تعزيز مشاركة النساء ضمانة للسلم العالمي
أحمد أبورتيمة
ضرب الله للناس في القرآن من كل مثل لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً..فنجد في القرآن مثال الحاكم العادل والحاكم الظالم، والمؤمن الغني والمؤمن الفقير، والعالم الرباني والعالم الشيطاني، والمرأة الصالحة والمرأة الخائنة، وهكذا...
ولأن أمثلة القرآن شاملة نجدها شملت فيما شملت مثال المرأة الحاكمة..
واللافت أن المثال الوحيد الذي ذكره القرآن الكريم للمرأة الحاكمة وهي ملكة سبأ هو مثال إيجابي تجسدت فيه حكمة المرأة وتوازنها وصواب قراراتها السياسية، في الوقت الذي تزخر فيه ثقافتنا بالنظرة السلبية للمرأة وبالدعوة لتحجيم دورها وإلزامها البيت..
في مقابل نموذج الحكم الذكوري الذي جسده فرعون في القرآن باستبداده وإفساده في الأرض نجد نموذج الحكم الأنثوي مجسداً في ملكة سبأ وما اتصفت به من شورى وميل للحلول الدبلوماسية والسياسية وتجنيب شعبها ويلات الحرب..
دعونا نتأمل نموذج الحكم الأنثوي الذي أورده القرآن ونستكشف ملامحه العامة..
فملكة سبأ أولاً جسدت الحكم الشوري ولم تستبد برأيها كما فعل فرعون الذي قال:"ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، بل تطلب الشورى من رجال دولتها: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ"..
وهي تسعى لتجنب الصدام المسلح وتخشى أن تجر دولتها إلى مآس نتيجة التهور "قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً"، والقرآن يصدق مقولتها ويؤكدها "وكذلك يفعلون"..
وهي تتبع الوسائل الدبلوماسية والسياسية في العلاقات مع دول الجوار..فهي سعت إلى إبداء حسن نية تجاه مملكة سليمان، كما سعت إلى جس نبضه بطريقة سلمية: "وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ"..
ثم كان في نهاية المطاف أن دخلت مع سليمان في تحالف سياسي عزز علاقات السلام في المنطقة وجنب الشعوب ويلات الحرب "قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"..
في مقابل هذه الطبيعة الأنثوية المسالمة نجد الطبيعة الذكورية حاضرةً في نفس المشهد، ويجسدها رجال دولة سبأ بميلهم للحل العسكري "قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ".
واللافت أن هذه الفروق بين الطبيعتين الأنثوية المسالمة والذكورية العنيفة لا علاقة لها بإيمان أو كفر بل هي صفة جبلية في خلقة كل منهما "وما خلق الذكر والأنثى"..لذلك نجد أن سليمان عليه السلام مع كونه نبياً وقد اصطفاه الله من خلقه إلا أن طبيعته الذكورية كانت حاضرةً بقوة أولاً في علاقته مع الهدهد "لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ"..ثم في علاقته مع ملكة سبأ "أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ"، وبعد ذلك في توجيهه إنذاراً شديد اللهجة إليها رداً على هديتها: "ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ"..
ونحن لا نناقش في سعي سليمان عليه السلام لنشر دين التوحيد، ولكننا نناقش في طبيعته الميالة للحلول العسكرية..
ما كان في نهاية المطاف أن ملكة سبأ نجحت بحكمتها وسلاميتها في تجنب الحرب ودخلت مع سليمان في تحالف استراتيجي "وأسلمت مع سليمان"..فهو تحالف بين أطراف متكافئة وليس بين طرف قوي وآخر مستضعف لذلك قالت"أسلمت مع سليمان"، ولم تقل أسلمت لسليمان..
نستفيد من هذا المشهد القرآني أنه بينما نجح سليمان بسواعد الرجال في تشييد حضارة رائعة وإقامة العمران الذي كان سبباً في إسلام ملكة سبأ "فلما رأته حسبته لجةً وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير"..نجحت ملكة سبأ بطبيعتها الأنثوية في نشر السلام على ربوع هذه الحضارة مما ساعد في إبقائها، وجنبها ويلات الحروب، وهنا تتضح جدلية العلاقة بين الرجل والمرأة، فالرجل بقوة ساعده وشجاعته هو الذي يغامر ويبني ويبدع، والمرأة بطبيعتها الهادئة هي التي تفيض بالرحمة والسلام وتضفي مسحةً من الإنسانية على الحضارة البشرية..
ربما يرد أنصار تحجيم المرأة على هذا المثال القرآني بأن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وهي شبهة ضعيفة لأن طبيعة الأنثى ثابتة لا تتغير بتغير العصور..
في دراسة تحليلية أجريت في إحدى الدول الاسكندنافية على الخطابات السياسية لأعضاء وعضوات البرلمان تبين أن أكثر الكلمات تكراراً في الخطابات الذكورية هي (الأمن القومي-العلاقات الخارجية-التسلح)، وأن الضمير المستعمل (أنا)، بينما تبين أن أكثر الكلمات تكراراً في الخطاب السياسي للنساء هو (الصحة-الأطفال-التعليم)، وأن الضمير المستعمل بكثرة (نحن)..وهذه الدراسة تعطينا مؤشراً على أن لكل من الرجل والمرأة خصائصهما النفسية التي تميزهما عبر التاريخ، وأنه لا غنى عن دور كل منهما، فلا بد من علاقة تكاملية بين الرجل والمرأة في إطار ناظم أخلاقي فينظر للمرأة بأنها إنسان لديه ما يمنحه لمسيرة التقدم البشري، وليس أنها مجرد أداة للاستمتاع الجنسي..
المرأة بما تمتلكه من مشاعر إنسانية وطبيعة هادئة وميل للسلام والوفاق مؤهلة للقيام بدور رائد في تعزيز السلام في العالم، وتقليص خيار الحرب، فكلما زادت نسبة مشاركة المرأة في الحياة السياسية، وكان لها دور أكبر في اتخاذ القرار كلما كان ذلك ضامناً لنزع فتيل التوترات والحروب، وتعزيز الاعتماد على الوسائل السلمية في العلاقات بين الشعوب..
وكما كانت المرأة في الأزمنة السحيقة هي صاحبة الدور الأساسي في منح البشرية الاستقرار والحضارة باكتشافها الزراعة، فإنها لا تزال قادرةً في هذا الزمان على المساهمة بدور رئيس في إيجاد عالم مسالم خال من الحروب..
في ضوء هذا الفهم لطبيعة المرأة يمكن أن نفهم ما عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله "حبب إلي من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"، فالنساء هن اللاتي يجسدن معاني الحب والرحمة والإنسانية، وهذا ما يحبه نبي الرحمة بالتأكيد..
بقي أن نشير أننا لا نقصد بهذا التفريق بين طبيعتي الرجل والمرأة أن النساء كلهن على شاكلة واحدة، ولكننا نتحدث وفق مبدأ التغليب، فما يغلب على المرأة هو سلاميتها، وما يغلب على الرجل هو ميله للعنف، وإلا فإن التاريخ والواقع يذكران لنا أمثلةً لنساء بلغن حداً من الإجرام لم يبلغه الرجال مثل جولدا مائير وتسيبي ليفني، وفي الطرف المقابل فإن النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصفه القرآن بأنه رحمة للعالمين، وبأنه عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم كان يفيض حباً ورحمةً وسلاماً ما يفوق رحمة الأم بولدها حتى أنه كان يبكي الليل طويلاً وهو يتضرع لربه ألا يعذب أمته "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم"..
والله أعلم..
المصدر إيلاف مع إضافة بعض التعديلات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق