ليسوا سواءً
أحمد أبو رتيمة
abu-rtema@hotmail.com
أرسلت إلي إحدى الأخوات تعلق على خبر صدور قرار قضائي في بريطانيا بإلقاء القبض على مجرمة الحرب الصهيونية تسيبي ليفني،فقالت إن الأمر لا يزيد عن كونه مسرحية قذرة من أعداء الإسلام،وأنها خدعة ومؤامرة وأن التاريخ يعيد نفسه ،ونفت الأخت الفاضلة أن تكون هناك أي عدالة في بلاد الغرب وختمت رسالتها بالتعبير عن خشيتها بأن تكون هناك مصيبة جديدة للمسلمين والعالم الإسلامي وراء هذا القرار القضائي.
دفعني هذا التعليق للرجوع إلى المنتديات الحوارية عبر الانترنت لمعرفة إن كان هذا الرأي مجرد حالة فردية،أم أن له أنصاره بين الجماهير العربية،وكانت المفاجأة بالنسبة لي أن كثيرين يرون نفس الرأي وينظرون لكل ما يصدر من الغرب بمناظير سوداء قاتمة..
أقدر الظروف النفسية التي تعيشها الشعوب العربية والتي أفقدتهم الثقة في كل ما يأتي من الغرب،وجعلتهم يتشاءمون منه،فتاريخهم في التعامل معنا هو الاستعمار ونهب خيرات بلادنا وإقامة كيان الاغتصاب على أرضنا ودعم بقائه بكل سبيل،وأوافق بدون تحفظ على الرأي القائل بأن الحكومات الرسمية الغربية تساند كيان الاحتلال في المعركة القضائية التي تواجهه في بلادهم ،وليس مستبعداً على الإطلاق أن يهيئ المسئولون البريطانيون طائرة خاصة لهروب ليفني من وجه العدالة.
لكن ما أريد أن أقرره في هذا المقام هو أن الغرب ليس هو المستوى الرسمي وحده،وأنه ليس من العدل أن نعمم نظرتنا السلبية تجاه الحكومات الغربية لتشمل كل ما هو غربي،وأن تدفعنا عاطفة الكراهية لتلك الحكومات لنفي أي إيجابية في الغرب وللنظر إليه نظرةً سوداء مطلقة،والقرآن يعلمنا الإنصاف في الحكم حتى مع من نبغضهم ‘ولا يجرمنكم شنآن قوم ألا تعدلوا’،ويعلمنا ألا نضع الأقوام والأمم في سلة واحدة والمنهج القرآني هو البعد عن التعميم، فالتعميم هو مجافاة للحق وللعدل،لذا فإن القرآن يلجأ دائماً إلى أسلوب التبعيض،فهو لا يصف الأقوام والأمم بأنهم جميعاً فاسقون أو كافرون أو ظالمون،بل نجد في القرآن تعابير مثل: ودت طائفة’،’وإن فريقاً منهم’،وفي أقصى حالة نجد تعبير:’ود كثير من أهل الكتاب’،’وما كان أكثرهم مؤمنين’،وتعبير ‘أكثر’ وإن كان يقرر السمة الغالبة إلا أنه يعني تحرراً من النظرة الأحادية فهناك في هذه الأمم لون آخر مهما كان عدد أنصاره قليلاً.
وحين يحكم القرآن على الأقوام والأمم لا يسقط ذكر إيجابياتهم مهما قلت،بل إنه يقدم ذكرها على ذكر السلبيات وإن طغت ،فمثلاً نجد في القرآن قوله تعالى: «منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون»،’ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك،ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً’.
ويلخص القرآن الكريم هذا المنهج الرائع في كلمتين قصيرتين فيقول:’ليسوا سواءً’،فليس من العدالة أن يطلق وصف عام على شعب أو قوم أو حضارة أو حتى أتباع دين،ولكن منهم ومنهم.
وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه كان يعمل على تعزيز الإيجابيات وتقليل السلبيات،ولعل خير من وصفه في ذلك من أصحابه هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث يقول:’كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحسن الحسن ويقويه ،ويقبح القبيح ويوهيه’. وكان عليه الصلاة والسلام يقر للجاهلية رغم جاهليتها بإيجابياتها،ويتضح ذلك في ثنائه على حلف الفضول الذي أقامه الجاهليون،وقال’لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت’.
ونحن في تعاملنا المعاصر مع الآخر غير المسلم فإننا مطالبون بإتباع هذا الهدي القرآني والنبوي،ورفع شعار ‘ليسوا سواءً’،فالغرب ليس كله متآمراً وعدواً ومخادعاً،وليس من العدل أن يجرمنا شنآن حكوماتهم أن ننكر ما عندهم من إيجابيات ليست عندنا،مثل استقلال القضاء ،وعدم استفراد الحاكم،والحريات السياسية التي لا يجدها المواطن العربي في بلاده بينما يجدها في الغرب حين يهاجر إليه.
كما أن نظرتنا لتلك الحكومات لا ينبغي أن تعمم على شعوبهم ومؤسساتهم،حتى وإن كانت هناك موجة من الكراهية للمسلمين من قبل تلك الشعوب،فإن علينا أن نلوم أنفسنا قبل أن نلومهم،لأننا قصرنا في التواصل معهم وتعريفهم بديننا وحقوقنا،وتركناهم ضحايا لتضليل الحكومات والإعلام المتصهين،والإنسان بطبعه عدو ما يجهل،وكونهم يجهلون حقيقتنا ،فإن من المتوقع أن يناصبونا العداء،وليس بالضرورة أن يكون هذا العداء نابعاً من سوء نية.
وإن كانت الحكومات الغربية تحاول أن تلتف على القانون وتحمي مجرمي الحرب الصهاينة بما يطيقونه من حيل سياسية،فإن هناك سقفاً لا يستطيعون تجاوزه في التعامل مع سلطة القضاء في بلادهم.
لست متأكداً من انتصار العدالة وإحقاق الحق في أوروبا ،ولست مسرفاً في الأحلام لأتخيل مجرمي الحرب الصهاينة مكبلين في الأغلال أمام المحاكم الدولية،ولكن المهم هو أن نقوم موازيننا ونحتكم إلى منهج الحق في رؤيتنا للعالم من حولنا،ومقتضى العقل والحكمة هو أن نلتقط هذا المزاج المعادي للاحتلال ونعمل على تقويته،وأن ننظر للحراك الذي يشهده العالم ضد الصهاينة بعد حربهم على غزة نظرةً إيجابية متحررة من عقدة المؤامرة،ليس لنمني أنفسنا بالأوهام ثم نستأنف نومنا وسباتنا،ولكن لنعزز هذا الحراك في الاتجاه الذي يخدم حقوقنا ونساهم في زيادة العزلة على كيان الاحتلال أخلاقياً وإعلامياً وقضائياً واقتصادياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق