(نسخة خاصة للحكومات العربية وأجهزتها الأمنية)
خطورة قولبة المجتمعات
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
أعني بقولبة المجتمع أن يتم صبه في قالب واحد، فيراد لكل أفراد المجتمع أن يكونوا على لون واحد، وأن يفكروا بنفس الطريقة وأن يكون لهم نفس الموقف السياسي، ، فإذا قدر الحزب الحاكم تقديراً حوَّله إلى قرار ملزم، وما رآه حسناً وجب على المجتمع أن يراه حسناً، وما رآه سيئاً فهو كذلك، فهو قد جعل مقياسه للصواب والخطأ مقياساً مطلقاً ملزماً لكافة أفراد المجتمع..وبذلك يختزل المجتمع كله في حدود جماعة واحدة ويقيد بمواقفها ورؤاها.
لا نناقش في حق الجماعة الحاكمة بأن يكون لها اجتهاداتها وتقديراتها السياسية سواءً أصابت أم أخطأت، فمن حق الجميع أن يجتهد وأن يتبنى ما يراه مناسباً، ولكننا ننتقد محاولة حمل المجتمع كله على هذا الرأي لا لشيء إلا لأنه صدر ممن يمتلك سلطةً ونفوذاً، وكأن سلطته ونفوذه تمنح رأيه قدسيةً خاصةً تميزه عن غيره من الآراء..
إذا رأى الحزب الحاكم أن يتجنب التعليق على أحداث تجري في دولة مجاورة لاعتباراته السياسية، فهذا من حقه، لكنَّ ما ليس من حقه أن يفرض اعتباراته التي يراها على المجتمع كله فيمنع أي مقالة أو تظاهرة أو نشاط يرى رأياً آخر في المسألة..إن الاعتبارات والتقديرات السياسية التي يراها الحزب الحاكم تلزمه وحده، ولا تلزم المجتمع كله معه، وحق التعبير عن الرأي يجب ألا يكون مرهوناً بمدى اتفاقه أو مخالفته لرأي الحكومة السياسي، أو أن يكون وسيلةً للاستعمال التكتيكي فإن رأت الحكومة في إحدى المراحل أن تصعد على إحدى الجبهات أوحت إلى الناس بالتظاهر، وإن رأت أن تهدئ على تلك الجبهة منعت التظاهر، بل إن حق التعبير عن الرأي أياً كان هذا الرأي في اختلافه عن رأي أصحاب السلطة والنفوذ هو حق مقدس لا يقبل المقايضة..
ربما يبدو مشهد المجتمع أو الجماعة التي لا يسمع فيها سوى رأي واحد مشهداً إيجابياً في الذهنية العربية فهو دليل على الانضباط والتماسك ووحدة الصف، لكن هذه الإيجابية أقرب إلى الوهم منها إلى الحقيقة، فثمن هذا التماسك الظاهري باهظ يدفعه المجتمع أو الجماعة من مستوى الإبداع والتفكير فيها، وكلما كان حرص الجماعة على إظهار نفسها بمظهر المتماسك المنضبط أكثر كلما كانت أكثر ضيقاً بأي رأي يخالف التوجه العام فيها، فهي لا تريد أن تسمع سوى ما يتناسب مع أهوائها فتتعطل ملكة النقد لدى الأفراد وتصبح البيئة المجتمعية مضادةً للتفكير والإبداع.
والخلل يبدأ من الثقافة العربية في أنها تعلي من شأن قيم الجندية على حساب الاهتمام بقيم القيادة، فهي تكيل المديح للانضباط والالتزام والسمع والطاعة، بينما لا تثني بالقدر الكافي على التفكير الحر والنقد البناء وثقافة تعدد الرأي، ويربي المجتمع أبناءه منذ الصغر على إلغاء عقولهم وتقليد الكبار وعدم الإكثار من السؤال والاعتراض حتى لا ينبذهم المجتمع، وبذلك ننتج جنوداً لا قادة، مقلدين لا مبدعين..مع أن الأصل في الحياة البشرية هي القيم الثانية وليست الأولى لأنها هي التي تحقق إنسانية الإنسان، وهي التي تساهم في مسيرة التطور البشري، أما قيم الجندية فهي استثناء يصلح زمن الحروب ولا يجوز تعميمه ليصبح أسلوب حياة..
لقد سمعت رجلاً وهو يفسر سر تقدم الأمة فيما مضى وتخلفها في هذا العصر بأن الصحابة كانوا يقولون سمعنا وأطعنا ويسكتون، أما جيل هذا العصر فيتفلسفون ويجادلون، ولو صدق لقال إن السبب هو أن الذين سبقونا كانوا يفكرون، بينما نحن لا نفكر، وقد كان الصحابة أكثر الناس سؤالاً ومناقشةً للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان اتباعهم على بصيرة وليس اتباعاً أعمى.
إن ظاهرة الصوت الواحد والرأي الواحد في المجتمعات ليست ظاهرةً صحيةً، والانضباط والاستقرار الذي تعكسه هو استقرار متوهم، لأن الوضع الطبيعي أن يكون أفراد المجتمع متعددين في أفكارهم وآرائهم، وأن يكون المجتمع زاخراً بالنقاشات والحوارات الفكرية والسياسية، أما المجتمع الذي لا يشهد تعدديةً فكريةً وسياسيةً فهو مجتمع ميت توقف أفراده عن التفكير والنقد، فهم يقلدون ويتبعون على عماية.
وحين نحاول أن نظهر أنفسنا أمام الناس وكأننا طبعة واحدة، ونظن أننا نعكس صورة وحدة وتماسك تكف عنا انتقاد الآخرين فإننا مخطئون، لأن ما يستحق الانتقاد فعلاً هو ألا يكون هناك سوى رأي واحد، وقد خلق الله البشر متفاوتين وكرم كل واحد منهم بشخصية متميزة متفردة عن العالمين، فلا يوجد اثنان على وجه الأرض متطابقين تماماً، ومن يلغي فرديته ويؤثر الانصهار في القوالب الجامدة فإنه يكفر نعمة الله عليه..
وحين يصب المجتمع في قالب واحد ولا يسمح فيه بتعدد الآراء والرؤى فإنه يتحول إلى ما يشبه قطيع غنم يسيره رعاته دون وعي منه، وتقتل ملكة النقد عند الأفراد، فكل ما تراه القيادة الحكيمة الرشيدة صواباً فهو صواب، ولا داعي للتفكير والتساؤل، والنقد والإبداع.
قولبة المجتمع قتل له، لأنها تلغي فردية الإنسان وهي السر الذي يميز جوهره، هذه الفردية هي التي يتولد عنها الإبداع، وهي التي تثري المجتمع وتقويه، وتجعله مجتمعاً نابضاً بالحياة.
إن الحكومات التي تقتل الرأي الآخر وتسعى إلى صب المجتمع في قالبها الخاص، وتقضي على التنوع الفكري هي حكومات فرعونية بامتياز إذ أن مرض القولبة ينتمي إلى فرعون الذي كان يقول لقومه: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد".
يتضح الفرق بين إطلاق العنان للتعدد والتنوع، وبين حمل الناس على رأي واحد من الفرق بين واقع المجتمعات الغربية النابضة بالحياة والإبداع وبين المجتمعات العربية الجامدة، فالثقافة الغربية تشجع التعدد الفكري والسياسي الحقيقي وتعمل على تنمية نزعة التفرد في نفس كل واحد، فكل إنسان يفكر بطريقة حرة ويحقق ذاته دون أن يكون مجبراً على اعتناق أيديولوجيات جامدة جاهزة..هذه الثقافة هي التي تنتج أصواتاً معارضةً للسياسات الغربية الرسمية، وتفرز مناصرين لقضايا العدالة العالمية .
تجد في الدولة الواحدة في الغرب تعدداً في الآراء من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويعبر الجميع عن آرائهم بكل حرية بغض النظر عن اقتراب آرائهم أو ابتعادها عن الموقف الرسمي للدولة، ولم يحدث أن منعت الدولة تظاهرةً بحجة أن الاعتبارات السياسية والمصلحة العليا لا تسمح لهذا الرأي بالظهور إعلامياً، فهذه الاعتبارات ملزمة لها وليس للمجتمع، ولم نسمع عن تأثر العلاقة بين بلدين بسبب تنظيم تظاهرات في إحداهما، بل على العكس من ذلك فإن الحكومات الغربية تباهي العالم بحركات الاحتجاج الشعبية في بلادها بأنها دلالة نضج اجتماعي وسياسي، ومؤشر على الحرية وعلى مجتمعات نابضة بالحياة.
إن ظهور الرأي الآخر يقوي موقف الحكومة ذاتها وربما يساعدها في انتزاع مكاسب إضافية بالتلويح بورقة المعارضة في وجه الطرف الآخر، أي أن التنوع داخل المجتمع يعطي مساحةً واسعةً للمناورة، بينما قولبة المجتمع كله في قالب جامد يقضي على أي مساحة للمناورة ولا يبقي لدى الحكومة الاستبدادية أية أوراق للتلويح بها..
بذلك يتبين أن التعدد السياسي والفكري داخل المجتمع ليس مصلحةً لأحزاب المعارضة وحدها، بل فيه مصلحة للحزب الحاكم ذاته لأنه يمنحه مساحات واسعةً للمناورة السياسية، ويقلل من مخاطر ابتزازه من قبل الجهات الخارجية لأنه يكون حينها أكثر تجذراً في المجتمع، كما أن هذا التعدد يمنح الحزب الحاكم فرصةً للمراجعة وتطوير الأداء وإبقاء عناصره في حالة تحفيز إبداعي للبحث عن وسائل جديدة في المواجهة الفكرية والسياسية مع الآخرين وبذلك يكون وجود الآخر ضمانةً لعدم الجمود والتقوقع والفناء..
إنها فوائد عظيمة يجلبها التعدد لقوم يعقلون..
في المقابل فإن قولبة المجتمعات هي تهديد خطير للمجتمع بما في ذلك الحزب الحاكم، لأن صب المجتمع في قالب جامد يقتل ملكة الإبداع، ويؤدي إلى حالة من الفتور والتراخي، ويصادر ميزة الفردية والهوية ويربط كل صغيرة وكبيرة في إطار صارم من المركزية، وبذلك تصبح حركة المجتمع أكثر بطئاً وأقل مرونةً.
من مظاهر القولبة في المجتمعات العربية سيطرة النزعة المركزية، فتجد للحزب أو للحكومة صحفاً رسميةً ناطقةً باسمها وكذلك فضائيات ونشرات، وحتى لو أراد الحزب تنظيم تظاهرات فلا بد أن تكون تحت رايته متبناةً رسمياً منه، فكل شيء يخضع للمركزية، حتى وجود وزارة الإعلام في البلاد العربية هو دليل قوي على هذه القولبة، فوجود وزارة حكومية تحمل اسم الإعلام يعني ضمنياً أن الإعلام يجب أن يظل في خطوط معلومة لا يحيد عنها، بينما نجد الدول المتقدمة، ومنها إسرائيل لا تعرف مثل هذه الوزارة، بالتأكيد هناك صحف وفضائيات مساندة للحكومات، وتخدم خطها السياسي، ولكن العلاقة بين هذه الوسائل الإعلامية وبين الحكومات ليست علاقات مباشرةًً صارمةًً، وتظل هناك مساحة للتميز والإثراء.
ونحن لا نطرح هذا المثال ترفاً، بل لأنه يسبب أزمةً واضحةً في العالم العربي، فحين يسعى هذا النظام إلى أن يكون الإعلام تحت سيطرته مباشرةً وأن يراقب كل كلمة تخرج منه فهذا يعني أنه لم يعد يثق بأي مساحة للتنوع، وهذا يعني إلغاءً كاملاً للمجتمع، وأن كل ما على المواطن فعله هو أن يفتح فمه ليتلقى الوجبة التي طبخت له جاهزةً دون نقد وتفكير.
من الأمثلة الصارخة التي تكشف عن مرض القولبة في المجتمعات العربية هو ثنائية الاستقرار والحرية، فبينما تبرز مفردة الحرية في الخطاب الغربي وينظرون إليها بأنها قيمة مقدسة، فإن الأنظمة العربية تستبدل كلمة الاستقرار بها، والاستقرار كلمة خطيرة إن كان ظاهرها الرحمة ففي باطنها العذاب، فما أكثر ما تستغل هذه الكلمة لقمع صوت المعارضة، ومصادرة أي رأي آخر، بزعم أن البديل عن الحرية هو الفوضى، وكان ينبغي أن تقدم الحرية على الاستقرار، فالاستقرار الحقيقي لا يكون إلا بإطلاق الحريات، والاستقرار الذي يقوم على إسكات الرأي الآخر وقولبة المجتمع في إطار واحد هو استقرار زائف، سرعان ما تقتلعه رياح التغيير.
إن الحكومات الواعية تعلم أن مصلحتها هي في إطلاق الحرية وتشجيع الرأي الآخر، والجماعة الواعية هي التي تعمل على تقوية حضور المجتمع لا على تقوية التنظيم، لأن قوة المجتمعات هي الضمانة لاستمرار التنظيم ونموه وقوة مواقفه.
والمجتمع هو الأصل وليس التنظيم، فالتنظيم ليس سوى فرع من شجرة المجتمع يمكن أن يذوي ويموت، وينبت محله فرع آخر، لذلك فإن من الخطورة أن يتم تضخيم التنظيم على حساب المجتمع، فتقاس مصلحة المجتمع بمصلحة الحزب، ويصبح من يرى رأياً غير رأي التنظيم وكأنه خارج عن المجتمع..
إن حركة المجتمعات أعقد من أن يتم اختزالها في إطار حزب واحد أو رأي واحد، والشعوب تستعصي على كل محاولات التقييد والتأطير والقولبة.وحياة المجتمعات لا تكون إلا بالحرية الحقيقية التي تطلق العنان للتفكير والإبداع فيكون التقدم والازدهار..
والله أعلى وأعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق