كيف تكون سعيداً؟
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
كل الناس يبحثون عن السعادة،مسلمين كانوا أم غير ذلك،وكل فعل يقوم به إنسان تكون غايته إما جلب لذة أو دفع ألم،رغم ذلك فإن أكثر الناس يقضون غالبية أعمارهم في شقاوة وتعاسة وهموم وأحزان،وهذه حقيقة ملموسة في واقع البشرية المعاصر،فالحضارة التي وفرت للإنسان كل سبل الرفاهية المادية وذللت أمامه العوائق لم تنجح في توفير السكينة والطمأنينة وهدوء البال له ومن المفارقة أن الدول التي بها أعلى مستوى رفاهية للفرد وهي الدول الاسكندنافية هي ذاتها الدول التي تسجل أعلى نسبة انتحار وهذا من أعظم الآيات الدالة على أن السعادة هي شيء آخر غير الأموال والمتع الحسية، والقرآن يفيدنا بأن الأموال والأولاد قد تتحول إلى مصدر عذاب بدل أن تكون مصدر سعادة :’فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا’.
إن أكثر الناس يخطئون طريق السعادة حين يظنون أنها تدرك بإشباع الحاجات المادية لأجسادهم،فيلهثون وراء جمع الأموال،والأولاد،ويستكثرون من ألوان المتع الحسية،بينما يغفلون غذاء الروح،وهم بذلك يعتنون بالغلاف الطيني الخارجي لأنفسهم،ويهملون جوهرها وكينونتها ،فتبقى وحشة الأرواح والقلوب،لأنهم لم يلبوا متطلباتها واحتياجاتها ‘نسوا الله فأنساهم أنفسهم’،ومن نسيانهم لأنفسهم أن ينسوا أعظم ما فيها وهو الروح فلا يدركوا السبيل إلى راحتها وطمأنينتها،مثلهم في ذلك تماماً كمثل من يتجاهل حقيقة المرض ويتعامل مع العرض فيبقى المرض وإن خفت الأعراض قليلاً ،والمتع الحسية تمنح الإنسان شعوراً باللذة لبعض الوقت لكنه شعور سرعان ما يزول ليحل محله الأرق والقلق والضنك ووحشة القلب والصراع النفسي.
السعادة هي شعور قلبي ينبع من داخل الإنسان،ويأتي حين يتصالح الإنسان مع أعماق فطرته،فيشعر بالرضا لانسجامه مع الناموس الكوني ويطمئن قلبه باتصاله بالمدبر الأعلى لهذا الكون:’ألا بذكر الله تطمئن القلوب’،فالسعادة هي التوافق الداخلي مع نداء الفطرة،أو بتعبير آخر هي معرفة الله.
لذا لا غرابة أن تجد إنساناً بسيطاً لا يكاد يجد قوت يومه ولكن إذا نظرت إليه تعرف في وجهه راحة البال وطمأنينة القلب وانشراح الصدر،ينام آمناً في سربه ليس لديه ما يخشى عليه،أو يشغل باله بالأرق والقلق،وما ذلك إلا لإيمانه بالله وحسن علاقته به فهو واثق بأن هناك من يرعاه ويدبر شئونه،فيكل أمره إليه ويطمئن قلبه بذكره،فلا يحزن على ما فات ولا يخاف مما هو آت،’فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون’ ،وهنا نفهم قول أحد السلف:’لو يعلم الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف’،كما نفهم سر الشعور العجيب الذي عبر عنه بلال بن رباح حين سئل عن تحمله للعذاب فقال:’مزجت مرارة العذاب بحلاوة الإيمان فطغت حلاوة الإيمان’،
وحين يعرض الإنسان عن نداء الهداية المنبعث من أعماقه فإنه يشعر بوحشة القلب وحرج الصدر ويقع فريسة للهموم والأحزان كلما أرادوا أن يخرجوا منها من هم أعيدوا فيها وذلك لأنه يصطدم مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها ومع الناموس الكوني،فلا ينفعه أن يملك الدنيا بما حوت ما دام يفتقد للسكينة الداخلية،،’ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً’
ويستطيع كل إنسان منا أن يقوم بتجربة عملية بأن يؤدي الفجر في جماعة ويقارن يومه بيوم آخر لم يصل فيه الفجر جماعة،بالتأكيد سيلمس الفرق الكبير بين اليومين،يوم فيه الراحة والطمأنينة وهدوء البال،ويوم فيه الضيق والهم وتعكر المزاج.
إذاً هو قانون حتمي لا يخضع للصدفة أو الانتقائية وهو في دقة قوانين الفيزياء والرياضيات: اتباع الهدي السماوي تنتج عنه السعادة،والإعراض عنه يجلب الشقاء ومعيشة الضنك، وحتى حين يشعر المؤمن بالضيق والهم فهذا ليس خروجاً عن القانون وإنما تأكيد له وفي إطاره،فحين يغفل عن ذكر ربه وتلهيه الدنيا يلقي الله في قلبه وحشة لتكون منبهاً له بأن يعود إلى ربه.
هذه المعاني التي آمنا بها غيباً لأن القرآن أخبرنا بها،يتجه الغرب اليوم للإيمان بها بالتجربة والخطأ فحسب ما نشر في مجلة “العلوم أو سينس”خلص فريق من الباحثين الكنديين في جامعة بريتيش كولومبيا بعد أن أجروا دراسات على مئات الأشخاص بأن الأفراد الذين ينفقون أموالهم على الآخرين أكثر سعادة من أولئك الذين ينفقونها على أنفسهم،وهو ما يطابق مفاهيم الصدقة والزكاة في ديننا، وهذه تجربة أخرى يستطيع كل منا القيام بها بإنفاق جزء من ماله،ويفضل أن يكون بالسر اتقاءً لحظوظ النفس، ليجد بعد ذلك مدى الطمأنينة والرضا الذي يملاً قلبه.
إن هذه النظرة إلى مفهوم السعادة ستغير كثيراً في حياتنا ، فمن يؤمن بأن السعادة لا تدرك بجمع الأموال وبالركض خلف الدنيا لن يشحن قلبه بالغل والحسد والبغضاء والضغائن والمنافسة على الدنيا،وإنما سينافس في العمل الصالح،وسيسارع في فعل الخيرات،فيأتي الشعور بالسلام والطمأنينة وصفاء النفوس على مستوى الأفراد والمجتمعات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق