عدلكم أفضل من حجكم أيها المسئولون
أحمد أبورتيمة
رحم الله المفكر الجزائري مالك بن نبي وهو يشرح لنا أطوار الحضارة، وكيف أن الحضارة في أوج قوتها وصعودها تزدهر فيها الفكرة والمعنى، فإذا جرت عليها سنة التاريخ وبدأت منحدر الهبوط واقتربت ساعة أفولها زاد اهتمام الناس بالصور والمظاهر والطقوس بينما خمدت حرارة الإيمان في الصدور..في حياتنا تزدهر الطقوس والصور الإسلامية إلى حد كبير، فالناس يحيون الأعياد والمناسبات الدينية، ويقيمون الاحتفالات ويؤدون الطقوس والشعائر من صوم وصلاة، ويتسابقون إلى الحج والعمرة كل عام، ولكن الصورة لا تمضي على هذا النحو الإيجابي بعيداً، فتجد بعضاً ممن يحج إلى بيت الله الحرام ويؤدي العمرة في رمضان، ويسابق لشراء الأضحية ويهتم بزخرفة المساجد ويبالغ في الإنفاق عليها، ويقيم الاحتفالات ويوزع الحلوى في ذكرى المولد والهجرة تجد هذا البعض هو ذاته من يجمع أمواله بالحرام، وقد أثقل كاهله بحقوق الناس ومظالمهم، ويماطل في أداء الديون ورد الأمانات، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، فقرب أقاربه، وخان الأمانة التي اؤتمن عليها.
إن الاهتمام بالطقوس الظاهرية دون الاستفادة من معانيها العميقة في الحياة هو تفريغ للدين من محتواه، فالله عز وجل لم يفرض علينا الشعائر والمناسك إلا لتستقيم حياتنا النفسية والاجتماعية العميقة "لعلكم تتقون"، "ليقوم الناس بالقسط"، وما لم نحيي معاني هذه الشعائر في حياتنا تصبح بلا مفعول أو قيمة "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"..
حالة الازدهار في المظاهر والأشكال يمكن تعليلها بسهولتها على النفس فهي أقرب إلى الجانب الاحتفالي منها إلى الالتزام والانضباط ولا تتطلب ذات الجهد والتكلفة التي يتطلبها إحياء المعنى والفكرة..
لذلك لا غرابة أن نجد أصحاب السلطان في أي مجتمع يقيمون هذه الطقوس الظاهرية، بينما في سلوكهم الاجتماعي والسياسي هم أبعد ما يكونون عن روح الإسلام، فتجد الرئيس أو الوزير يؤدي صلاة الجمعة والعيد، ويقيم الاحتفالات الدينية، ويحج عاماً بعد عام، بينما هو مقصر في أداء أمانة الحكم وقد انتشر الظلم في عهده وعم الفساد وشاعت الواسطات والمحسوبيات..
حين يقوم المسئول بأداء الشعائر امتثالاً لفريضة افترضها الله عليه فإنه لا يسع أي مؤمن إلا أن يثني على ذلك ويدعو له بالقبول..
لكن الكارثة تكون حين تؤدى هذه الشعائر على حساب العدل الذي من أجله قامت السموات الأرض وعلى حساب حقوق الناس
في هذه الأيام مثلاً حيث الحج إلى بيت الله الحرام ترى بعض المسئولين يسارعون إلى مزاحمة الحجيج في قوافلهم إلى بيت الله الحرام، وقد أدى حجة الإسلام التي افترضها الله عليه من قبل، وربما تكون هذه المرة الثالثة أوالرابعة، مع أن هناك من الناس يتشوقون إلى الحج للمرة الأولى منذ سنوات ولم يخرج اسمه، وهناك من يتجاوز عمرهم الخامسة والستين أو السبعين ترى أعينهم تفيض من الدمع خوفاً أن يفوتهم قطار العمر دون أن يحجوا، وهم يشاركون في الاقتراع مرةً بعد مرة دون أن تخرج أسماؤهم..
ومما يزيد الأمر كارثية أن تكون تكاليف حج بعض هؤلاء المسئولين مقتطعةً من المال العام أو من أموال الحجاج، فيشكلون عبئاً إضافياً على الحجاج وعلى شعوبهم التي يقتطعون الأموال منهم، فصارت الشعوب في خدمة المسئول ورفاهيته، ولم يعد المسئول مسئولاً ومحاسباً من قبل الشعب..
وتكتمل قتامة المشهد حين يكون المسئول الذاهب إلى الحج مقصراً في وزارته أو مؤسسته ومفرطاً في الأمانة العامة، وربما تسبب تقصيره وأخطاؤه في إزهاق أرواح ، وقد علم أن الله لم يفترض عليه الحج أكثر من مرة، وربما أسقطت عنه هذه المرة إن لم يستطع إلى ذلك سبيلاً، بينما افترض عليه أن يؤدي أمانته وأن يحكم بين الناس بالعدل وألا يأكل أموال الناس بالباطل، وأن يتقن عمله، ولن يشفع له أن يحج عشرات المرات دون أن يعيد الحقوق إلى أهلها ويحارب الفساد من مؤسسته ويحاسب الظالم على ظلمه، فالحج صورة الدين بينما إقامة العدل هو حقيقته وغايته، وكما قال ابن القيم رحمه الله : أينما كان العدل فثم شرع الله..
إن وظيفة المسئول ليست في حج أو صيام أو قيام نافلة، بل إن وظيفته الأولى هي أن يقيم العدل بين الناس، ويقضي حوائجهم ويقيل عثراتهم ويدخل السرور على قلوبهم، فإذا أتم هذه الواجبات بإتقان نال رضا الله حتى وإن كان حظه من النوافل قليلاً..
إن تحقيق شرع الله يكون بتحقيق العدالة الاجتماعية ورد الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلومين ومحاسبة الظالمين، قبل أن يكون بإحياء الصور والطقوس والاحتفالات..
إن تولي المسئولية العامة لا يمنح صاحبها تفويضاً إلهياً بأن يزاحم الناس، وأن يقدّم على غيره فيخرج اسمه إلى الحج وهو جالس في بيته دون مشقة أو سعي، بينما غيره يجهد نفسه سنوات طوال وهو يسعى إلى الحج، وإن كان المسئول مصمماً على الحج ولا بد، فعليه ما على أي إنسان من سعي ومشقة وأن يكون هناك تكافؤ في الفرص بين الجميع فيدخل اسمه في القرعة مثله مثل أي واحد من المسلمين، ويجري الاختيار بشكل حر ونزيه فإما قدر له أن يحج، وإما انتظر كما ينتظر غيره في الأعوام القادمة..
إنه لمن التناقض أن يعلن إنسان أنه يقصد من حجه مرضاة الله بينما لا يتحرز من اغتصاب حق غيره للحج، ولو أنه ظل في بيته وقدم على نفسه رجلاً طاعناً من المسلمين ممن يخشى ألا يدركه موسم الحج القادم لكان خيراً له عند الله.
ولا يشفع للمسئول أن يعلن بأنه سيحج هذا العام عن أسير، والعام القادم عن شهيد، والعام الذي يليه عن أبيه أو جده، وبذلك يبرر لنفسه أن يزاحم المسلمين كل عام، فإعطاء الفرصة للأحياء ليحجوا بأنفسهم أولى، ومثل هذه المواقف أمام وسائل الإعلام يخشى أن يتسرب فيها إلى النفوس شيء من حب السمعة..
أختم مقالتي بهذه القصة لعله يكون فيها عبرة لأولي الألباب:
جاء رجل إلى بشر بن الحارث رحمه الله وهو من ربانيي الأمة وقال له يا أبا نصر إني أردت الحج فهل توصيني بشيء؟ قال له: كم أعددت من النفقة للحج؟ قال: ألفي درهم، فقال له: هل تريد الحج تزهُّداً أو اشتياقاً إلى البيت أم ابتغاء مرضاة الله؟ قال: والله ابتغاء مرضاة الله، قال: هل أدلُّك على ما تحقِّق به مرضاة الله وأنت في منزلك؟ إذا دللتك على شيء من هذا تفعل؟ قال: أفعل، قال: تذهب تعطي هذا المبلغ عشرة أنفس، فقير ترمِّم فقره، ويتيم تقضي حاجته ومدين تقضي عنه دَينه، ومُعيل تخفِّف عنه أعباء عياله،..، فقال له: يا أبا نصر السفر في قلبي أقوى، فقال له: إن المال إذا جُمِع من وسخ التجارات والشبهات أبت النفس إلا أن تقضيه في شهوتها..
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في الدين وأن يهدينا إلى سواء السبيل..
والله أعلى وأعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق