الخميس، 29 سبتمبر 2011

أين رحمة الله؟

محاولة لفهم فكرة الصورة الكاملة

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

يصدم المرء حين يرى حجم المآسي والأحزان التي تمزج حياة البشر، وتلك الأقدار التي كتبت على أكثرهم بأن يتجرعوا كئوس المرارة والحرمان والآلام..

حدثني صديقي عن موقف يدعو للبكاء في إحدى بيوت العزاء حين جاء ابن الرجل المتوفى وهو طفل لم يتجاوز عامه الخامس وأخذ ينقل نظراته في وجوه الحاضرين يبكي وينادي على أبيه، وهو لم يفهم بعد معنى الموت وأنه قد خطف منه أباه إلى غير رجعة، فما كان من الحاضرين إلا أن ذرفت عيونهم بالدموع وهم لا يملكون أن يجيبوا هذا الطفل بشيء..لماذا يكتب على هذا الطفل أن ينشأ محروماً من حنان أبيه وعطفه، وأن يتجرع مرارة اليتم في هذه السن المبكرة..أين رحمة الله في هذا الطفل، ونحن نعلم أن رحمته به أكبر من رحمتنا نحن، فكيف يستقيم ذلك مع أننا نحن البشر لو كنا نملك الأمر لأعدنا لهذا الطفل والده، فلماذا يكتب الله على هذا الطفل وأمثاله لا يحصون عبر التاريخ المعاناة والحرمان..

تشتد الحيرة حين نرى فصلاً آخر من فصول المعاناة الإنسانية، ولكن هذه المرة بفعل فاعل، وليس مجرد قضاء وقدر..حين نرى المجرمين يتمادون في إجرامهم ويطغون في البلاد فيكثروا فيها الفساد ويطول عهد فسادهم وعلوهم وسفكهم للدماء دون أن يحاسبهم أحد..

لقد صدم وعينا بمشهد الفتاة السورية زينب الحصني التي اختطفها المجرمون ومثلوا في جسدها أبشع تمثيل وأشبعوه حرقاً وضرباً وتقطيعاً قبل أن يلقوا بها إلى أهلها..من يرى هذا المشهد يقشعر بدنه وتقف الكلمات عاجزةً لا تستطيع أن توفي هذه الجريمة حقها من البشاعة. حتى أن هول مشاهد التعذيب الممارسة بحق جسدها قد أخرجت بعض ضعاف الإيمان عن رشدهم فقرأت لأحدهم يسأل: أين أنت يا الله من كل هذا، ماذا تنتظر حتى تهلك هؤلاء الظالمين..

لا شك بأننا في مرحلة عصيبة يزلزل فيها المؤمنون زلزالاً شديداً وتبلغ القلوب الحناجر..لكن هل الرب عز وجل في عليائه غافل عن هذه الجرائم الهائلة، وهل أعرض عنا وترك لهؤلاء الظالمين أن يصولوا ويجولوا ويعربدوا إلى الأبد..

من أين يأتي الخلل؟؟

مكمن الخلل يأتي من رؤية الصورة الجزئية، واقتطاعها من الرؤية الكلية الشاملة فيبدو المشهد عبثياً مثيراً للاستغراب والتناقض، وهذا الشعور بالتناقض لا يزول إلا برؤية الصورة الكلية والسياق الكامل..

لتوضيح المثال نستشهد بلعبة إعادة ترتيب الأجزاء أو ما تسمى بلعبة puzzle..فهذه اللعبة التي تتكون من أجزاء تكون أحياناً بالمئات فإذا تناولت منها أحد قطعها مجتزأةً فإنك لن تفهم منه أي معنى وسيوحي لك بالعبثية، ولا تظهر قيمة هذا الجزء إلا ضمن الصورة الكاملة حين يعاد ترتيبها..

هذه القطعة مع أنها غير محددة الملامح وعبثية في مظهرها إلا أنها ضرورية ولا تكتمل الصورة إلا بها..

ولو حدث أن فقدنا إحدى هذه القطع رغم ما يظهر من عدم جدواها فإن الصورة الكاملة ستتأثر ويتشوه جمالها وتناسقها..

كذلك مثل التاريخ الإنساني فهو صورة كاملة تتكون من قطع صغيرة جزئية، هذه القطع لا تظهر قيمتها إلا إذا وضعتها ضمن منظور شامل كلي..

وحتى نرى الصورة الكاملة فإنه لا بد من أن نحافظ على مسافة فاصلة بين ذواتنا ومشاعرنا البشرية وبين الواقع الموضوعي، وألا نسمح للعواطف بأن تستغرقنا وتتحكم فينا، هذه المسافة الفاصلة ضرورية لرؤية الصورة الشاملة، فإذا طلب من أحدنا أن يصف الشكل الخارجي الإجمالي لبيت وهو بداخله فإنه لن يستطيع ذلك إلا إذا خرج من هذا البيت ونظر إليه من مسافة كافية..

في إحدى القصص الرمزية يقال إنه طلب من أربعة عميان أن يتحسسوا فيلاً ويصفوه، فمن لمس منهم ذيل الفيل وصف الذيل ظاناً أن هذا هو كل الفيل، ومن لمس خرطومه وصف الخرطوم، ومن لمس أذنيه وصف الأذنين، ومشكلة هؤلاء العميان أنهم لم يحيطوا بالصورة الكاملة للفيل، فوصفوا أجزاءً مقتطعةً منه.

كذلك هي أحداث التاريخ فإن من يعيش في خضم تفاصيلها ويكوى بنارها فإنها تستنزف مشاعره حتى لا يكون قادراً على رؤية الصورة الكاملة، وإدراك السياق التاريخي لها، لكن بعد مرور عقود أو قرون تبدأ ملامح الصورة بالتشكل والاكتمال ويدرك الإنسان ما لم يكن قادراً على إدراكه بالأمس..

خذ مثالاً على ذلك من الحربين العالميتين الأولى والثانية وما اشتملته من فظائع ومجازر مروعة.. كم من الدماء نزفت فيهما، وكم من الأطفال تيتموا، وكم من النساء ترملت، وكم من الدموع سكبت، وكم من المدن دمرت..ما الحكمة من كل هذا المقدار من المعاناة والألم..

لم يكن أحد قادراً على تصور وجود أي فائدة من هاتين الحربين الطاحنتين في خضم دوي المدافع وقصف الطائرات، لكن بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبدأ الناس يعودون إلى رشدهم، فإننا صرنا قادرين على تلمس منحة من قلب المحنة، وأن هاتين الحربين على قساوتهما البالغة فإنهما لا يخلوان من فائدة تاريخية..

فهاتان الحربان العالميتان أدتا إلى كسر غرور الإنسان، وإقناعه بعبثية خيار الحرب وسفك الدماء، وأن للقوة سقفها الذي لا يستطيع تجاوزه، وأن طريق العنف هي طريق مسدود لا تنتج حلاً، وأدت هاتان الحربان إلى تعزز خيار الحلول السلمية وتراجع خيار الاعتماد على الحروب، كما شكلت هاتان الحربان دافعاً للدول الغربية لإنشاء الاتحاد الأوروبي ليحل التفاهم محل المواجهة، وهكذا أخرج الله الحي من الميت فولد الاتحاد الأوروبي من رحم الموت والقتل..

لكن هذا التفسير بدوره يظل تفسيراً نسبياً هدفنا منه إلى تقريب فكرة الصورة الشاملة إلى الأذهان، بينما الصورة في إجمالها لا تزال مروعةً قاسيةً، فهذه الفوائد على أهميتها لا تبرر إزهاق أرواح عشرات الملايين، ولا يعد ثمناً مقبولاً لها أن تدك المدن دكاً بالطائرات، وسبب هذا القصور هو أن الدنيا بمجملها تظل نسبيةً مجتزأةً لا يمكن فهمها والإحاطة بها إلا في إطار أوسع، وحين نتناول الأحداث بمنظور دنيوي وحسب فإن تفسيراتنا ستظل ناقصةً قاصرةً عاجزةً عن فك الكثير من الأسرار والألغاز..

فالملايين الذين قتلوا ظلماً عبر التاريخ لن يعودوا إلى الحياة مهما كانت الفوائد التي تحققت بعد مقتلهم، ومهما ألحقنا بالمجرمين من أمثال هتلر وشارون وبوش والقذافي من عقوبات فإنها تظل عقوبات ناقصةً لا توفي بحق من طالهم إجرامهم، فأي قتلة يمكن أن تعدل قتل الملايين الذين سفك هؤلاء دماؤهم..

هنا تأتي أهمية الإيمان باليوم الآخر وبالحساب والعقاب فيه، فهذا الإيمان يلبي حاجةً فطريةً في الإنسان لإشعاره بعدالة هذا الوجود، ودون الإيمان بهذا اليوم فسيظل الإنسان في حالة من الشعور بالتناقض والعبثية والقلق "وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ"..

إن الإيمان باليوم الآخر هو قطعة الpuzzle التي لا بد منها لرؤية الصورة الكاملة، ودون هذه القطعة فستظل الصورة مجتزأةً مشوهة..

حين يؤمن الإنسان بأن هذه الدنيا ليست نهاية المطاف، وأنها مجرد الخطوة الأولى في طريق شاق وطويل ينتظره لن ينتهي به إلا بالجزاء العادل على كل صغيرة وكبيرة فعلها إن كانت خيراً أو شراً فإن ذلك سيضفي عليه راحةً وطمأنينةً، وسيوفر له إجابات على أسئلته الوجودية الحائرة..

إن الإيمان بالمطلق ضروري لفهم النسبي في إطاره، ولو قدر لأحدنا أن يرى هذا الطفل الذي حرم من أبيه بعد ستين عاماً من الآن وهو رجل أعمال ناجح في حياته، وكيف كانت هذه المعاناة دافعاً له على الجد والمثابرة فسيدرك حينها أن كل صغيرة وكبيرة فإنها مقدرة لحكمة بالغة..

البشر بطبيعتهم محدودو النظر لأنهم يرون الأمور رؤيةً جزئيةً مما يؤدي إلى التعجل في إصدار أحكام خاطئة "بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة"، "سأريكم آياتي فلا تستعجلون"..

إن الله عز وجل أرحم بعباده منهم بأنفسهم، لكن الفرق بين رحمته ورحمتنا هو أن رحمته صادرة من علمه وإحاطته الشاملة المطلقة، بينما رحمتنا تستند إلى عواطفنا وتسرعنا، والبشر بطبيعتهم يتعجلون النتائج بينما الله عز وجل ينظر إلى عاقبة الأمور وصيرورتها النهائية "ولله عاقبة الأمور"..

إن مثل الاتحاد الأوروبي لا يكفي لشرح الفكرة شرحاً شاملاً ولكنه يعطي إشارات تقريبية تزيد الذين آمنوا إيماناً بأن ما يبدو عبثاً في حينه فإن الحكمة ستتضح منه ولو بعد حين..

"وإلى الله تصير الأمور"..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق