الاثنين، 8 نوفمبر 2010

فضائيات خارج الزمن
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
أعجب من حال بعض الفضائيات التي لا يربطها بالزمان الحاضر سوى تقنيات الصوت والصورة، وما عدا ذلك فهي أبعد ما تكون عن تحديات العصر ومقتضياته..
تجد هذه الفضائيات منصرفةً عن الأخطار المحدقة بالأمة الإسلامية خارجيةً وداخليةً من مخططات معادية واستبداد وفساد داخلي ..وقد جعلت لنفسها هماً واحداً ووحيداً كرست له جهودها وأوقاتها وهو مهاجمة الشيعة وشيطنتهم والتحذير من خطرهم..
لست في معرض الدفاع عن الشيعة، فمن حق الجميع أن ينتقد ما يراه خطأً ولكن ليس بالأسلوب الفتنوي المثير للكراهية الذي تنتهجه هذه الفضائيات، وليس بإصدار أحكام عامة فالقرآن قد علمنا منهج "ليسوا سواءً".
وقد سمعت شخصياً من الخرافات والضلالات عند بعض الشيعة -وأؤكد على بعض- التي تجعل الحليم حيراناً..فقد سمعت أحدهم يقول إن الأنبياء كلهم عبيد للحسين، وآخر يقول إن الله يقول الشعر في علي..
لكن ليس هذا موضوع حديثي فالدنيا مليئة بالخرافات، ولو أننا رددنا على كل خرافة لما اتسعت أعمارنا لذلك ولتعطلت حياتنا عن كل عمل نافع..
موضع انتقادي لهذه الفضائيات هو التركيز على مواضيع قديمة، والانشغال بالرد عليها بدل الاهتمام بقضايا نهضة الأمة وفاعليتها..
هذه الفضائيات تمارس دوراً خطيراً فهي تحشد الناس وتشحن النفوس باتجاه معركة مفتعلة ليست هي معركتنا الرئيسة وتسعى لأن تسوق بأن تناقضنا الرئيس هو تناقض داخلي وليس مع الأعداء الخارجيين الذين يتربصون بنا الدوائر ويخططون لتقسيم البلاد وإذلال العباد..
مشكلة القائمين على هذه الفضائيات أنهم حين يفعلون ذلك ويثيرون كل هذا المقدار من الحقد والتعبئة السوداء فهم يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وأنهم بذلك يتقربون إلى الله زلفى، وأنهم يخدمون دينهم ويدافعون عن عرض النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم.
فضلاً عن كون الأسلوب المتبع في هذه الفضائيات أبعد ما يكون عن الحوار الهادئ الذي يؤلف القلوب ولا ينفرها وعن الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن التي أمرنا القرآن بها، فضلاً عن الأسلوب فالملاحظة الأهم هي حول جوهر القضايا المثارة، فهي قضايا تاريخية قديمة عفا عليها الزمن ولم تعد مناقشتها ذات أهمية كبيرة في عصرنا الحاضر، فماذا يفيدنا مثلاً أن نثبت بعد ألف وأربعمائة عام أن أبابكر كان أحق بالخلافة من علي رضي الله عنهما، وهل تتوقف رسالة الإسلام دين الرحمة للعالمين على مناقشة هذه القضية؟ وهل سينهار بناء الإسلام إن لم نثبت أحقيتنا في بعض القضايا الثانوية في خلافنا مع الشيعة؟؟..
إن الاستغراق في الماضي والتعصب له حتى لو كان من باب الدفاع عن الصحابة رضوان الله عليهم لا يخدم الإسلام لأنه يصوره وكأنه دين مستغرق في الماضي، وأنه لا يملك أجوبةً شافيةً للتحديات الراهنة، وأن كل ما يستطيع أن يفعله في الوقت الحاضر هو الحنين إلى أمجاد الماضي واجترار الخلافات القديمة والتعصب لأمة قد خلت في الزمان الغابر دون أن يكون له شهود حضاري في هذا الزمان..
الحق أن الإسلام في حالة شباب متجدد ولديه ما يقوله للإجابة عن تحديات كل عصر، وأفضل خدمة نقدمها للإسلام هو أن نلتفت إلى التحديات المعاصرة ونوجد لها الأجوبة الملائمة النابعة من هدي الإسلام.
لقد علمنا القرآن منهجاً غايةً في الروعة للتحرر من أثقال الماضي فقال الله تعالى "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون"..هذه الآية العظيمة تكررت في سورة البقرة مرتين، وهي تدعونا بشكل صريح إلى الالتفات إلى الحاضر بدل الاستغراق في الماضي واجترار أحداثه وأخطائه وتراكماته، لأننا لا نملك تغييره ولن يحاسبنا الله عليه، أما ميدان العمل والفاعلية فهو الحاضر والمستقبل ..
إن الإسلام يقول لنا إننا أبناء الحاضر، وليس بقايا الماضي، واستحضار الماضي يكون فعالاً إذا كان لاستلهام دروسه، وليس إذا حولناه إلى عائق يقيد تفكيرنا ويحول دون انطلاقتنا ووحدتنا ويشوش نظرتنا إلى المستقبل..
حتى إذا كان الحديث عن فضائل الصحابة وأمهات المؤمنين، وهو عمل طيب يشكر عليه أصحابه، إلا أن المبالغة في هذا الجانب فيه خلط للأولويات، ولو تأملنا القرآن الكريم لوجدنا أن الآيات التي تختص بذكر فضائل الصحابة قليلة العدد مقارنةً مع الآيات التي تدعو مثلاً إلى إقامة العدل والقسط، وتحذر من عاقبة الظالمين، والتي تعد بالمئات، ومن بين عشرات آلاف الصحابة الأجلاء لم يذكر القرآن بصريح العبارة سوى اسم صحابي واحد وهو زيد رضي الله عنه، وهذا الاختلاف في نسب التركيز على المواضيع في القرآن الكريم ليس بدون دلالة، ومن فقه المؤمن كما قال العلامة القرضاوي أن يضخم ما ضخمه القرآن ، وحين يركز القرآن في كل سورة تقريباً على العمل الصالح بينما لا يخصص للحديث عن فضائل الصحابة سوى نسبة ضئيلة، فلأنه يريد منا أن نظل مرتبطين بالمنهج الصافي المجرد المتعالي على الأشخاص وعلى أحداث التاريخ، وهذا ليس تبخيساً من قدر الصحابة ولكنه درس لنا..
استناداً إلى هذا النهج القرآني فإننا مطالبون بالالتفات أكثر إلى قضايا الحاضر، والالتفات إلى تحديات العصر، والإعراض عن الجدل في قضايا تاريخية تجاوزها الزمن..
لقد كان موسى عليه الصلاة والسلام متنبهاً إلى خطورة الاستغراق في مناقشة الماضي لأن ذلك سيكون على حساب القضية الأساسية الحاضرة، فحينما سأله فرعون ما بال القرون الأولى لم يتورط موسى في هذا النوع القاتل من النقاش ولكنه سارع إلى إغلاق الباب بالقول: "علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى"..فليس مهماً تقييم الأمم التي خلت ولكن المهم هو هداية الأمم الحاضرة..
لا أظن أنه سيسر النبي صلى الله عليه وسلم لو قدر له أن يبعث بيننا فرآنا ونحن نصرخ في حبه وفي الدفاع عن زوجته المبرأة عائشة وعن أصحابه الأجلاء ونخصص الخطب والفضائيات لذلك، بينما نحن عاجزون عن التصدي لأعدائنا فضلاً عن قيادة العالم نحو العدل والرحمة ، إن أكثر ما يسر نبينا صلى الله عليه وسلم هو أن نحيي القرآن في حياتنا وأن يرانا مجتمعين متآلفين على هديه سائرين..
إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وأرضاهما قد نجحا في تقديم صورة مشرقة للإسلام ليس بالتباكي على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والاكتفاء بالخطب العصماء في تعديد مناقبه وإفحام شائنيه، ولكنهما خدما الإسلام بمواجهة تحديات عصرهم التي لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مثل حروب الردة وغيرها، وإن كنا صادقين في حبنا لأبي بكر وعمر فإن ذلك يكون بالسير على نهجهما في مواجهة تحديات زماننا المستجدة كما فعلوا مع زمانهم..
إنه لا يعقل أن تستغرقنا الخلافات القديمة إلى هذا الحد، ونغفل عن الأخطار الوجودية التي تتهددنا من كل جانب، فالسودان على شفا حفرة من نار التقسيم أو الحرب، والقدس تهود كما لم يفعل بها من قبل، والصهاينة يعدون العدة لشطب آخر ما تبقى من معالم العروبة والإسلامية في فلسطين ويعلنون على الملأ ضيقهم من وجود الفلسطينيين في أرضهم، والفساد والاستبداد ينخر في بلادنا..أليس في كل هذه الأخطار ما يكفي لاستفزاز عقولنا وتنبيهنا إلى معركتنا الحقيقية؟؟
كأني بالعالم وهو ينظر إلى مثل هذه الفضائيات يسخر من حالنا ويتعجب أن يوجد بشر على كوكب الأرض بهذه الدرجة من السذاجة يناقشون قضايا ميتة ويغفلون عن النار التي تلتهم ديارهم..
إن هذه الفضائيات علمت أم جهلت تقوم بتخدير عقول الأمة وصرفها عن أولوياتها وهي تسير في خط الأنظمة الاستبدادية حتى وإن لم تكن تدري بذلك، لأنها تقوم تصرّف غضب الشعوب إلى مجرى طائفي بدل أن ينفجر في وجه الفساد والاستبداد الذي تمارسه الأنظمة..
يؤسفني أن هناك من أساء توظيف هذه المقالة حين نشرتها قبل أيام وحرف الكلم عن مواضعه فوضعها جزءً من حملة لمهاجمة كل فضائية تذكر الناس بالدين والأخلاق..لذا أرى لزاماً على أن أبين أنني لم أقصد في هذه المقالة تلك الفضائيات التي تدعو إلى مكارم الأخلاق بالحكمة والموعظة الحسنة.فهذه تقوم بدور محمود وهي تساهم من إحدى الجوانب في المشروع الكبير لنهضة الأمة، وإذا قارنا بين هذه الفضائيات وبين فضائيات الخلاعة والمجون فالفرق بينهما كالفرق بين الجنة والنار.ولا يعقل أن يكون لكل ناعق سخيف فضائية، ونحرم ذلك على الذين يدعون الناس إلى الحب والخير والتسامح وصفاء القلوب..
لكنني قصدت في هذه المقالة بصريح العبارة تلك الفضائيات التي تسب وتلعن وتشتم آناء الليل وأطراف النهار..فهذه هي التي تعمق تخلفنا وتزيد أمد رقادنا..
إن ما تحتاجه الأمة اليوم هو فضائيات تجمع ولا تفرق، توعي الأمة بأولوياتها وبالأخطار المحدقة بها، وتقود الأمة في مشروع نهضوي حضاري يجعل لها مكاناً تحت الشمس حتى لا نظل سخرية للآخرين وفتنةً للذين كفروا..
"ربنا لا تجعلنا فتنةً للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم"
والله أعلى وأعلم..

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا لك أخي أحمد
    مقال راق ومهم ومميز
    ويطرح فكرا يناقض التبعية والكائنات السمعية
    ويحدو بنا نحو التفكير والتدبر في حالنا
    بكل حرية وحياد وموضوعية
    تحياتي

    ردحذف