق بعالم وحسب دون منصب حكومي لفضلت الرأي الأول، إذ أن مقتضى الأدب والأخلاق أن يتواضع الإنسان أمام من هو أعلم منه وأن يقدمه للحديث، مع الحفاظ على حق من هو أقل علماً في السؤال والمناقشة فكل يؤخذ منه ويرد، أما حين يقرن ذلك العلم بالوزارة، فإن الوزارة تغلب أمام الناس على العلم ، وهنا لا يكون المطلوب هو الصمت، بل أمانة الكلمة والنصيحة للحاكم ومصارحته بحقيقة الواقع من حوله بسيئاته وحسناته دون مواربة أو مجاملة.
وهنا تبرز الحاجة إلى ضرورة تشجيع الرأي الآخر على التعبير عن نفسه، وإيجاد مناخ حر للتفكير والنقد البناء، من أجل تقوية حضور المجتمع أمام مسئوليه، فينتقد ويعترض، ويحاسب ويسائل، ولا يكون دوره هز الرءوس وحسب .
 
إن من المبادئ التي أسيئ  استعمالها في حياتنا هو مبدأ السمع والطاعة، فبهذا المبرر خنقنا الرأي الحر، وصادرنا حق الإنسان في التفكير والتعبير، ومارسنا الإرهاب الفكري في أبشع صوره، فمن يتجرأ ويبدي رأياً مخالفاً للتوجه العام فهو مثبط ومرجف، وفي أحسن الأحوال لا يفهم، والقيادة دائماً هي الحكيمة الرشيدة، فمهما كانت القرارات كارثيةً فبالتأكيد أن لدى القيادة رؤية أوسع من رؤيتنا وأنهم يعلمون ما لا نعلم، وحتى حين تصطدم تلك القرارات بصخرة الواقع ويبين فشلها فبالتأكيد أن هناك مبررات وحيثيات غابت عن عقولنا وليس علينا سوى السمع والطاعة.
 
بذلك أوجدنا العنصر المقلد الذي لا يفكر، فهناك من يفكر بالنيابة عنه، وهو لا يفقه من مبادئ الحياة سوى السمع والطاعة في المنشط والمكره والصواب والخطأ، ليس لديه رؤية واعية للأحداث من حوله.
 
خطورة هذا الواقع ليس على العناصر وحدها ولكن على القيادة أيضاً، لأنه يحرمها من قدرات وطاقات كانت ستستفيد منها لو أنها شجعتها على الإفصاح عن نفسها فالقيادة الواعية هي التي تربي قادةً لا أتباعاً،وحين نقهر الرأي الآخر فإننا نلغي الفرامل التي تضبط سيرنا،فنسرع نحو الهاوية دون إبطاء، والعاقل يؤمن بأن الرأي الآخر هو مصدر قوة له، لأنه يبصره بأخطائه ويهدي إليه عيوبه ويفتح أمامه آفاقاً جديدة.
 
وبقدر ما أعلى الإسلام من منزلة الشورى، وافترضها على الجماعة المؤمنة بقدر ما صادرناها في حياتنا.ربما تكون هناك مجالس وهيئات تحمل اسم الشورى، ولكنها أقرب إلى الديكور منها إلى التأثير الفعلي. أما الثقافة الراسخة في أذهاننا فلا تزال ثقافة الجند والعسكر، نفذ ولا تناقش، والمطلوب لترسيخ الشورى هو تربية أبنائنا عليها، وحثهم على التساؤل وإطلاق العنان للتفكير والاعتراض، وعدم التسليم بشئ دون مناقشة وفهم،
 
ويتعجب المرء حين يتأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقد كان أكثر الناس مشاورةً لأصحابه في شئون حياتهم ، وكانوا يناقشونه في كل شئ ويتبعون السؤال بسؤال دون ملل، والنبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم في حلم وصبر وسعة صدر دون أن يقول لهم لا تناقشوني فيما أفعل أو أقرر لأنني أفهم منكم، رغم أنه رسول الله يوحى إليه.
 
وفي غزوة بدر يناقشه صحابي مغمور لم نسمع باسمه قبل هذه الحادثة هو الحباب بن المنذر، ويقول له ليس هذا بالمنزل، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: أشرت بالرأي.
 
بل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صلح الحديبية يراجع النبي صلى الله عليه وسلم ويلح عليه، ولا يسكت بعد ذلك بل ويذهب إلى أبي بكر، ويراجعه ويلح عليه، ولنا أن نتصور ذلك المناخ من حرية التفكير والتعبير، الذي يدفع الصحابة إلى مناقشة النبي الذي يوحى إليه وعدم التسليم إلا بعد الاقتناع..
 
إن المجتمعات لا ترتقي إلا بإيجاد مناخ التفكير الحر، وإطلاق حرية التعبير والتساؤل وإلغاء أي خطوط حمراء تعيق حركة العقل، فالعقل هو الذي يمحو ويثبت وهو الطريق إلى فهم الإسلام والواقع.
 
إن تعزيز ثقافة التناصح والتشاور هو السبيل إلى إيجاد مجتمع واع مبدع ومجدد ومفكر، متحرر من التقليد والجمود، أما أسلوب الجندية والعسكر وما يعنيه من تسليم دون نقاش فلا يجوز استعماله إلا في أضيق نطاق، وحين التنفيذ، وليس في المناقشة والتخطيط، لأن استعماله الخاطئ مدمر وكارثي.    

ليسوا سواءً

أحمد أبو رتيمة

abu-rtema@hotmail.com
 
أرسلت إلي إحدى الأخوات تعلق على خبر صدور قرار قضائي في بريطانيا بإلقاء القبض على مجرمة الحرب الصهيونية تسيبي ليفني،فقالت إن الأمر لا يزيد عن كونه مسرحية قذرة من أعداء الإسلام،وأنها خدعة ومؤامرة وأن التاريخ يعيد نفسه ،ونفت الأخت الفاضلة أن تكون هناك أي عدالة في بلاد الغرب  وختمت رسالتها بالتعبير عن خشيتها بأن تكون هناك مصيبة جديدة للمسلمين والعالم الإسلامي وراء هذا القرار القضائي.
 
دفعني هذا التعليق للرجوع إلى المنتديات الحوارية عبر الانترنت لمعرفة إن كان هذا الرأي مجرد حالة فردية،أم أن له أنصاره بين الجماهير العربية،وكانت المفاجأة بالنسبة لي أن كثيرين يرون نفس الرأي وينظرون لكل ما يصدر من الغرب بمناظير سوداء قاتمة..
 
أقدر الظروف النفسية التي تعيشها الشعوب العربية والتي أفقدتهم الثقة في كل ما يأتي من الغرب،وجعلتهم يتشاءمون منه،فتاريخهم في التعامل معنا هو الاستعمار ونهب خيرات بلادنا وإقامة كيان الاغتصاب على أرضنا ودعم بقائه بكل سبيل،وأوافق بدون تحفظ على الرأي القائل بأن الحكومات الرسمية الغربية تساند كيان الاحتلال في المعركة القضائية التي تواجهه في بلادهم ،وليس مستبعداً على الإطلاق أن يهيئ المسئولون البريطانيون طائرة خاصة لهروب ليفني من وجه العدالة.
 
لكن ما أريد أن أقرره في هذا المقام هو أن الغرب ليس هو المستوى الرسمي وحده،وأنه ليس من العدل أن نعمم نظرتنا السلبية تجاه الحكومات الغربية لتشمل كل ما هو غربي،وأن تدفعنا عاطفة الكراهية لتلك الحكومات لنفي أي إيجابية في الغرب وللنظر إليه نظرةً سوداء مطلقة،والقرآن يعلمنا الإنصاف في الحكم حتى مع من نبغضهم ‘ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا’،ويعلمنا ألا نضع الأقوام والأمم في سلة واحدة والمنهج القرآني هو البعد عن التعميم، فالتعميم هو مجافاة للحق وللعدل،لذا فإن القرآن يلجأ دائماً إلى أسلوب التبعيض،فهو لا يصف الأقوام والأمم بأنهم جميعاً فاسقون أو كافرون أو ظالمون،بل نجد في القرآن تعابير مثل: ودت طائفة’،’وإن فريقاً منهم’،وفي أقصى حالة نجد تعبير:’ود كثير من أهل الكتاب’،’وما كان أكثرهم مؤمنين’،وتعبير ‘أكثر’ وإن كان يقرر السمة الغالبة إلا أنه يعني تحرراً من النظرة الأحادية فهناك في هذه الأمم لون آخر مهما كان عدد أنصاره قليلاً.
 
وحين يحكم القرآن على الأقوام والأمم لا يسقط ذكر إيجابياتهم مهما قلت،بل إنه يقدم ذكرها على ذكر السلبيات وإن طغت ،فمثلاً نجد في القرآن قوله تعالى: «منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون»،’ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك،ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً’.
 
ويلخص القرآن الكريم هذا المنهج الرائع في كلمتين قصيرتين فيقول:’ليسوا سواءً’،فليس من العدالة أن يطلق وصف عام على شعب أو قوم أو حضارة أو حتى أتباع دين،ولكن منهم ومنهم.
 
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه كان يعمل على تعزيز الإيجابيات وتقليل السلبيات،ولعل خير من وصفه في ذلك من أصحابه هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يقول:’كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحسن الحسن ويقويه ،ويقبح القبيح ويوهيه’. وكان عليه الصلاة والسلام يقر للجاهلية رغم جاهليتها بإيجابياتها،ويتضح ذلك في ثنائه على حلف الفضول الذي أقامه الجاهليون،وقال’لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت’.
 
ونحن في تعاملنا المعاصر مع الآخر غير المسلم فإننا مطالبون بإتباع هذا الهدي القرآني والنبوي،ورفع شعار ‘ليسوا سواءً’،فالغرب ليس كله متآمراً وعدواً ومخادعاً،وليس من العدل أن يجرمنا شنآن حكوماتهم أن ننكر ما عندهم من إيجابيات ليست عندنا،مثل استقلال القضاء ،وعدم استفراد الحاكم،والحريات السياسية التي لا يجدها المواطن العربي في بلاده بينما يجدها في الغرب حين يهاجر إليه.
 
كما أن نظرتنا لتلك الحكومات لا ينبغي أن تعمم على شعوبهم ومؤسساتهم،حتى وإن كانت هناك موجة من الكراهية للمسلمين من قبل تلك الشعوب،فإن علينا أن نلوم أنفسنا قبل أن نلومهم،لأننا قصرنا في التواصل معهم وتعريفهم بديننا وحقوقنا،وتركناهم ضحايا لتضليل الحكومات والإعلام المتصهين،والإنسان بطبعه عدو ما يجهل،وكونهم يجهلون حقيقتنا ،فإن من المتوقع أن يناصبونا العداء،وليس بالضرورة أن يكون هذا العداء نابعاً من سوء نية.
 
وإن كانت الحكومات الغربية تحاول أن تلتف على القانون وتحمي مجرمي الحرب الصهاينة بما يطيقونه من حيل سياسية،فإن هناك سقفاً لا يستطيعون تجاوزه في التعامل مع سلطة القضاء في بلادهم.
 
لست متأكداً من انتصار العدالة وإحقاق الحق في أوروبا ،ولست مسرفاً في الأحلام لأتخيل مجرمي الحرب الصهاينة مكبلين في الأغلال أمام المحاكم الدولية،ولكن المهم هو أن نقوم موازيننا ونحتكم إلى منهج الحق في رؤيتنا للعالم من حولنا،ومقتضى العقل والحكمة هو أن نلتقط هذا المزاج المعادي للاحتلال ونعمل على تقويته،وأن ننظر للحراك الذي يشهده العالم ضد الصهاينة بعد حربهم على غزة نظرةً إيجابية متحررة من عقدة المؤامرة،ليس لنمني أنفسنا بالأوهام ثم نستأنف نومنا وسباتنا،ولكن لنعزز هذا الحراك في الاتجاه الذي يخدم حقوقنا ونساهم في زيادة العزلة على كيان الاحتلال أخلاقياً وإعلامياً وقضائياً واقتصادياً.

الوظيفة الاجتماعية للفتوى

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

 

رسالة الإسلام الأساسية هي إصلاح الحياة البشرية "ليقوم الناس بالقسط"، والأنبياء لم يأتوا ليناقشوا الناس في مسائل جدلية منفصلة عن واقع حياتهم، بل طرحوا قضايا ذات صلة وثيقة بواقعهم المعاش، فشعيب عليه السلام جاء برسالة الإصلاح الاقتصادي أن أوفوا الكيل ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولوط عليه السلام جاء بالدعوة إلى الاستقامة الخلقية ومحاربة الفساد المستشري، ويوسف عليه السلام وضع خطةً من خمس عشرة سنةً لمواجهة المجاعة، أما موسى عليه السلام فقد كان يهدف إلى تحرير بني إسرائيل من طغيان فرعون "أن أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم"، وهكذا فإن لكل نبي قضيته الاجتماعية التي يدعو إلى التوحيد من خلالها وتكون محور طرحه الديني.

الدرس الذي نستفيده من هذه الأمثلة القرآنية أن من يتصدر لدعوة الناس ينبغي أن يكون حديثه نابعاً من واقعهم ومراعياً لأحوالهم وعارفاً بالأولويات لإصلاحهم، لا أن يكون منفصلاً عن مشكلات مجتمعه مستغرقاً في مناقشة قضايا نظرية جدلية لا تفيد معرفتها، ولا يضر الجهل بها.

ما دام المقصد الأعلى هو الإصلاح الاجتماعي فإن المهم هو إرشاد الناس وتوجيههم بما يتوافق مع المقاصد العليا للإسلام، لكن بعض الناس من سوء فقههم بالدين يظنون أن التدين هو الجدال في النصوص، فيكثرون من القيل والقال والسؤال ويريدون إجابات قطعية نهائية هل هذا حلال أم حرام، والفتوى لا تؤخذ دائماً بحدية نعم أو لا، بل العبرة فيما يبنى عليها من عمل وفي تأثيرها الاجتماعي بما يحقق المقاصد الكبرى للشريعة من عدل وحكمة ورحمة وصلاح.

ولنا في قصة ابن عباس برهان حيث رُوي عنه رضي الله عنه أن رجلاً سأله عن توبة القاتل فقال: (لا توبة له) وسأله آخر فقال: (له توبة) ثم قال: "أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته, وأما الثاني فجاء مستكيناً قد قتل فلم أقنطه".

وكما نرى فإن فتوى ابن عباس لم تحكمها النصوص وحدها، وإلا  لكانت الإجابة واحدة في كلا الحالتين لأن السؤال واحد، ولكن حبر الأمة رضي الله عنه نظر ما هو الأثر الاجتماعي للفتوى فلو أنه أجاب الأول بنفس جواب الثاني لتسبب في جريمة قتل جديدة، إذاً لخرج الأمر من الحكمة إلى العبث حتى وإن كان هناك مسوغ في النصوص، وقد كتب الإمام ابن القيم فائدةً عظيمةًً في كتابه (إعلام الموقعين) حيث قال إن كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل ".

وهناك قول بجواز الأخذ بالرأي المرجوح وهو الرأي القائم على أدلة ضعيفة، وترك الرأي الراجح وهو القائم على أدلة قوية إذا كان في الأخذ بالمرجوح مصلحة معتبرة شرعاً، كأن يكون في الرأي المرجوح مثلاً جمع لكلمة المسلمين، ومنع للفتنة والاختلاف بينهم. ولا نقصد بالمصلحة المعتبرة ما كان دافعه الهوى.

ولما فهم الأئمة الأوائل هذه الوظيفة الاجتماعية الإصلاحية للفتوى لم يعد تركيزهم على القطع في الإفتاء، فالمهم هو الإرشاد وتوجيه الناس إلى العمل، ودائرة الآداب هي أوسع من دائرة الفتوى وما أروع فقه الإمام مالك رحمه الله حيث يروى عنه أنه لم يكن يقطع بكلمة حرام وكان قصارى قوله في المسألة الممنوعة شرعاً: أكره هذا ، لا أحب هذا.

ولما كانت وظيفة الفتوى هي معالجة قضايا الناس الواقعية فقد كره العلماء التوسع في افتراض المسائل قبل وقوعها واعتبروه من التكلف المخالف لجوهر الإسلام، وأطلقوا على من يكثر من الأسئلة الافتراضية تسمية "الأرأيتيين" لأنهم يكثرون من قول "أرأيت لو كان كذا؟"، "أرأيت لو حدث كذا؟".   

وإذا استعرنا من المفكر الجزائري مالك بن نبي تصنيفاته في معالجة مشكلة الأفكار حول الأفكار الصادقة والأفكار الفعالة بمعنى أنه ليس كل فكرة صادقة هي فعالة بالضرورة، فإننا بنفس المنطق نقول إنه لا يكفي أن تكون الفتوى صحيحةً ولكن أن تكون فعالةً أي ذات أثر اجتماعي وحضاري يساهم في نهضة الأمة ويستفز طاقاتها للعمل والإنتاج.

والإنسان العاقل يكفيه أن يعرف أن عملاً ما متوافق مع المقاصد العليا للشريعة وأنه يساهم في إصلاح الحياة وإعمار الأرض فيسارع إليه دون جدل أو تردد وحتى دون البحث عن نصوص، لأن فعل الخير والعمل الصالح هو مجال واسع، وبينما يخصص القرآن في بعض المواضع ألواناً من الأعمال الصالحة فإنه في مواضع كثيرة يطلق ذكر العمل الصالح دون تخصيصه ليترك الباب واسعاً لمن أراد الاستزادة والانطلاق في كل اتجاه "ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات" "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون".

أما الجاهل فيكثر جدله ويقل عمله كحال بني إسرائيل في ذبح البقرة.

غياب هذا الفقه الواسع من حياتنا أنتج الفتوى الكارثية بإجازة إرضاع الكبير وهي الفتوى التي جلبت السخرية للمسلمين وجعلتهم فتنةً للذين كفروا، ومثل هذه المسألة ما كان ينبغي أن تناقش بالنصوص أصلاً، ولكن بخطورتها الاجتماعية، وهي ليست إلا عينةً ممثلةً لحالة من الجمود وغياب الفقه.

ما أحوجنا إلى فقه راشد في حياتنا…

والله أعلى وأعلم…