"بل الإنسان على نفسه بصيرة"
آلية التبرير وكيف يخدع الإنسان نفسه؟؟
أحمد أبورتيمة
التبرير من الحيل النفسية اللا شعورية التي يلجأ إليها الإنسان ليقدم لنفسه أعذاراً أخلاقيةً لعمل غير أخلاقي، ويهدف الإنسان من وراء آلية التبرير إلى القضاء على حالة القلق الداخلي وتحقيق الاستقرار النفسي..
والإنسان مهما حاول فإنه لا يستطيع أن يعاند فطرة الله المغروسة في أعماقه، فيسعى إلى حالة من الوفاق والانسجام مع هذه الفطرة، لذا فإنه يبحث دائماً عن مبرر أخلاقي لكل عمل يقوم به ليسكت تأنيب ضميره، ويقضي على حالة الصراع الداخلي..
لو تأملنا في سلوك أنفسنا وسلوك الناس من حولنا فإننا نرى أن البحث عن مسوغ أخلاقي هو ضرورة لا بد منها للقيام بأي عمل، فمثلاً حين يعتدي شخص على شخص آخر فإنه يقول: (لقد أوسعته ضرباً..كان يجب أن أعلمه الأدب)..نفهم الشق الأول من هذه الجملة فهو حديث في تقنية الهجوم، لكن ماذا عن الشق الثاني "كان يجب أن أعلمه الأدب"..لماذا يدخل الناس في أحاديثهم مثل هذه التعبيرات، مع أنها لا تؤثر في تقنية العمل، ولا توجد ضرورة للنطق بها خاصةً حين يكون الحديث في المجالس المغلقة وليس أمام الناس..إن التفسير المنطقي لمثل هذه الكلمات التي نستعملها بكثرة هو أننا نبحث عن مسوغات أخلاقية لتبرير أعمالنا، وإقناع أنفسنا بصحة تصرفاتنا وموافقتها للحق والعدل..
إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش في حالة من تأنيب الضمير والصراع الداخلي، فيلجأ إلى تقديم مبررات يخادع بها نفسه لتسكينها، أي أن الإنسان لا يكتفي بخداع الآخرين والكذب عليهم بل يخدع نفسه أيضاً ويكذب عليها..
وقدرة الإنسان على البحث عن مبررات لأفعاله قدرة عجيبة..فمهما كان فعل الإنسان منافياً للحق والعدل فإنه لن يعدم إيجاد المسوغ الأخلاقي له..مثلاً حين يسرق السارق يبرر هذه السرقة لنفسه بالقول "كل الناس يسرقون"، أو بالقول: "هذا الشخص غني ولن تضره سرقتي"، أو إذا كان شريكاً مع شخص آخر في السرقة فإنه يقول: "كان دوري ثانوياً، والآخر هو الذي يتحمل المسئولية الأكبر"، وإذا كان المسروق منه فقيراً لم يعدم السارق البحث عن مبرر آخر كيلا يؤنبه ضميره فيقول لنفسه مثلاً "كان يجب أن أفعل ذلك لأعيش"، وإذا ارتكب مجرم جريمة قتل بررها بالقول "هو أجبرني على ذلك"..
هذه الآلية التبريرية كانت حاضرةً في اجتماع إخوة يوسف حين تآمروا على أخيهم الغلام البريء، فكان لا بد من البحث عن مسوغ أخلاقي يجمل قبح جريمتهم في أنفسهم، ويكون عوناً لهم حتى لا يترددوا في تنفيذها فكان هذا المسوغ: "يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين"، ويبدو أن هذا المسوغ لم يكن كافياً ليحقق لهم الاستقرار النفسي، ويخلصهم من وطأة الذنب، فكان لا بد من إيجاد مبرر آخر يخدعون به أنفسهم ليسكتوا صوت الفطرة الذي يقض مضاجعهم فكان هذا المسوغ بعد سنوات طويلة: "إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل"..
في آلية التبرير يكون الإنسان قد اتخذ موقفاً مسبقاً، ثم بعد ذلك يبحث عن مدعمات لهذا الموقف، فهو لا يتخذ موقفه بناءً على الأدلة والبراهين المنطقية، بل إنه يبحث في هذه الأدلة والبراهين ما يناسب هواه، ويستبعد الأدلة والبراهين الأخرى التي تدينه، كما نرى في القرآن الكريم "وإذ لم يهتدوا فسيقولون هذا إفك قديم"..فالموقف المسبق هو أنهم لا يريدون الإيمان ثم يأتي بعد ذلك مبررهم أنه إفك قديم، وليس أن عدم إيمانهم به كان بناءً على قناعة عقلية، وهذا يقربنا من رأي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي يرى بأن العقل البشري ما هو إلا وسيلة للبقاء مثله مثل خرطوم الفيل وناب الأسد، وليس وسيلةً للبحث عن الحقيقة..
حين يتخذ أحدنا موقفاً جديداً فإنه يستحضر كل الأدلة المعضدة لهذا الرأي مع أن نفس هذه الأدلة كانت قائمةً قبل هذا الموقف ولكنه كان يسقطها ويتجاهلها..
مثلاً إذا كان أحدنا يحب إنساناً فإنه سيتجاهل سقطاته وعثراته ويغض النظر عن عيوبه..ولكن إذا حدث الانقلاب بعد ذلك وتحول الحب إلى كراهية فإنه سيستحضر كل هذه السقطات والعثرات وسيبرزها إلى السطح وهي ذاتها التي كان يسكت عنها، وذلك ليبرر لنفسه موقفه الجديد..
هذا من أعظم الأدلة على عمق آلية التبرير في نفوسنا وأننا نوظف عقولنا لمساندة أهوائنا أكثر مما نستعملها للاهتداء إلى الحق المجرد..
ويبقى رأي الوردي نسبياً يصلح للتطبيق على أكثر الناس، لكن حين يصل الإنسان إلى حالة من الشفافية والصدق فإنه سيمتثل للبرهان وحده مهما كانت الحقيقة بعيدةً عن هواه..
بحث الإنسان عن مبررات أخلاقية لأفعاله لا يقصد منه أن يبرئ نفسه أمام الناس، أو أن يفلت من العقاب، لأنه في حالات كثيرة يرتكب الإنسان جريمته بسرية تامة، ولا تكون هناك مخاوف من اكتشافها، وفي حالات أخرى يكون المجرم صاحب سلطة وقوة لا يخشى معها انتقام الناس منه، ومع ذلك تظل الحاجة قائمةً لإيجاد مبرر أخلاقي، فأمريكا مثلاً حين ترتكب جريمة قتل في بلد فقير ضعيف لا تخشى من انتقامه، ومع ذلك فإنها تربط بين هذا الفعل وبين محاربة الإرهاب والتطرف، والسعي إلى نشر الحرية والعدالة والسلام..
وهذا يدلل على أن هناك دافعاً أعمق من مجرد الهروب من العقاب، وهو الهروب من الفطرة الإنسانية، وإسكات القلق الداخلي الذي يحرم صاحبه من الاستقرار والطمأنينة..
وجود مبرر أخلاقي ضروري للإنسان، ولو لم يكن هذا المبرر موجوداً فسيسعى الإنسان لاختلاق أي مبرر..ومن الأمثلة الصارخة التي تدلل إلى أي مدىً تصل قدرة الإنسان على اختلاق الأعذار لتبرير أفعاله هو تصريح رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير حين قالت "لن أسامح العرب لأنهم يجبروننا على قتلهم"..فحتى حين يكون الفعل موغلاً في منافاته لأي خلق مثل قتل الأطفال فإن هناك قدرةً عجيبةً على استحضار مبرر أخلاقي وهو أن الضحايا هم الذين يجبروننا على ذلك!!...
لذا فإن من التبسيط المخل أن نفترض أننا الحق وأن الآخرين هم الباطل وانتهى كل شيء، وأنهم يحاربوننا من فراغ، بل إن علينا أن ندرس الخارطة الذهنية والتركيبة النفسية لهم ونفهم دوافع إقدامهم على الجريمة، فبينما ننظر إليهم بأنهم مجرمون قتلة، فهم ينظرون إلينا بنفس النظرة ويبررون لأنفسهم قتلنا بأنهم لو لم يقتلوننا فإننا نحن من سيقتلهم..
لكن هذه المبررات التي يختلقها الإنسان لتبرير أفعاله لا تغير الواقع الموضوعي، ولا تقلب الباطل حقاً، ويظل البحث الدقيق والتفكير العميق كفيلاً بأن يعري الإنسان أمام نفسه ويكشف لها الحقائق صارخةً، والإنسان الذي لا يطيق أن يعيش حياة تأنيب الضمير يحاول أن يتهرب دائماً من مواجهة نفسه ومكاشفتها لذلك فإنه يحذر من الخلوة ويسعى إلى إشغال وقته بالضجيج وبمخالطة الناس من أجل أن يسكت هذا الصوت المنبعث من أعماقه، فتقوده هذه المحاولات إلى إسكات صوت الحق المنبعث من داخله إلى الإصابة بداء ازدواجية الشخصية نتيجة عدم تحقيقه التوافق النفسي الذي يبحث عنه لأنه لا يستطيع قتل صوت الصدق والعدل الذي فطره الله عليه مهما حاول ذلك، وتتكون عنده شخصيتان متناقضتان شخصية ظاهرية وشخصية باطنية فلا يجد الراحة الحقيقية التي يبحث عنها، ويظل في حالة صراع وتشتت..
لكن حين يختار الإنسان الصدق مع نفسه فإنه سيخضعها لامتحان عسير ولن يخادع نفسه بمبررات واهية وستسقط كل الأغشية التي تحجب حقيقة نفسه وسيبصر هذه الحقيقة سافرةً بعد أن سقطت المعاذير فيتحقق حينها الانسجام النفسي بين الداخل والخارج، بين القول والفعل بين العقل الباطن والعقل الواعي ولن يظل هذا الإنسان ضحية صراع نفسي يمزقه بل سيكون قواماً بالقسط ولو على نفسه، وهذا الانسجام بين العقل الواعي والعقل اللا واعي هو الذي يحقق الطمأنينة والرضا الداخلي للإنسان ..
لقد أقام الله عز وجل على الإنسان الحجة من داخل نفسه "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره"، فمهما ساق الإنسان من مبررات واختلق حججاً ومعاذير فإن هذه المبررات لا تزيد عن كونها مكابرةً وعناداً وطمساً لنور الحقيقة، وفي لحظات الصفاء النفسي التي يبتعد فيها الإنسان عن ضجيج الحياة وأمواجها المتلاطمة يكون قادراً على التفريق بين ما يؤمن به حقيقةً وما يدعيه ويحاول أن يطليه بطلاء الأفكار والقناعات "يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون"..
والله أعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق