الاثنين، 23 يناير 2012

الدراما بحاجة إلى ثورة أيضاً

أحمد أبورتيمة

عجبت كيف يستطيع مسلسل تركي واحد أن يتسبب في خراب مئات البيوت، وكيف أن فناناً وفنانةً تافهين لا يملكان نصيباً من إيمان أو علم أو ثقافة يمتلكان هذه القدرة على التفريق بين المرء وزوجه، فينفر الزوج من زوجته لأنه لا يرى فيها أنوثة تلك الفنانة ونعومتها، وتنفر الزوجة من زوجها لأنها لا ترى منه دفء ذلك الفنان ووسامته، ليحمل هؤلاء الفنانون ومن شاركهم وعاونهم أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ..

حين يقدر لي أن أتابع لقطات من بعض المسلسلات المصرية أشعر بالتقزز من هذا الحال المتردي للدراما العربية والتي جعلت كل قصتنا هي العلاقات الغرامية والخيانات الزوجية، وكأنه لا يوجد في الحياة الإنسانية ما يستحق التناول سوى هذه القصص..وربما اعتذر القائمون على هذا الميدان بأن هذه المسلسلات محاكاة للواقع، وهي حجة غير مقبولة، وذلك لأن الواقع فيه الكثير من القصص الإيجابية أيضاً، كما أن دور الدراما غير مقتصر على تناول الواقع كما هو بل إن عليه أيضاً تقديم الحلول والعلاج لهذا الواقع..

الدراما خطيرة وأثرها عميق، وخطورتها تتضاعف في المجتمعات العربية لأنها مجتمعات غير قارئة، فالأثر الذي يتركه مسلسل أو فيلم في المجتمعات العربية يفوق ذلك الأثر الذي يمكن أن يصنعه ألف كتاب ، وأهمية العمل الدرامي تأتي من كونه يصاغ بأسلوب قصصي محبب للنفوس فيتسرب أثره في العقول والقلوب بسهولة وينفذ إلى الأعماق، كما أنه يخاطب الجانب اللا شعوري في الإنسان فيترك أثره في سلوكنا الاجتماعي حتى دون أن نشعر بأن هذا الأثر هو من ذلك العمل..

وهذا ما صنعه المسلسل التركي سيء الذكر فحين يشاهد المواطن البسيط مشاهد لحياة حالمة من الحب والحنان والرومانسية في مسلسل حبك بعناية لا يجدها في واقعه العملي ينشأ عنده صراع نفسي بين الأمنية والواقع، ويؤدي هذا الصراع في نهاية الأمر إلى نتائج اجتماعية وخيمة.

ما دام للدراما كل هذه القدرة على التأثير فإن الحل لا يكون برفضها لأنها قد فرضت نفسها على أرض الواقع، بل بتحويل اتجاهها بما يعزز القيم الإيجابية في حياة الناس، وما أكثر القيم التي نحن بحاجة إليها سواءً كانت قيماً حضاريةً مثل قيمة المبادرة، وتشجيع الإبداع، ونشر ثقافة القراءة والعلم، واحترام الوقت، أو قيماً اجتماعيةً مثل الأخوة والتكافل الاجتماعي والصداقة والوفاء، وفعل الخير، أو قيماً وطنيةً تعزز الحس الوطني والقومي والتاريخي في نفوس الناس، كما فعل مسلسل التغريبة الفلسطينية الرائع الذي أخرجه المخرج السوري حاتم علي والذي قدم للمشاهدين لوحةً فنيةً رائعةً فصل فيها مراحل النكبة الفلسطينية، أو كما فعل المخرج ذاته في مسلسله التاريخي صلاح الدين الأيوبي، أو كما فعل المخرج الراحل مصطفى العقاد في فلميه الرائعين عمر المختار والرسالة، وفي الفيلم الأخير الذي يتحدث عن قصة الإسلام وكيف انبعث من الصحراء برسالة تحرير البشرية، فإن الإنسان لا يملك إلا أن يذرف دموعه وهو يتابع هذه التحفة الفنية الرائعة..

نحن بحاجة إلى مخلصين غيورين على أمتهم وأوطانهم في ميدان الدراما لما فيه من تأثير قوي في حياة الناس..لا يعني هذا أننا نطالب ب "بديل إسلامي" للدراما الحالية، لأن الناس غير مستعدة لأن تترك أعمالاً فنيةً أنجزها خبراء متخصصون في كل التفاصيل بدءً من حبكة القصة، وانتهاءً بالمؤثرات والتفاصيل الفنية الصغيرة، وأن يتوجهوا لمشاهدة أعمال مبتدئة تقوم على التجربة والخطأ، ولكننا ندعو القائمين على مجال الدراما بأن يستشعروا المسئولية الاجتماعية وهم يؤدون دورهم، وأن يكونوا عوامل بناء لا عوامل هدم، كما ندعو أصحاب الكفاءة إلى دخول هذا الباب وترك بصمات إيجابية وفق مبدأ "ما لا يدرك كله لا يترك جله"، واعتماد مبدأ التدرج في تحويل اتجاه الدراما حتى تصبح عنصراً مساهماً في نهضة المجتمع وتوافقه مع قيمه الدينية والثقافية والاجتماعية..

لقد دخل الإسلاميون باب الإعلام في السنوات الأخيرة، لكنه مع الأسف دخول كمي وليس نوعياً، فلا يزال يغلب على ما يسمى الإعلام الإسلامي جانب الوعظ والحديث المباشر دون الاستفادة من فنون الإعلام، حتى صدق فيه وصف فهمي هويدي بأنه إعلام إذاعي وليس إعلاماً تلفزيونياً لأنه لا يستفيد من تقنيات الصورة وقدرتها التأثيرية، فلو أننا حجبنا الصورة من أحد البرامج الدينية التي تبثها الفضائيات وحولناه إلى برنامج إذاعي لما تضررت الفكرة، لأنه لا يستفيد من تقنية الصورة التي يتيحها التلفزيون سوى بعرض صورة الشيخ والمكتب الذي يجلس عليه..

الدراما بحاجة إلى فن مختلف فقدرتها التأثيرية لا تأتي من التنظير المباشر للفكرة كما تفعل البرامج الوعظية، بل تقوم بتضمين القصة الدرامية لجرعات خفية من القيم والمبادئ التي نريد غرسها في نفوس المشاهدين، وإرسال رسائل غير مباشرة هي أبلغ من الرسائل المباشرة، فتتسرب هذه القيم إلى نفوس الناس بشكل سلس، وتنغرس في أعماق وعيهم دون فجاجة وإقحام..

والله الهادي إلى سواء السبيل..

هناك تعليق واحد:

  1. مشكور أستاذ أحمد على الطرح المميز كما العادة ..
    " أما آن لأهل الدين أن يتفننوا ولأهل الفن أن يتدينوا"وفي الشق الأول منها على التحديد أنا أرى مكان الثورة وأهميتها, فبالإضافة إلى أنّ أهل الدراما في معظمهم تجار وما يعنيهم هو الأكثر رواجاً وإثارة, فإنّ الفنّ الإسلامي غير أنه إذاعي كما قلت فإنه لا يجتهد في أكثر من إضافة كلمة إسلامي إلى المفاهيم الغربية الحديثة بأسلمة المظهر وتقليد التقنيات بجودة أقلّ وهو ما يسيء له في أحيان كثيرة!!
    ما نحتاجه باعتقادي هو الاستثمار في أعمال فنية( نوعاً وليس كماً) عالية الجودة متقنة الحبكة والاداء تلامس الواقع ( الاجتماعي-أكثر منه تاريخي أو سياسي) بصورة تعكس الواقع وتطرح الحلول بالطريقة الدرامية القريبة من القلوب التي تعيد تطبيع الثقافة الاسلامية والعادات المستقاة منها في عقول الناس (وليس من الضروري أن تعجب الكل ولكن أن توجد فنًا وتوجهًا جديدا يتطور في المستقبل).

    ردحذف