غياب المسئولية الاجتماعية (1)
أحمد أبورتيمة
حدثتني نفسي ذات مرة بأن أرفه عنها في لهيب الصيف الحار وأن أقضي جزءً من وقت النهار الطويل في المتعة والاستجمام فكان القرار بزيارة إحدى المدن السياحية -لا يسرح بكم الخيال في كلمة مدينة سياحية، فالكلمة مجازية جداً- حين الوصول إلى هذه المدينة التي كانت تشهد حالة اكتظاظ بالسكان المترفهين نظراً لقلة المتنفسات وبقدر ما في هذا الاكتظاظ من عناصر إيجابية إذ يدل على نفوس مقبلة على الحياة رغم كل المنغصات والتحديات إلا أن ما كدر صفو هذه الصورة حالة الفوضى وغياب النظام وعدم الاهتمام بنظافة المكان فقاعدة (اترك المكان كما تحب أن تراه) لم يعد لها مكان عند أكثر الناس، وحل محلها مبدأ (نفسي نفسي..المهم متعة اللحظة الراهنة وبعدها فليكن الخراب)..مشهد العشب الأخضر الرائع لم يعد كذلك فبقايا الطعام والشراب والأكياس ملقاة في كل مكان، ترى من (يقزقز البزر) ويلقي بقشره يميناً وشمالاً حتى لا يكلف نفسه عناء جمعها في كيس واحد وإلقائها بعد ذلك في سلة القمامة..
ما يستفز في هذا المشهد أنه يحدث في مكان محترم انتزع من بين شوارعنا التي تغص بالقمامات وأعد خصيصاً ليكون مثالاً للجمال، وحرص أصحابه على تجهيزه بالوسائل اللازمة لذلك فنشروا حاويات في كل زاوية من زواياه فلم يعد يكلف المصطاف الكريم المحافظة على المكان أكثر من أن يجاهد نفسه نصف دقيقة ليقوم من مكانه ويضع ما تبقى من أكياس وبقايا أطعمة وأشربة في المكان المخصص لذلك..لكن كيف يفعل ذلك من تشرب الفوضى وعدم الشعور بالمسئولية تجاه المجتمع منذ طفولته فصار الأصل هو عدم النظافة، ومن فكر بالشذوذ عن هذا الأصل وحاول تقديم نموذج جديد- نقصد بالنموذج الجديد فقط وضع القمامة في مكانها المعد لها- من فكر في ذلك قوبل بالسخرية وبكلمات من قبيل (بدك تعمر الكون لحالك-كل الناس بترمي في الشارع ما وقفت عندي ولا عندك)، وربما أسيء الظن به بأنه إنسان متفلسف أو أنه يحب أن يظهر نفسه، أو أنه محلق في المثاليات ولا يعيش الواقع..
هذا المثال الذي تقدم هو مثال فاقع الدلالة على أن الخلل هو من نفوسنا قبل أن يكون من عامل خارجي أو من سلطة فوقية، فكثيراً ما يتذرع الناس بإلقاء النفايات في الشوارع بأن هذه الشوارع ليست نظيفةً أصلاً وأن التزامنا الفردي لن يساهم في نظافة هذه الشوارع مع أنه منطق خاطئ فالمفترض أن يبدأ كل إنسان بنفسه وألا ينتظر الآخرين ليفعلوا حتى يتبعهم، أو يتذرعون بعدم وجود حاويات كافية في الشوارع، هذه الذرائع تسقط هنا، ففي المتنزهات توجد حاويات بالقدر الكافي، ونظافة المكان تشجع الإنسان على الالتزام للمحافظة عليه، لذا لا يمكن تعليل السلوك الرديء إلا بخلل ثقافي واجتماعي عميق لم يعد يشعر الإنسان معه بأي مسئولية تجاه المجتمع ومظهره الحضاري..
وما نراه في المنتزهات نراه بالتأكيد بدرجة أكبر في الشوارع والطرقات وعلى شاطئ البحر، وتصل ثقافة الفوضى واللامبالاة إلى درجة مثيرة للتقزز إذ كثيراً ما تجد الحاوية الموجودة في الشوارع وهي فارغة والناس يلقون بأكياس قمامتهم حولها، أي أنه تكبد عناء المسير من بيته حتى ما قبل مترين من وصول الحاوية فقصر بإكمال المشوار وألقاها بجوار الحاوية، تاركاً مسئولية تنظيف المكان للبلدية.
من المؤسف أن نضطر إلى الحديث في سلوكيات بدائية، ونحن في عصر تقدمت فيه غيرنا من الأمم إلى درجات مذهلة في مجالات الصناعة وإعادة تدوير المستهلكات حتى لم تعد هناك قمامة من الأصل في تلك المجتمعات..
قصة غياب النظافة ليست سوى عينة واحدة لثقافة اللامبالاة وعدم استشعار المسئولية تجاه المجتمع. في هذه الثقافة يفترض الشخص أنه لوحده في هذا المجتمع وأن المهم هو أن يستمتع دون اعتبار لمشاعر الآخرين وأحاسيسهم وما يضرهم أو ينفعهم، فبعد استمتاعه اللحظي ليكن ما يكون، فإذا أعجبته زهرة في الحديقة سارع إلى قطفها ووضعها في جيبه دون اعتبار أن هناك من سيأتي بعده له نفس الحق في الاستمتاع بمنظر هذه الوردة، وإذا رغب في تدخين سيجارة وهو في سيارة عمومية أو مجلس عام سارع إلى إشعالها ونفث دخانها في وجوه الحاضرين حتى دون أن يستأذنهم في إشعالها، فهو لا يرى أحداً في المجتمع سواه، فإذا أبدى أحد الحاضرين ضيقه من هذه السيجارة، وهذه خطوة متوقعة من أكثر من نصف المجتمع الذي لا يدخن، اعتذر وقام بإطفاء السيجارة، وكأنه لم يكن يعلم بأن هناك من تضايقه رائحة الدخان إلا الآن، وغالباً ما يكظم الحاضرون غيظهم ويخجلوا من مطالبة المدخن بإطفاء السيجارة ويصبروا مكرهين على أذاه، ومع هذا يظل الاعتذار موقفاً متقدماً إذا ما قورن بموقف آخرين يفترض أحدهم بأن له الحق بتسمم سيجارته وأن من يطالبه بإطفائها هو المخطئ فقد حدثني أحد الفضلاء من كبار السن أنه طلب من شاب في عمر أبنائه في إحدى السيارات بأن يطفئ سيجارته فرد عليه هذا المراهق بوقاحة: إذا مش عاجبك خذ سيارة طلب!!
ومع تحميلنا المسئولية في هذه السلوكيات البائسة للثقافة الاجتماعية بالدرجة الأولى فإن هناك قسطاً من المسئولية تتحمله الحكومة، فما الذي يمنع من إصدار قرار ملزم بمنع التدخين في السيارات والأماكن العامة وتغريم من يفعل ذلك، وهو قرار بسيط ولا يحتاج لأية تعقيدات سياسية أو قانونية وهو مطبق في الدول الغربية من غير المسلمين مع أنهم لا يؤمنون بحلال أو حرام، فقط يفعلون ذلك حرصاً على الصحة العامة، وإذا كانت الحكومة تتردد في إصدار قرارات كثيرة يطالب بها المجتمع مخافة إثارة ما يسمى المجتمع الدولي فإن قراراً مثل منع التدخين لن يثير أياً من هذه الحساسيات التي لا نقرها بطبيعة الحال لأنه يجب أن تكون لنا هويتنا المستقلة وألا نبالي بسخط الآخرين أو رضاهم ما دمنا منسجمين مع ديننا وقيمنا..ولكن يبدو أن المشكلة هي في اهتزاز الثقة بالذات حتى أننا لم نعد قادرين على إصدار قرار بسيط كهذا، وإذا أصدرناه فإننا لا نمتلك العزيمة القوية لتطبيقه والاستمرار فيه وإلزام أنفسنا به..
يتبع...
غياب المسئولية الاجتماعية (2)
أحمد أبورتيمة
من مظاهر غياب المسئولية الاجتماعية ظاهرة إغلاق الشوارع لإحياء الحفلات أو للقيام ببعض أعمال البناء، ففي ضوء هذه الثقافة صار بإمكان شخص واحد أن يغير خط سير حي بأكمله فإذا نوى أحدهم أن يفرح بابنه أغلق إحدى الشوارع الرئيسية وأجبر المركبات على تغيير مسارها، فإذا اعترض معترض رد عليه: ياراجل هذه فرحة العمر.. وإذا سلمنا بهذا المنطق وافترضنا أن عدد السكان مليون ونصف المليون وأن لكل واحد منهم نصف فرحة على اعتبار أن الفرحة الواحدة تكون لعروسين، وأن هذه الفرحة تقتضي إغلاق إحدى الطرق ليوم واحد فهذا يعني أنه لمنح كل أفراد الشعب فرحةً واحدةً في العمر فإن الأمر يتطلب إغلاق إحدى الطرق سبعمائة وخمسين ألف مرة، هذا دون أن نحتسب أعمال البناء، ودون أن نحتسب موتة العمر وما تتطلبه من إقامة سرادقات العزاء التي لن تكون هذه المرة بالتقاسم بين اثنين أي أننا سنكون بحاجة لإغلاق الطرق مليون ونصف المليون مرة..هذه الإغلاقات المؤقتة للطرق يضاف إليها الإعاقات الدائمة التي يلحقها الناس بهذه الطرق عبر ما يسمى ب(المطبات) فإذا خشي إنسان على حياة أبنائه من السيارات المسرعة أحضر فأسه وقام بتكسير الطريق وإحداث فجوة ليجبر السائق على الإبطاء، ولأن الأمر لا يتم بالتنسيق ولا برعاية جهة عليا وتحكمه العشوائية وغياب القانون فإن كل واحد يصنع مطبه على ليلاه حتى تصل هذه المطبات من الكثرة بحيث يفصل بين المطب والذي يليه متران أو أقل، وعلى السائق المسكين أن يتحمل كل هذا العناء دون اعتراض، فهذه هي ثقافة المجتمع الحاكمة، ولو تطلب هذا الاحتمال منه أن يتضاعف الزمن الذي يحتاجه لوصول هدفه.
من نماذج غياب الإحساس تجاه الآخرين ما نسمعه من ضجيج أصوات الأغاني في المناسبات السعيدة وحتى من غير مناسبات فإذا رغب أحدهم في سماع صوت فنانه أو فنانته المفضلة أصر بكرم عربي أصيل أن يشاركه جيرانه الاستماع فأعلى صوت الجهاز إلى أعلى حد ممكن من الديسيبلات حتى تشعر أن الجهاز في بيتك وليس في بيت جارك السابع، وإذا أراد أحد الباعة المتجولين أن يترزق- ونحن نتمنى له ذلك - لم يطب له فعل ذلك إلا في وقت الظهيرة أثناء القيلولة فيقف تحت شرفة المنزل وينادي بمكبر الصوت بأعلى ما يستطيع، وليته ينادي مرةً واحدةً ثم يمضي بل إنه يمكث ربع ساعة أو نصفها لا يغادر المكان ويعيد ويزيد ويغني ويصدح لا يبالي بمرضى أو متعبين أو غيرهم..
لا تسل أيضاً عن ظاهرة التبذير في استعمال المياه، وإهدارها في الطرقات بدون سبب، اللهم إلا بسبب أن أحدهم إذا رغب في تسلية وقته ولم يجد ما يفعله عمد إلى فتح صنبور المياه ومد الخرطوم ورش الشارع، أما من رغب في الوضوء أو الاغتسال فإنه يهدر كميات من المياه تكفي للاستعمال مرات ومرات، يحدث هذا في أمة يوصي نبيها صلى الله عليه وسلم بالاقتصاد في الماء على نهر جار، ولكن ماذا تفيد الآيات والأحاديث، وسلطان الثقافة أقوى من أي سلطان..إياك هنا أن تجرؤ على التفلسف والحديث عن خطورة هذا التبذير على المياه الجوفية، أو استعمال لغة الأرقام لتحذير الناس بأن هذه المياه ستنفد عام 2050 مثلاً، لأنك إن فعلت ذلك فسينفجر من حولك ضاحكين، وسيحذرونك من طول الأمل، وسيرد عليك أحدهم بالقول:بس نعيش لبكرة، عشان نعيش ل2050 ..
بالطبع فإن وسائل الإعلام غائبة عن هذا الميدان، ولم نر منهم من فكر يوماً بإعداد مواد إعلامية تثقيفية لحث الناس على الارتقاء بسلوكهم الاجتماعي، فهم ربما لا يرون هذا الميدان من اختصاصهم، واختصاصهم فقط هو في إرهاق مشاعر الناس بوجبة النكد اليومية من أخبار السياسة والسياسيين.
متى يستشعر الواحد منا بأن المجتمع هو بيته الكبير وأن لغيره الحق فيه كما له، وأن يعلم بأنه حر ما لم يضر، وإذا كانت الأمم الأخرى قد تجاوزت هذه السلوكيات البدائية دون إيمان بجنة أو نار أو ثواب أو عقاب، فقط بالإيمان بمبدأ المسئولية الاجتماعية، فإن في تعاليم ديننا ما يشكل عوامل استفزاز إضافية للارتقاء بسلوكنا فنحن أصحاب الدين الذي جعل إماطة الأذى عن الطريق شعبةً من شعب الإيمان، وفي ديننا أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وألا يؤذي جاره، وأنه لا ضرر ولا ضرار، وفي ديننا الدعوة لإعمار الأرض وغرس الأشجار، ومن روائع ديننا أنه جعل الحساب يوم القيامة فردياً حتى لا يتذرع إنسان عن عدم فعل الخير أو تغيير المنكر بأن الناس لا يفعلون ذلك، فلو كان المجتمع كله غارقاً في الأخطاء فإن هذا لا يعطيك مبرراً لتقليده لأنك ستحاسب يوم القيامة عن نفسك "وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً"، لكن ماذا تغني الآيات والنذر لقوم لا يؤمنون ولا يتعظون..
حدثني أحد الأفاضل بأنه ألزم نفسي منذ سنوات بألا يلقي شيئاً على الأرض حتى لو كانت قشرة بزر وأن يحتفظ به في يده أو جيبه حتى لو ظل معه طوال اليوم ولو كان المكان الذي يتواجد فيه يغص بالقمامة والقذارة حتى يصل إلى إحدى الحاويات فيلقيه فيها..
ونحن إذ نحيي هذا الأخ على صنيعه إلا أنه ينبغي أن تكون مثل هذه السلوكيات هي الحد الأدنى الذي يلتزم به جميع أفراد المجتمع برقابة ذاتية من أنفسهم، لأن هذا هو أضعف الإيمان الذي لن يتحقق لنا نهضة وصعود بدون تحقيقه في حياتنا..
نسأل الله أن يهدينا إلى سواء السبيل وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً..
والله أعلى وأعلم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق