الخميس، 22 سبتمبر 2011


المؤمن لا يسعه إلا أن يكون ثائراً

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

الإيمان ليس مظاهر طقوسيةً خاليةً من الروح يؤديها صاحبها بشكل روتيني ممل، والإيمان ليست تلك الدروس النظرية التي يلقيها المشايخ التقليديون ويستفيضون فيها بشرح أقسام التوحيد من ألوهية وربوبية وأسماء وصفات، وما هي نواقضه من قبيل السجود للأحجار والأشجار، أو زيارة القبور أو التوسل لأولياء الله، فهذه أشكال ساذجة من الشرك تجاوزها كثير من البشر، ولم تعد هي القضية الأهم في عالم اليوم..

القرآن يؤكد في ثنايا كل آية من آياته على حقيقة لا إله إلا الله، وكل الأنبياء أرسلوا بهذه الكلمة العظيمة التي هي أساس الدين كله، فهل يعقل أن يكون كل هذا الثقل والمساحة التي أفردها القرآن هي لقضية أصبحت على هامش الحياة في عصرنا هذا..

لو كانت قضية التوحيد والشرك كما يتناولها أصحاب الفكر التقليدي المتحجر بأنها هي السجود للأحجار والأشجار وحسب لكانت قضيةً على هامش الحياة، ولما حافظت على قيمتها الكبيرة في عصرنا الحديث الذي يزداد توجه البشرية فيه نحو المدنية والانعتاق من الأيديولوجيات الجامدة..

إن قضية التوحيد التي تحتل كل هذا الثقل في القرآن الكريم لا تزال هي قضية البشرية الأولى، ولكن ليس بذلك المعنى القاصر والمخل الذي يتناوله بها أصحاب الفكر الجامد..

نعلم أن القرآن هو كتاب خالد لكل زمان ومكان، وهذا يقتضي أن تكون المشكلات التي يعالجها هي مشكلات إنسانية عامة تواجهها البشرية في كل زمان ومكان أيضاً، فكيف نفهم قضية التوحيد التي تحتل الصدارة في القرآن الكريم في هذا العصر فهماً يحافظ على إشراقها وحيويتها؟!

في عصر تتجه فيه الشعوب نحو المدنية وتنعتق من أغلال الأيديولوجيات يصبح من الضروري فهم قضية التوحيد فهماً مدنياً واقعياً، ليس بالتكلف وتحميل الألفاظ ما لا تحتمل من معان لنظهر أنفسنا للناس بأننا عصريون، بل بتدبر بسيط في المعاني التي تضمنتها هذه الكلمات في القرآن الكريم..

"لا إله إلا الله" في حقيقة معناها هي عقيدة ثورية ورسالة إصلاح اجتماعية وسياسية، فمن يؤمن إيماناً حياً، وليس مجرد إيمان طقوسي بأنه لا إله إلا الله فإنه لن يسعه بعد ذلك إلا أن يتمرد على كل أغلال العبودية، ويحطمها، ويأبى الضيم والذل والهوان..

كلمة لا إله إلا الله في معناها القريب والمباشر هو أن أحداً لا يملك الضر ولا النفع ولا الموت ولا الحياة ولا النشور ولا الرزق سوى الله، ومن كان هذا هو معتقده فإنه لن يسمح لأحد أن يبتزه في مصدر رزقه، أو أن يهينه في كرامته..

الإيمان يحرض في النفوس كوامن الثورة فمن يقرأ قول الله تعالى "إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم" لن ينظر بعد ذلك إلى السادة والكبراء والملوك والوزراء نظرةً تخرجهم من بشريتهم إلى مصاف الألوهية، ولن يصغر نفسه ويحقرها استجداءً لرضاهم، فهم لا يزيدون عن كونهم عباداً أمثاله لا يملكون أن ينفعوه أو يضروه..

الإيمان يحرر الإنسان تحريراً نفسياً عميقاً فيشعره بالطمأنينة والرضا والسعادة لأنه قد علم بأنه ليس لأحد من سلطان عليه، وأنه هو سيد لنفسه، ولا يخضع إلا لإله واحد أحد صمد مطلق.

فلسفة تحرير الإنسان في القرآن تنبع من داخله، ولا تهدى إليه، فحرية الإنسان هي قراره الذاتي، وكل الظروف والعوائق لا تستطيع أن تحول بين إنسان وبين قراره بأن يكون حراً، ومن يتطلع إلى الحرية فرداً كان أو شعباً فإن المطلوب منه هو شيء واحد وهو أن يمارسها، لا أن ينتظر مهدياً أو مسيحاً أو مخلصاً أو خليفةً أو صلاحاً..ربما يستطيع الطغاة أن يسجنوا إنساناً أو يقتلوه، ولكنهم أبداً لن يستطيعوا أن يغيروا قناعاته بوسائل بطشهم، فإذا قرر إنسان بأنه حر صار حراً بالفعل.

حين يتحرر الناس من الداخل فإن هذه هي الخطوة الأولى والحاسمة لعملية تحرير شاملة في الميدان الاجتماعي والسياسي..فالتوحيد بهذا المعنى الحي يؤسس لعلاقات سوية بين بني البشر تقوم على المساواة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، وإلغاء الطبقيات، وعدم تقديس الأفراد مهما علا شأنهم..

إن مشكلة البشر اليوم لا تزال هي مشكلة الشرك، تماماً كما كانت هذه هي مشكلتهم زمن الأنبياء، وفي كل زمان، ولكن شرك اليوم ليس هو ركوع الجسد أمام الأصنام الحجرية والشجرية والبشرية، بل هو خضوع النفوس للمستكبرين في الأرض الذين يقولون للناس اتخذونا آلهةً من دون الله..

إن أصنام اليوم لم تعد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى بل هي الحكام المستبدون الذين يقولون للناس نحن بيدنا الموت والحياة، وبيدنا الضر والنفع، ونحن نملك أن نرزقكم، ونحن لا معقب لحكمنا وبيدنا الأمر..

والشرك الأكبر في هذا العصر كما يقول المفكر جودت سعيد هو حق الفيتو في مجلس الأمن الذي ينصب خمسة آلهة كبار لا يريدون أن يكونوا على قدم المساواة مع بقية الدول، فإذا أجمعت البشرية كلها على أمر فإن دولةً واحدةً تستطيع بهذا الحق الباطل أن تلغي إرادة هذه الشعوب وأن تمضي رأيها دون أن يكون هناك معقب لحكمها..

وهل التأله في الأرض إلا أن يتعالى الإنسان على البشر ويظن أنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون..

معنى التوحيد هو معنى متجدد وخالد له في كل عصر تطبيقاته، ومن يتشرب هذه المعاني فإنه يكتسب طاقةً تحرريةً يكسر بها القيود والأغلال ويتمرد على واقع الظلم والاستعباد، وينادي في الناس برسالة القسط والعدل "ألا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله"..

لقد أنتج التوحيد في تاريخ الإسلام نموذج بلال بن رباح وكلمته الخالدة أحد أحد حين تحدى بها سلطان السادة والكبراء، وها هو ينتج في زماننا نماذج مشرقةً تسير على خطى بلال وهي تتحدى سلطان المتألهين في الأرض وتهتف حرية حرية..

ولأن التوحيد عميق في فطرة النفس الإنسانية فإنه يعبر عن نفسه حتى عند غير المسلمين، فحين تخرج الشعوب غير المسلمة وتسقط حكامها المستبدين فإنها بذلك تؤكد حقيقة التوحيد وأن هؤلاء الحكام ليسوا آلهةً من دون الله..

إن الشباب البسطاء الذين يخرجون في الميادين العامة ويهتفون ضد الاستبداد والاستعباد هم أقرب لمعنى التوحيد من المشايخ المعممين أصحاب الفكر التقليدي الذين يشرحون هذه المعاني العظيمة بأسلوب بارد وجاف متجمد في التاريخ يفقدها روعتها ويفرغها من فعاليتها النفسية والاجتماعية والسياسية..

ولا غرابة في ذلك فهذه هي سنة الله في الذين خلوا من قبل بأن من يحمل لواء التجديد دوماً هم الناس البسطاء الذين لا يؤبه لهم، وليس أصحاب المكانة الاجتماعية ممن يسمون أنفسهم عظماء أو مثقفين أو نخبةً وغير ذلك "أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا"، وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي"، "لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"..

إن حقيقة الإيمان لا ترضى لصاحبها إلا أن يكون ثائراً رافضاً للانصياع للمستكبرين في الأرض عزيز النفس "ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين"..

والحمد لله رب العالمين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق