قانون الجذب النفسي
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
(نحن لا نرى الأشياء كما هي..نراها كما نحن..) سقراط
لو أن خمسة أشخاص كانوا يسيرون في شارع واحد ( مهندس، مندوب مبيعات، مصلح اجتماعي، سائق، شاب طائش) فإن كل واحد منهم سينظر إلى الشارع نظرةً مختلفةً عن الآخرين..مهندس الطرقات سينظر إلى تصميم الشارع وطوله وعرضه، والمادة المستخدمة في رصفه، ونسبة ميله وغير ذلك من أمور اختصاصه، بينما مندوب المبيعات سيلتفت يميناً وشمالاً ليبحث عن المحلات التي يمكن أن يتعاقد معها ويبيع إليها بضاعته، أما المصلح الاجتماعي فسيلفت نظره أثناء سيره ظاهرة الأطفال الباعة الذين حرموا من طفولتهم، أو ظاهرة المتسولين الذين تزدحم بهم الطريق، والسائق سيرى كل من حوله ركاباً ينتظرون سيارةً تقلهم، أما الشاب الطائش فلن يلفت نظره في طول الشارع وعرضه سوى الفتيات الغاديات والرائحات..
إن كل واحد منا يرى الأشياء من حوله وفق تصوراته الذهنية الخاصة به، فلا توجد نظرة واحدة يتفق الجميع عليها، بل زوايا متعددة بتعدد أفكارنا وتصوراتنا وخرائطنا الذهنية.. فإذا وضع أحدنا في قلبه فكرةً وركز على هدف محدد فإن العقل يجذب إليه كل الأفكار المتشابهة بينما يحذف الأفكار الأخرى..
كل شخص في هذه الحياة يرى الدنيا من منظوره الخاص الذي صنعه لنفسه فيكبر ما يتناسب مع أفكاره ويهمش أو يحذف ما لا يتناسب مع هذه الأفكار، والموضوعية التي ندعيها كثيراً ما تكون خرافةً، فحتى لو اعتقد الإنسان أنه موضوعي فلا بد أن تحتوي نظرته على جانب كبير من الذاتية..
في القرآن الكريم نقرأ قول الله عز وجل "يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به"، والتحريف قبل أن يكون تحريفاً مادياً فهو تحريف نفسي، أي أن ينظر الإنسان إلى التوجيهات الإلهية العليا وفق إسقاطاته النفسية وليس وفق مراد هذه الآيات، وهذا النوع من التحريف ليس خاصاً بالذين من قبلنا بل إنه نالنا نحن أمة القرآن نصيب منه، فهنا يمارس من يتلو كتاب الله وعياً انتقائياً فيجذب إليه ما يتناسب مع رؤاه المسبقة، ويحذف ما لا يتناسب معها، وهنا نفهم تتمة الآية "ونسوا حظاً مما ذكروا به".
وما يحدث أثناء تلاوتنا لكتاب الله يحدث في قراءة أي كتاب بشكل عام فحين يطالع أحدنا كتاباً فإنه لا يفهم كل سطور الكتاب بنفس الدرجة، بل يفهمه بشكل انتقائي فما كان من أفكار هذا الكتاب متناسباً مع أفكار سابقة فإنه ينجذب إليها، أما الأفكار الجديدة التي لا تستند لأساس سابق في ذهنه فإنه يميل إلى إسقاطها بطريقة لا شعورية وربما لا يتنبه لوجودها أصلاً، وهنا نفهم السر العميق في قوله تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"..فهو يرى أشياء بعينيه ولكنه يسقطها من ذهنه بطريقة لا شعورية فهو كأنه لم يرها أصلاً لأنه لم يستفد من رؤيتها..
إننا نمارس خداعاً للذات، فبدل أن نبحث عن جديد الأفكار ونستفيد منها فإننا نميل إلى ترسيخ الأفكار القديمة في عقولنا، وحين نقيم الكتب التي قرأناها فإننا نعبر عن أنفسنا أكثر من تعبيرنا عن القيمة الموضوعية للكتاب نفسه، وفي تقييمنا للأشخاص فإننا نصف أنفسنا أكثر من وصفنا للآخرين، فمن كان قلبه أسوداً كانت نظرته للناس سوداوية، ومن أكثر من إحسان الظن بالآخرين دل ذلك على طيبته وحسن معدنه قبل أن يدل على طيبة الآخرين..
قانون الجذب له مفعول عجيب في حياة البشر فهو الذي يرسم حياتهم سواءً كانت سلبيةً أم إيجابيةً، ومن هنا وجب مراقبة الإنسان لأفكاره وخواطره لأنها تنمو وتتعاظم وتجذب إليها مثيلاتها من الأفكار والخواطر حتى تغدو بناءً راسخاً يصعب تغييره، وكما قيل فإن الحسنة تجذب الحسنة، والسيئة تجذب السيئة، وابن القيم رحمه الله تعالى قال: "طارد الخاطرة قبل أن تتحول إلى فكرة وادفع الفكرة قبل أن تتحول إلى إرادة وادفع الإرادة قبل أن تتحول إلى عمل"، لذلك فإن الإسلام بدأ في تهذيب الإنسان من الخاطرة الدقيقة فحرم النظرة وجعلها سهماً من سهام إبليس حتى لا تلوث قلب الإنسان فيبقى صافياً.. وحياة الإنسان ليست سوى نسيج أفكاره، فالعظماء الذين غيروا وجه التاريخ إنما تحولوا إلى عظماء حين ملئوا قلوبهم بالأفكار العظيمة وبالتأسي بالعظماء من قبلهم، أي أنهم وضعوا فكرةً إيجابيةً في عقولهم، وهذه الفكرة قامت بجذب الأفكار العظيمة التي تشبهها حتى تحولوا إلى طاقة فاعلة من الإيجابية والعظمة..
ونفس الشيء في الجانب الآخر فإن ما يصنع المجرم هو امتلاء عقله بالتصورات والخيالات الذهنية الفاسدة فتنتج هذه الخيالات والأفكار سلوكه الإجرامي لأنه لا يرى في الدنيا من حوله سوى الجريمة والفساد فيندفع لمحاكاة أسلوب المجرمين ظاناً أنه على صراط مستقيم "ويحسبون أنهم مهتدون"، ولعل المثال فاقع الدلالة من حولنا هو مثال القذافي الذي لم ير في كل التاريخ البشري من أمثلة تستحق التأسي سوى أمثلة ستالين، والصين الشيوعية وحرب أمريكا في الفلوجة وحرب الصهاينة على غزة، فالقذافي طالع التاريخ، كما طالعه غيره، لكنه لم يستوقفه خلال مطالعاته سوى أمثلة السوء التي ذكرها في خطابه الشهير (زنقة زنقة)، بينما رأى غيره ممن طالع التاريخ أمثلة العظماء والمصلحين، وبذلك تحول القذافي إلى كتلة من الإجرام بفعل قانون الجذب النفسي الذي جذب إليه كل من هم على شاكلته وأسقط من وعيه الأمثلة الناصعة المضيئة من حوله فضل سعيه في الحياة الدنيا..
تأثر الإنسان بالأفكار والأشخاص يكون بطريقة لا شعورية لذا وجب الحرص على أن يحيط الإنسان نفسه بالكتب الإيجابية والأشخاص الإيجابيين وأن يبتعد عن السلبيين مخافة أن تتسلل الخواطر والأفكار السلبية إلى قلبه، ولا يقولن أحد إنني أؤثر ولا أتأثر فالإنسان يتأثر بطريقة لا شعورية والمداومة على القراءة لشخص واحد أو مجالسته تترك تأثيرها اللاواعي، والدعايات التلفزيونية تقوم على فكرة مخاطبة اللاشعور في الإنسان وليس جانبه العقلاني، فأصحاب هذه الدعايات يعرفون أن الناس ليسوا سذجاً حتى يصدقوا دعايات خيالية مثل قفز إنسان من عمارة شاهقة أو أن مشروباً يمنح الإنسان طاقةً خرافيةً، ولكنهم يراهنون على التأثير على اللاشعور لأن تكرار عرض المشهد يطبع صورةً ذهنيةً في عقل الإنسان تترك أثراً على سلوكه بطريقة لا شعورية، ومن هنا فإن تكرار القراءة للون فكري واحد يصيب الإنسان بنظرة أحادية، ومن أراد أن يقترب من الموضوعية فإن عليه أن يعود نفسه أن يقرأ لألوان فكرية متعددة حتى يظل قادراً على البقاء في حالة التوازن ..
ولسبب التأثير اللاواعي فإنني أمسكت ذات مرة بكتاب من تأليف ألبرت آينشتاين وأخذت أقرأ فيه مع أنني كنت أجد صعوبةً في استيعاب كل الأفكار الواردة فيه، ولكن هدفي من القراءة لم يكن فهم كل التفاصيل العلمية الواردة فيه بقدر ما كان محاولة التأثر بطريقة تفكير هذا العبقري ونظره للأمور، فالقراءة لعالم عبقري حتى وإن لم تؤدي إلى فهم كل ما كتبه إلا أنها تصيب القارئ بشيء من العدوى الإيجابية وتسمح بتسرب تأثير أسلوبه ونظرته إلى القلب بطريقة لا شعورية.
ونفس الشيء ينطبق على القرآن الكريم فهذا الكتاب هو قمة الكمال والجمال في أسلوبه وأنساقه وترتيب معانيه وطريقة عرضه، ومن يكثر من قراءته والاستماع إليه بتدبر فإنه يتأثر لا شعورياً به، فمن أراد أن يهذب نفسه ويرتقي بأسلوبه وينظم أفكاره فإن إكثاره من قراءة القرآن تترك أثرها في ذلك حتى دون أن يتنبه إلى أن هذا الأثر الذي يراه في أسلوبه وتفكيره هو بفعل القرآن، وما التشابه الذي نراه بين شخصين لم يجمع بينهما زمان أو مكان في طريقة التفكير ومعالجة الأمور إلا بفعل وحدة المرجعية التي انطلقا منها وهي القرآن الكريم، وهذا أثر آخر تحدثه كلية القرآن غير أثر التدبر الجزئي في معاني الآيات وألفاظها..
إن من يعلم أن أفكاره هي التي تصوغ حياته وتحدد مصيره جدير به أن يراقب هذه الأفكار وأن يحرص على أن يملأ قلبه بمعاني الإيمان والإيجابية والخير، ويمارس عبادة الإعراض عن الظواهر السلبية حتى لا تنفذ سمومها إلى قلبه فتورده موارد الهلاك..
والله أعلى وأعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق