الثلاثاء، 31 يناير 2012

سوريا تعرينا

أحمد أبورتيمة

يقول الأمريكي إدوارد هوجلاند "أشعر بالخجل عندما أنظر إلى الماضي وأنا في السبعين من عمري، وأكتشف بأنني لم أتعرض للسجن ولو مرة واحدة في سبيل قضية ضمير".

ما أكثر قضايا الضمير التي تستحق أن نضحي من أجلها حتى نشعر بإنسانيتنا ونزكي أنفسنا من الدنس الذي علق بها ونحقق غاية وجودنا في هذه الحياة..إن مساندة المظلومين والمعذبين على وجه الأرض ضرورية من أجل أنفسنا حتى ننقذ أرواحنا قبل أن تكون من أجل نفع هؤلاء المظلومين والمعذبين..

كلما رأينا مشاهد الشبان الرائعين في سوريا الذين يستقبلون الموت بصدورهم العارية في سبيل الحرية والكرامة ونحن نتابعهم عبر شاشات الفضائيات وصفحات الانترنت بينما ننعم بالدفء ونتلذذ بالطعام والشراب في بيوتنا، وقد ألجمنا حتى عن مساندتهم بالكلمة فإن شعورنا بالعار يتضاعف، ونخشى أن نكون ممن "كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"..

يكاد عام ينقضي على ثورة الشعب السوري على واحد من أعتى أنظمة الاستبداد والفساد..ثورة قابلها النظام بكل ما أوتي من وسائل القتل والإجرام مما تعجز العقول عن تصوره..لكن هذا الشعب المؤمن الصابر الذي شهد له النبي محمد بالخير "الشام صفوة الله من بلاده يجتبي إليها صفوته من خلقه" ما كان له أن ينكص على أعقابه بعد أن عرف طعم الحرية التي حرم منها دهراً، وما كان له أن يرتد إلى الظلمات بعد أن لمح شعاع النور يأتي من الأفق. وضرب مثالاً سيخلده التاريخ للصبر والمصابرة والمرابطة..استثير مخزون الإيمان العميق في نفوس هذا الشعب الأبي فرأينا أبناءه يتدافعون نحو الموت باستبسال تعجز قوانين الفيزياء عن تفسيره، وارتقت الأرواح فلم تعد تأبه بالموت أو السجن في سبيل الحرية والانعتاق من أغلال العبودية..

تمضي الأيام وتنقضي الشهور وأصحاب الأخدود يراهنون على إرهاق الشعب بالقتل والإرهاب والنار ذات الوقود، لكن هؤلاء الصفوة المباركة قد عاهدوا الله ألا يروهم من أنفسهم ما يسرهم ويرضي فجورهم فيبدون جلداً عجيباً ويعضون على جراحهم حتى لا يرى هؤلاء الفجار منهم ضعفاً أو وهناً..يستمدون القوة من ذي القوة والجبروت بعد أن تخلى عنهم القريب والبعيد والشرق والغرب واستفرد بهم المجرمون تقتيلاً وتنكيلاً..

تكتسب المواجهة في سوريا أهميةً خاصةً تميزها عما سبقها من ثورات عربية فهي مواجهة تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة وستكون نتائجها استراتيجية تقلب وجه المعادلة..ذلك أنها ليست مواجهةً بين الشعب والنظام وحسب، بل إنها مواجهة يتشارك فيها النظام البعثي وحزب الشيطان والدولة الفارسية مهمة قتل شعب يعبر عن روح الأمة التواقة إلى التحرر من كل أشكال الاستعمار..ويساند النظام بشكل غير معلن دولة بني صهيون لتصبح المعادلة وياللعجب..النظام السوري وإيران وحزبها وإسرائيل في خندق واحد..

لكم الله يا أهلنا في سوريا..لقد تخلى عنكم القريب والبعيد واستفردت بكم قوى الظلم العالمية في ميادين المواجهة..إنكم تخوضون ولا شك مهمةً صعبةً..لكننا نبشركم أن الله لم يختركم لهذه المهمة إلا لأنه يعدكم لأمر عظيم ويريد أن يصطفيكم من عباده..لا تجزعوا ولا تهنوا ولا تحزنوا..إنها معركة قاسية ولا شك..وربما طال أمد جهادكم وعظمت تضحياتكم ولكن النصر في نهاية الطريق أكيد، والزمن يعمل لصالحكم وليس لصالحهم..وفي اللحظة التي تنتزعون فيها النصر وهي آتية لا ريب فإن وجه التاريخ سيتغير وستغرب شمس المشاريع الاستعمارية التي تستهدف أمتنا ويشرق شمس الشعوب الحرة بصدقها ونقائها وبراءتها..

صحيح أن الثمن الذي تدفعونه باهظ..ولكن السلعة غالية..فالسلعة ليست حرية الشعب السوري وحسب بل حرية كل الشعوب العربية، وغروب شمس مشاريع الهيمنة والاستعمار وانعتاق الأمة من ذل القرون، وقد شرفكم الله بأن اصطفاكم دون غيركم لهذه المهمة العظيمة لتكونوا أنتم من يحمل اللواء، وأنتم من يحترق في سبيل أن يحيا الآخرون..وأعظم به من شرف!!

إن الله يصير الأحداث وفق قانون خاص ليبتلي عباده فيميز الخبيث من الطيب، وليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب".. وثورة سوريا كان لا بد منها وفق القانون الإلهي لتبدد الوهم وتفضح العوار، وتكشف الزيف، ولتمحص الذين آمنوا..

لقد حققت ثورة سوريا أهدافاً عظيمةً حتى قبل أن يأتي فصلها الأخير.. ولو لم يكن لهذه الثورة سوى ما حققته حتى الآن لكفاها بذلك فضلاً..فهي قد أسقطت الأوهام التي كانت تعشش في عقولنا، وعرفتنا الصادقين من الكاذبين، وأخرجت ما كان خبيء الصدور إلى العلن حتى لا يظل الناس مخدوعين إلى الأبد، وليعرفوا عدوهم من صديقهم، ولتوقظهم الأحداث على الحقائق المزعجة التي كان لا بد من معرفتها "ليحق الحق ويبطل الباطل"..

إن ثورة أهلنا في سوريا هي إعلان لانتهاء حقبة المشاريع الاستعمارية بشقيها الفارسي والرومي وإيذان بميلاد عصر الشعوب واستعادتها لدورها الحضاري المتميز..فقد كانت إيران تعمل بهدوء وخبث على التمدد في بلادنا والعلو في الأرض، وكانت كل الأحداث تصب في صالح مشروعها الاستعماري يساعدها في ذلك غباء أمريكا حين استدرجت إلى أفغانستان والعراق، فكانت إيران أكبر الرابحين من هذا الغزو، ووصلت فتنة الشعوب العربية بإيران وحزبها إلى ذروتها في حرب ألفين وستة..ولم يكن هناك ما ينغص على هذا المشروع إلى أن جاءت ثورة الشعب السوري الأبي لتقلب المعادلة على الرءوس، ولتبين لنا أن التناقض بين إيران ونظام سوريا وحزب نصر الله من جهة وبين إسرائيل ليس تناقضاً رئيسياً، وأنه في لحظة ما يمكن لإسرائيل أن تدعم هذا الثلاثي ليكونوا عوناً لها في وجه الشعوب التي تمثل دون غيرها التناقض الجوهري مع مشروعها الاحتلالي في فلسطين..

مع عظم مصاب إخواننا في سوريا إلا أننا مطمئنون بأن العاقبة لهم، وأنه لا خوف على مستقبلهم، لكن الخوف الحقيقي هو على أنفسنا إذ تركناهم وحدهم يواجهون كل هذا القدر من الأعداء دون أن نساندهم حتى بكلمة..لقد تردينا في وحل السياسة حتى ركنا إلى الذين ظلموا فتكاد نار الفتنة أن تمسنا وتحبط ما كان لنا من فضل في سابق الأيام..وغفلنا عن أن هذه الأحداث هي ابتلاء ساقه الله ليمتحن إيماننا، بل إنها من أعظم أنواع الامتحان يهون دونه ابتلاء السجن والقتل..

فلنتفقد مواقعنا جيداً لنرى أين نقف..وهل نجحنا في هذا الابتلاء أم أن إيماننا لم يكن بالقوة التي يمنحنا فيها الشجاعة لننتصر على الحسابات المحدودة من أجل مبادئ الحق والعدل..

هنيئاً لكم ياأحرار سوريا على ما اصطفاكم الله من أجله..وويل لنا إن لم نتدارك أنفسنا قبل فوات الأوان..

أختم بهذه النصيحة القرآنية: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين"..

والله أعلم..

الاثنين، 23 يناير 2012

الدراما بحاجة إلى ثورة أيضاً

أحمد أبورتيمة

عجبت كيف يستطيع مسلسل تركي واحد أن يتسبب في خراب مئات البيوت، وكيف أن فناناً وفنانةً تافهين لا يملكان نصيباً من إيمان أو علم أو ثقافة يمتلكان هذه القدرة على التفريق بين المرء وزوجه، فينفر الزوج من زوجته لأنه لا يرى فيها أنوثة تلك الفنانة ونعومتها، وتنفر الزوجة من زوجها لأنها لا ترى منه دفء ذلك الفنان ووسامته، ليحمل هؤلاء الفنانون ومن شاركهم وعاونهم أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ..

حين يقدر لي أن أتابع لقطات من بعض المسلسلات المصرية أشعر بالتقزز من هذا الحال المتردي للدراما العربية والتي جعلت كل قصتنا هي العلاقات الغرامية والخيانات الزوجية، وكأنه لا يوجد في الحياة الإنسانية ما يستحق التناول سوى هذه القصص..وربما اعتذر القائمون على هذا الميدان بأن هذه المسلسلات محاكاة للواقع، وهي حجة غير مقبولة، وذلك لأن الواقع فيه الكثير من القصص الإيجابية أيضاً، كما أن دور الدراما غير مقتصر على تناول الواقع كما هو بل إن عليه أيضاً تقديم الحلول والعلاج لهذا الواقع..

الدراما خطيرة وأثرها عميق، وخطورتها تتضاعف في المجتمعات العربية لأنها مجتمعات غير قارئة، فالأثر الذي يتركه مسلسل أو فيلم في المجتمعات العربية يفوق ذلك الأثر الذي يمكن أن يصنعه ألف كتاب ، وأهمية العمل الدرامي تأتي من كونه يصاغ بأسلوب قصصي محبب للنفوس فيتسرب أثره في العقول والقلوب بسهولة وينفذ إلى الأعماق، كما أنه يخاطب الجانب اللا شعوري في الإنسان فيترك أثره في سلوكنا الاجتماعي حتى دون أن نشعر بأن هذا الأثر هو من ذلك العمل..

وهذا ما صنعه المسلسل التركي سيء الذكر فحين يشاهد المواطن البسيط مشاهد لحياة حالمة من الحب والحنان والرومانسية في مسلسل حبك بعناية لا يجدها في واقعه العملي ينشأ عنده صراع نفسي بين الأمنية والواقع، ويؤدي هذا الصراع في نهاية الأمر إلى نتائج اجتماعية وخيمة.

ما دام للدراما كل هذه القدرة على التأثير فإن الحل لا يكون برفضها لأنها قد فرضت نفسها على أرض الواقع، بل بتحويل اتجاهها بما يعزز القيم الإيجابية في حياة الناس، وما أكثر القيم التي نحن بحاجة إليها سواءً كانت قيماً حضاريةً مثل قيمة المبادرة، وتشجيع الإبداع، ونشر ثقافة القراءة والعلم، واحترام الوقت، أو قيماً اجتماعيةً مثل الأخوة والتكافل الاجتماعي والصداقة والوفاء، وفعل الخير، أو قيماً وطنيةً تعزز الحس الوطني والقومي والتاريخي في نفوس الناس، كما فعل مسلسل التغريبة الفلسطينية الرائع الذي أخرجه المخرج السوري حاتم علي والذي قدم للمشاهدين لوحةً فنيةً رائعةً فصل فيها مراحل النكبة الفلسطينية، أو كما فعل المخرج ذاته في مسلسله التاريخي صلاح الدين الأيوبي، أو كما فعل المخرج الراحل مصطفى العقاد في فلميه الرائعين عمر المختار والرسالة، وفي الفيلم الأخير الذي يتحدث عن قصة الإسلام وكيف انبعث من الصحراء برسالة تحرير البشرية، فإن الإنسان لا يملك إلا أن يذرف دموعه وهو يتابع هذه التحفة الفنية الرائعة..

نحن بحاجة إلى مخلصين غيورين على أمتهم وأوطانهم في ميدان الدراما لما فيه من تأثير قوي في حياة الناس..لا يعني هذا أننا نطالب ب "بديل إسلامي" للدراما الحالية، لأن الناس غير مستعدة لأن تترك أعمالاً فنيةً أنجزها خبراء متخصصون في كل التفاصيل بدءً من حبكة القصة، وانتهاءً بالمؤثرات والتفاصيل الفنية الصغيرة، وأن يتوجهوا لمشاهدة أعمال مبتدئة تقوم على التجربة والخطأ، ولكننا ندعو القائمين على مجال الدراما بأن يستشعروا المسئولية الاجتماعية وهم يؤدون دورهم، وأن يكونوا عوامل بناء لا عوامل هدم، كما ندعو أصحاب الكفاءة إلى دخول هذا الباب وترك بصمات إيجابية وفق مبدأ "ما لا يدرك كله لا يترك جله"، واعتماد مبدأ التدرج في تحويل اتجاه الدراما حتى تصبح عنصراً مساهماً في نهضة المجتمع وتوافقه مع قيمه الدينية والثقافية والاجتماعية..

لقد دخل الإسلاميون باب الإعلام في السنوات الأخيرة، لكنه مع الأسف دخول كمي وليس نوعياً، فلا يزال يغلب على ما يسمى الإعلام الإسلامي جانب الوعظ والحديث المباشر دون الاستفادة من فنون الإعلام، حتى صدق فيه وصف فهمي هويدي بأنه إعلام إذاعي وليس إعلاماً تلفزيونياً لأنه لا يستفيد من تقنيات الصورة وقدرتها التأثيرية، فلو أننا حجبنا الصورة من أحد البرامج الدينية التي تبثها الفضائيات وحولناه إلى برنامج إذاعي لما تضررت الفكرة، لأنه لا يستفيد من تقنية الصورة التي يتيحها التلفزيون سوى بعرض صورة الشيخ والمكتب الذي يجلس عليه..

الدراما بحاجة إلى فن مختلف فقدرتها التأثيرية لا تأتي من التنظير المباشر للفكرة كما تفعل البرامج الوعظية، بل تقوم بتضمين القصة الدرامية لجرعات خفية من القيم والمبادئ التي نريد غرسها في نفوس المشاهدين، وإرسال رسائل غير مباشرة هي أبلغ من الرسائل المباشرة، فتتسرب هذه القيم إلى نفوس الناس بشكل سلس، وتنغرس في أعماق وعيهم دون فجاجة وإقحام..

والله الهادي إلى سواء السبيل..

الأربعاء، 18 يناير 2012

تعزيز مشاركة النساء ضمانة للسلم العالمي

أحمد أبورتيمة

ضرب الله للناس في القرآن من كل مثل لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً..فنجد في القرآن مثال الحاكم العادل والحاكم الظالم، والمؤمن الغني والمؤمن الفقير، والعالم الرباني والعالم الشيطاني، والمرأة الصالحة والمرأة الخائنة، وهكذا...

ولأن أمثلة القرآن شاملة نجدها شملت فيما شملت مثال المرأة الحاكمة..

واللافت أن المثال الوحيد الذي ذكره القرآن الكريم للمرأة الحاكمة وهي ملكة سبأ هو مثال إيجابي تجسدت فيه حكمة المرأة وتوازنها وصواب قراراتها السياسية، في الوقت الذي تزخر فيه ثقافتنا بالنظرة السلبية للمرأة وبالدعوة لتحجيم دورها وإلزامها البيت..

في مقابل نموذج الحكم الذكوري الذي جسده فرعون في القرآن باستبداده وإفساده في الأرض نجد نموذج الحكم الأنثوي مجسداً في ملكة سبأ وما اتصفت به من شورى وميل للحلول الدبلوماسية والسياسية وتجنيب شعبها ويلات الحرب..

دعونا نتأمل نموذج الحكم الأنثوي الذي أورده القرآن ونستكشف ملامحه العامة..

فملكة سبأ أولاً جسدت الحكم الشوري ولم تستبد برأيها كما فعل فرعون الذي قال:"ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، بل تطلب الشورى من رجال دولتها: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ"..

وهي تسعى لتجنب الصدام المسلح وتخشى أن تجر دولتها إلى مآس نتيجة التهور "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً"، والقرآن يصدق مقولتها ويؤكدها "وكذلك يفعلون"..

وهي تتبع الوسائل الدبلوماسية والسياسية في العلاقات مع دول الجوار..فهي سعت إلى إبداء حسن نية تجاه مملكة سليمان، كما سعت إلى جس نبضه بطريقة سلمية: "وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ"..

ثم كان في نهاية المطاف أن دخلت مع سليمان في تحالف سياسي عزز علاقات السلام في المنطقة وجنب الشعوب ويلات الحرب "قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"..

في مقابل هذه الطبيعة الأنثوية المسالمة نجد الطبيعة الذكورية حاضرةً في نفس المشهد، ويجسدها رجال دولة سبأ بميلهم للحل العسكري "قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ".

واللافت أن هذه الفروق بين الطبيعتين الأنثوية المسالمة والذكورية العنيفة لا علاقة لها بإيمان أو كفر بل هي صفة جبلية في خلقة كل منهما "وما خلق الذكر والأنثى"..لذلك نجد أن سليمان عليه السلام مع كونه نبياً وقد اصطفاه الله من خلقه إلا أن طبيعته الذكورية كانت حاضرةً بقوة أولاً في علاقته مع الهدهد "لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ"..ثم في علاقته مع ملكة سبأ "أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ"، وبعد ذلك في توجيهه إنذاراً شديد اللهجة إليها رداً على هديتها: "ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ"..

ونحن لا نناقش في سعي سليمان عليه السلام لنشر دين التوحيد، ولكننا نناقش في طبيعته الميالة للحلول العسكرية..

ما كان في نهاية المطاف أن ملكة سبأ نجحت بحكمتها وسلاميتها في تجنب الحرب ودخلت مع سليمان في تحالف استراتيجي "وأسلمت مع سليمان"..فهو تحالف بين أطراف متكافئة وليس بين طرف قوي وآخر مستضعف لذلك قالت"أسلمت مع سليمان"، ولم تقل أسلمت لسليمان..

نستفيد من هذا المشهد القرآني أنه بينما نجح سليمان بسواعد الرجال في تشييد حضارة رائعة وإقامة العمران الذي كان سبباً في إسلام ملكة سبأ "فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير"..نجحت ملكة سبأ بطبيعتها الأنثوية في نشر السلام على ربوع هذه الحضارة مما ساعد في إبقائها، وجنبها ويلات الحروب، وهنا تتضح جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة، فالرجل بقوة ساعده وشجاعته هو الذي يغامر ويبني ويبدع، والمرأة بطبيعتها الهادئة هي التي تفيض بالرحمة والسلام وتضفي مسحةً من الإنسانية على الحضارة البشرية..

ربما يرد أنصار تحجيم المرأة على هذا المثال القرآني بأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وهي شبهة ضعيفة لأن طبيعة الأنثى ثابتة لا تتغير بتغير العصور..

في دراسة تحليلية أجريت في إحدى الدول الاسكندنافية على الخطابات السياسية لأعضاء وعضوات البرلمان تبين أن أكثر الكلمات تكراراً في الخطابات الذكورية هي (الأمن القومي-العلاقات الخارجية-التسلح)، وأن الضمير المستعمل (أنا)، بينما تبين أن أكثر الكلمات تكراراً في الخطاب السياسي للنساء هو (الصحة-الأطفال-التعليم)، وأن الضمير المستعمل بكثرة (نحن)..وهذه الدراسة تعطينا مؤشراً على أن لكل من الرجل والمرأة خصائصهما النفسية التي تميزهما عبر التاريخ، وأنه لا غنى عن دور كل منهما، فلا بد من علاقة تكاملية بين الرجل والمرأة في إطار ناظم أخلاقي فينظر للمرأة بأنها إنسان لديه ما يمنحه لمسيرة التقدم البشري، وليس أنها مجرد أداة للاستمتاع الجنسي..

المرأة بما تمتلكه من مشاعر إنسانية وطبيعة هادئة وميل للسلام والوفاق مؤهلة للقيام بدور رائد في تعزيز السلام في العالم، وتقليص خيار الحرب، فكلما زادت نسبة مشاركة المرأة في الحياة السياسية، وكان لها دور أكبر في اتخاذ القرار كلما كان ذلك ضامناً لنزع فتيل التوترات والحروب، وتعزيز الاعتماد على الوسائل السلمية في العلاقات بين الشعوب..

وكما كانت المرأة في الأزمنة السحيقة هي صاحبة الدور الأساسي في منح البشرية الاستقرار والحضارة باكتشافها الزراعة، فإنها لا تزال قادرةً في هذا الزمان على المساهمة بدور رئيس في إيجاد عالم مسالم خال من الحروب..

في ضوء هذا الفهم لطبيعة المرأة يمكن أن نفهم ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"، فالنساء هن اللاتي يجسدن معاني الحب والرحمة والإنسانية، وهذا ما يحبه نبي الرحمة بالتأكيد..

بقي أن نشير أننا لا نقصد بهذا التفريق بين طبيعتي الرجل والمرأة أن النساء كلهن على شاكلة واحدة، ولكننا نتحدث وفق مبدأ التغليب، فما يغلب على المرأة هو سلاميتها، وما يغلب على الرجل هو ميله للعنف، وإلا فإن التاريخ والواقع يذكران لنا أمثلةً لنساء بلغن حداً من الإجرام لم يبلغه الرجال مثل جولدا مائير وتسيبي ليفني، وفي الطرف المقابل فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصفه القرآن بأنه رحمة للعالمين، وبأنه عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم كان يفيض حباً ورحمةً وسلاماً ما يفوق رحمة الأم بولدها حتى أنه كان يبكي الليل طويلاً وهو يتضرع لربه ألا يعذب أمته "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"..

والله أعلم..

المصدر إيلاف مع إضافة بعض التعديلات