الجمعة، 30 ديسمبر 2011

هل هناك حدود لحرية التعبير؟؟

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

من المفاهيم الشائعة في ثقافتنا العربية أننا مع حرية التفكير والتعبير ولكن بحدود..

تبدو هذه العبارة براقةً في ظاهرها..ولكن هل ينبغي أن تكون هناك حدود لحرية التفكير أو التعبير بالفعل ؟..

بدايةً فإننا نقصد بحرية التعبير ما كان تعبيراً عن قناعة عقلية سواءً كانت تتفق مع ديننا أو تختلف معه، ولا يدخل في باب حرية التعبير السخرية والتهكم كالرسوم الكاريكاتورية أو الإخلال بالآداب العامة كأن يتجرد المرء من ثيابه أو يجاهر بالفاحشة، فهذه ليست آراءً أصلاً، بل هي جرح لمشاعر الآخرين..

التعبير هو صنو التفكير..فما دام الإنسان يفكر فلا بد أن يعبر ..وإذا لم يعبر الإنسان عن أفكاره ضاق صدره، وشعر بالاختناق..وفي كلام موسى عليه السلام مع ربه تتضح هذه العلاقة: "ويضيق صدري ولا ينطلق لساني"..فعدم انطلاق اللسان للتعبير عما يجيش في النفس يؤدي إلى ضيق الصدر، وقد امتن الله عز وجل على الإنسان بأن علمه البيان "خلق الإنسان علمه البيان"..

والتفكير بطبيعته لا يعرف الحدود، فعقل الإنسان يفكر في كل الاتجاهات. والأسئلة تقفز على أذهاننا فجأةً دون أن تنتظر إذناً بالدخول..فالإنسان لا يستطيع أن يقيد تفكيره بقيود ومحددات، أن يفكر في هذا الاتجاه ولا يفكر في الاتجاه الآخر..

الصحابة كانت تخطر ببالهم أسئلة في جميع الاتجاهات وكانوا يبوحون بها للرسول صلى الله عليه وسلم فلم يكن يرد منها سؤالاً وإنما كان يجيب عليها بالحجة العقلية ولم يرد في سيرته يوماً أنه أسكت صحابياً لأنه يسأل، وأتحدى من قال غير ذلك أن يأتيني بدليل واحد..

بل في القرآن ذاته وهو كتاب الله رب العالمين كان يعرض أقوال الكفار ويرد عليها بالحجة والبرهان، فهو كتاب محاججة عقلية، وكان الله قادراً على أن يرد على هؤلاء الكفار بالقول إنني أنا الله رب العالمين وعليكم أن تؤمنوا بي أو أن أعذبكم، ولكنه عز وجل يريد أن يعلمنا نحن البشر القاصرين المخطئين أن نؤسس علاقاتنا على الإقناع وليس على الإسكات..

القرآن زاخر بالأدلة العقلية لإثبات ألوهية الله، والشبهات التي يعرضها الناس يرد القرآن عليها رداً إقناعياً وليس رداً سلطوياً..حتى في تلك الحالات التي كان البشر يسيئون فيها إلى خالقهم فإنه لم يكن يتخلى عن منهج المحاججة العقلية، فحينما قال اليهود بحق الله عز وجل قولاً عظيماً "يد الله مغلولة"..رد عليهم رداً علمياً وليس رداً انفعالياً غاضباً: "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"..ولنا أن نقارن بين هذا الرد الإلهي القائم على الإقناع وإزالة الشبهات، وبين رد أحدنا حين يشتم فإنه سيتخلى عن لغة المنطق والحجة ويرد الشتيمة بأضعافها..

صحيح أن الله لعن اليهود بهذا القول "غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا"، ولكن هذا اللعن هو حق إلهي كونه هو الخالق وهو الذي يعلم ما في الصدور، ويعلم أن قول اليهود لم يكن انطلاقاً من قناعة عقلية، بل هو جحود ونكران، ولكن حتى حين لعنهم فإنه لم يتخل عن المنهج الثابت بالرد الإقناعي العقلي "بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء"..

********

ما دام التفكير حراً بطبعه ولا يعرف الحدود فإن التعبير أيضاً يجب أن يكون حراً، فمن حق أي إنسان أن يعبر عما يجيش في صدره، وأن يتساءل، ومن حقنا أن نرد عليه ونبطل شبهاته بالحجة، ولكن ليس من حقنا أن ننهاه عن التساؤل لأننا إن فعلنا ذلك فلن يتوقف عن التفكير، وكل ما نكون قد فعلناه هو أننا خلقنا حالةً من الانفصام والازدواجية بين باطن المرء وظاهره، وبذلك فإننا نشجع النفاق ونقتل روح الإنسان، ونقضي على جو التفكير السليم..

أن يعبر كل إنسان عما يجيش في خاطره من أفكار فهذا هو الجو الصحي السليم الذي يخلق الإبداع ويثري الأفكار، لكن أن نكبت حرية التعبير وأن نلوح بسيف التهديد للناس إذا عبروا عما لا تهواه أنفسنا فإننا بذلك نغذي عناصر التوتر في النفوس، ونخلق لنا أعداءً في الخفاء يكون خطرهم أعظم مما لو كانوا تحت ضوء الشمس.



قد ننجح في إسكات الناس عن التعبير عن أفكارهم وطرح تساؤلاتهم، ولكننا أبداً لن ننجح في تغيير قناعاتهم أو في كسب قلوبهم، أو في الاستفادة من إبداعاتهم في تطور المجتمع "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".

********

حتى في الدائرة الضيقة التي نهى الإسلام عن التفكير فيها وهي التفكير في ذات الله، فإن هذا لا يمكن الاستشهاد به بأن هناك حدوداً لحرية التفكير أو حرية التعبير، لأن هذا النهي قائم على حجة عقلية أيضاً وهي أن الذات الإلهية فوق قدرة البشر على التصور، فلا توجد في متناولنا الأدوات التي يمكن الاستعانة بها في هذا التفكير، فهو تفكير لا يقوم على أساس علمي..والإنسان بحكم قصوره لا يستطيع تخيل شيء إلا وفق عناصر أولية متاحة له، فلو طلبنا منك أن تتخيل مخلوقاً غريباً فإنك ربما تتخيل كائناً له ثلاثة عيون مثلاً، أو ثلاثة أرجل، ولكنك حتماً لن تستطيع أن تخرج في تخيلك من دائرة العناصر الأولية المتاحة، فالأرجل والعيون نعرفها لذلك صرنا قادرين على تخيلها، وكل ما فعلناه هو أننا أعدنا ترتيبها أو غيرنا كميتها، ولكننا لم نتخيل شيئاً جديداً بشكل كامل..لكن الذات الإلهية ليس لها مثيل في كل مألوفاتنا، ولا يوجد في متناولنا ما يمكن الاستعانة به لنتمكن من تخيلها لذلك فإن النهي عن التفكير فيها ليس نهياً استبدادياً بل هو قائم على حجة عقلية "فإنكم لن تقدروا قدره"..

*********

سيقول فريق من الناس إن فتح الباب أمام حرية التعبير دون قيود سيتيح الفرصة لأصحاب الفكر المنحرف لإفساد عقول الناس، وهذا الرأي يديننا قبل أن يدين هؤلاء المنحرفين، لأننا نفترض أن الحق الذي بين أيدينا ضعيف ولا يستطيع مواجهة الباطل، والواثق من قوة حجته لا يخشى المواجهة الفكرية، فالحق يستمد قوته من ذاته وليس من إسكات الآخرين، وحين تكون الفرصة متكافئةً بين الحق والباطل للتعبير عن نفسيهما فإن الغلبة ستكون للحق، لذلك كان الكفار هم من يرفض مبدأ الفرص المتساوية للتعبير وليس النبي محمد "وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"..

إن الواثق من حجته يرحب بطرح الأسئلة ولا يخشى منها، لأن هذه الأسئلة ستحفز عقله للتفكير للبحث عن إجابات عنها، وبذلك يكون الانتماء للدين هو انتماء على بصيرة، فإثارة الشبهات من شأنه أن يقوي حجة الإسلام لا أن يضعفها..

لو كان الرأي القائل بعدم فتح الباب للتساؤل صالحاً لزمان مضى فإنه لن يصلح في زمان الفضاءات المفتوحة الذي نعيشه..حيث تهب الأفكار من كل حدب وصوب وتغزو بيوتنا، ولم يعد يجدي أن نحجر على حرية الناس في التساؤل والتفكير، بل بات من الملح أن نبحث عن إجابات لكل الأسئلة المطروحة حتى تلك الحرجة منها إن أردنا إنقاذ أنفسنا من التلاشي..

والله أعلم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق