في ظلال سورة الفتح
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
يحلم كثير من الطيبين بأن يأتي يوم تنقلب فيه موازين القوى الدولية لصالح المسلمين، وأن يسير المسلمون جيوشهم وعتادهم لفتح البلاد وتحرير العباد.
فكرة تسيير الجيوش تحديداً لفتح البلاد هي نظرة نمطية عند كثير من المسلمين، وهي مستمدة من التراث التاريخي وما احتواه من فتوحات وغزوات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما تلاه من أزمنة، وهذه النظرة تدل في جانب منها على روح خيرية وإيجابية وحرص على تبليغ الدين بما فيه من عدل ورحمة وأخلاق للناس كافة .
إلا أن مشكلة هذه النظرة أنها جامدة متوقفة في الماضي فهي تنظر بعين واحدة، هي عين التراث دون أن تلتفت إلى التغيرات الهائلة التي طرأت على العالم، فالزمان غير ذلك الزمان.وما كان صالحاً في ظروف تاريخية معينة ليس بالضرورة أن يظل صالحاً في مختلف الأحوال.
وتصور المسلمين تجاه فتح بلاد غير المسلمين بهدف نشر الإسلام فيها لا ينبع من معاني النصوص وحدها، لكنه نتيجة خلط بين القراءة الموضوعية للنصوص وبين التجربة التاريخية البشرية.
وإذا أردنا أن نحرر النصوص من الإسقاطات البشرية، ونظرنا إليها نظرةً مجردةً سنجد مفهوماً أوسع لكلمة الفتح في القرآن الكريم تحررها من النظرة التقليدية المحدودة
ففي سورة الفتح أحبِّ سورة إلى قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم "إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً"، وقد فسر هذا الفتح المبين بأنه صلح الحديبية وليس فتح مكة كما يظن كثيرون، رغم أنه لم يكن هناك قتال ولا معارك، والصحابة بحكم البيئة الاجتماعية والثقافية التي نشأوا فيها لم يكونوا قادرين على تصور فتح بدون قتال مما دفع أحدهم إلى أن يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي رسول الله أو فتح هو؟، فقال عليه الصلاة والسلام: "إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح "، ومن اللافت في التعبير القرآني أنه بينما وصف صلح الحديبية بالفتح المبين، فإن فتح مكة العسكري وصف بالفتح وحسب "إذا جاء نصر الله والفتح"،هذا رغم أن ظاهر صلح الحديبية كان مجحفاً بحق المسلمين مما دفع صحابياً بقدر عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بادئ الأمر إلى الغضب والاعتراض بقوله لِم نعط الدنية في ديننا.
لكن الأمور بعواقبها وما كان يشق على المسلمين تقبله في البداية تبينت حكمته بعد ذلك، فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً وأسلم في السنتين اللتين أعقبتا صلح الحديبية مثل عدد من أسلموا خلال العشرين سنة السابقة أو أكثر، وذلك أنه لما توقف القتال, وأمن الناس بعضهم بعضا , والتقوا , وتحاوروا, لم يكلم أحد في الإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه.. فقد كان فتحاً دعوياً واستراتيجياً.
إن القتال ليس هدفاً لذاته، ولكنه حالة اضطرارية يُلجأ إليها حين تعدم الوسائل الأخرى لإحقاق الحق ونشر العدالة، فالقرآن يقول: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، لذلك نجد أن الله عز وجل قد امتن على الصحابة في سورة الفتح بتوقف القتال: "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم"، ويفهم المرء بسهولة وجه المنة في كف أيدي قريش على المؤمنين، لكن ما هو وجه المنة على المؤمنين في كف أيديهم عن قريش، والجواب هو أن المؤمنين ليسوا هواة قتال وإراقة دماء وحين يلجئهم الاضطرار إلى ذلك فهم له كارهون، فإذا توقفت هذه الحالة الاضطرارية فهي نعمة يمن الله بها عليهم حتى وإن كانوا هم الغالبون.
إن الظروف الاجتماعية والثقافية التي كانت سائدةً زمن البعثة وما بعدها كانت الدافع الرئيس وراء الطبيعة العسكرية لبعض الفتوحات الإسلامية، حيث كانت الناس على دين ملوكهم وكانوا يمنعونهم من حرية الاختيار، ولم يكن الهدف من استعمال القوة في تلك الفتوحات إجبار الناس على الدخول في الإسلام كما يزعم البعض، فالقرآن ينص بصريح العبارة بأنه "لا إكراه في الدين" ، ويحصر القرآن مهمة النبي في التبليغ دون وصاية على أحد "لست عليهم بمسيطر"، "وما أنت عليهم بجبار" ، "وما أنت عليهم بوكيل"، "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" ، وحين استعملت القوة فقد كانت تهدف إلى الإطاحة بأنظمة استبدادية تحول بين شعوبها وبين حرية الاختيار، فإذا سقطت تلك الأنظمة ترك الناس أحراراً في عقائدهم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وهذا الذي يفسر لنا تولي يهود لوزارات مهمة في الدولة الإسلامية، كما يفسر لنا محافظة النصارى على دينهم حتى اليوم في بلاد المسلمين، فلو كان هناك اضطهاد ديني لما كان هناك على سبيل المثال حوالي عشرة ملايين قبطي في مصر في يومنا هذا،على خلاف محاكم التفتيش في الأندلس التي أبادت كل من اشتم منه رائحة الإسلام.
لكن الظروف تغيرت اليوم، فنحن في زمن ينحسر فيه خيار القوة العسكرية، بينما يعلو صوت الفكر ونداء العقل والحوار، وتولى الحكم في بلاد الغرب أنظمة ديمقراطية تكفل لشعوبها حرية العقيدة، وانهدمت الحواجز التي كانت تحول بين الشعوب وبين حرية التفكير، وصار بالإمكان التواصل مع الناس في أي مكان من العالم عبر الانترنت والفضائيات العابرة للقارات، وتحطمت الحدود رغم أنوف الحكام.
هذه القفزة النوعية في نمط الحياة البشرية ألغت الحاجة إلى الوسائل التقليدية القديمة لنشر الإسلام، فلم تعد هناك حاجة لتسيير جيوش من الدعاة لتبليغ الرسالة، وصار بالإمكان تبليغ الإسلام للملايين من غرفة صغيرة يدار منها موقع الكتروني أو مبنى متواضع تبث منه قناة فضائية تخاطب القوم بلسانهم لتبين لهم.
وبعد أن كانت المواجهة بين الدول تدار بالدبابات والطائرات إلى وقت قريب فقد صارت لغة التخاطب خاصةً بين الدول الكبرى هي الدبلوماسية والسياسة والإعلام والاقتصاد والتفوق العلمي.
ولم يعد التفوق العسكري هو العامل الحاسم في تقدم الدول فقد انهار الاتحاد السوفييتي وهو يملك أسلحةً نووية وكيماويةً تكفي لتدمير الكرة الأرضية خمس مرات، بينما صعدت اليابان بدون جيش، وفي هذا آية بينة بأن العالم بدأ ينتقل من عالم الأشياء إلى عالم الأفكار بحسب تقسيمات المفكر الجزائري مالك بن نبي، فمن يملك الأفكار الصحيحة تكون العاقبة له.
هذا الواقع الجديد يمثل فرصةً ذهبية للمسلمين يجب أن يحسنوا استثماره، فضجيج الحروب وقعقعة السلاح هي التي تمنع الناس من التفكير الهادئ العقلاني، وحين تضع الحرب أوزارها يحكم الناس عقولهم ويسهل عليهم التمييز بين الحق والباطل، والمسلمون يجب ألا يظلوا مرتهنين لنماذج تاريخية استنفدت فعاليتها وتجاوزها البشر، بل يدخلوا أبواب العصر ويعيشوا زمانهم وهذا هو مقتضى وظيفة الشهادة التي أوكلها الله إليهم "لتكونوا شهداء على الناس".
إن فتح العالم في هذا الزمان لن يكون بالدبابات والطائرات ولا باجتياح أمريكا و أوروبا، ولكن بامتلاك أدوات القوة سياسياً واقتصادياً وعلمياً والاستفادة من الفضائيات والانترنت لإطلاق خطاب واع للأمم الأخرى، وإنشاء مراكز ثقافية متواضعة لا تذعر الغرب علينا كما في المآذن تستفيد من أجواء الحرية في الغرب وتتواصل مع الشعوب وتحاورهم بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولعل في الحديث الشريف الذي يبشر بفتح روما بدون قتال أو سلاح ولكن بكلمة التكبير وحدها إشارة رمزية إلى قوة الكلمة والفكر وتفوقها على قوة السلاح، وهذا ما بدأت البشرية تدركه في هذا الزمان..
"ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين"..
والله أعلى وأعلم…
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق