عيد الأضحى والتضحية بالإنسان
أحمد أبورتيمةفي كل عام يتقرب المسلمون إلى الله عز وجل بإراقة دماء الأضاحي في عيد الأضحى، وهذه السنة ليست مجرد طقس خال من المعاني والدلالات فمثلها كمثل كل شرائع الإسلام رمز لمعان عميقة..
الأضحية هي سنة أبينا إبراهيم عليه السلام قبل حوالي أربعة آلاف عام من الآن، واستشعار المسلمين لحادثة وقعت في ذلك الزمن البعيد يعني أننا أمة تضرب جذورها عميقاً في التاريخ، فنحن لسنا أمة مصطنعة ما لها من قرار، وهذا الشعور بالانتماء إلى إبراهيم، وقبله إلى كل الأنبياء بدءً من آدم يساهم شعورياً ووجدانياً في تشكيل شخصية الإنسان المسلم الواثق من نفسه المعتز بهويته الذي يشعر بالمعنى في حياته..
بدأت القصة حين رأى إبراهيم في المنام أنه يذبح ولده، وكانت سنة تقديم القرابين البشرية منتشرةً في ذلك الزمان على نطاق واسع، إذ كانت ثقافات الشعوب ترى في تقديم القرابين البشرية استرضاءً للآلهة وتسكيناً لغضب الطبيعة من حولها، فكان البشر يلجأون إلى التضحية بأعز ما يملكون وهي النفس البشرية لاتقاء غضب الآلهة التي يعبدونها من دون الله، كانت هذه العادة السيئة منتشرةً في حضارات اليونان والرومان والفراعنة، وفي المكسيك كانت حضارة الأزتيك تقدم كل عام خمسين ألف قربان بشري إرضاءً للآلهة!!..
في هذا السياق التاريخي جاءت قصة إبراهيم عليه السلام تبشيراً بتحول تاريخي يتمثل في إلغاء فكرة القرابين البشرية، واستبدال التضحية بالحيوان بها، ففدى الله عز وجل إسماعيل بذبح عظيم..
لكن موعظة التاريخ تقول لنا إن البشر يتعلمون بأبطأ من سير السلحفاء، فلا تكفيهم إشارة لالتقاط الدرس، كما كفت إبراهيم عليه السلام حين امتثل لإشارة لطيفة في المنام، لذا فإن واقع البشرية بعد أربعة آلاف عام من بعثة إبراهيم عليه السلام هو أبعد ما يكون عن ملة إبراهيم "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"..فلا تزال القرابين البشرية تقدم بسخاء إرضاءً للآلهة المزيفة التي تعبد من دون الله..
في بلادنا العربية تسفك الدماء غزيرةً على مذبح الشعارات الكاذبة، والأصنام البشرية والأيديولوجية، ومع أن الناس يزعمون بأنهم موحدون بالله إلا أن فكرة القرابين البشرية تنقض أساس التوحيد، وذلك لأن التضحية بإنسان في سبيل حزب أو أيديولوجيا أو زعيم يعني أن هذا الحزب أو الأيديولوجيا أو الزعيم إله يعبد من دون الله، والله عز وجل قدس حياة الإنسان وجعل زوال الكعبة حجراً حجراً أهون من قتل امرئ مسلم، وحين تذكر الكعبة تحديداً، ففي ذلك إلغاء لفكرة الصنمية والوثنية التي ضحي بالإنسان عبر التاريخ في سبيلها، وإظهار بأنه لا شيء أغلى من حياة الإنسان، فهو خليفة الله في الأرض الذي نفخ فيه من روحه وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه..فلا يبرر قتل إنسان بأي شعار وطني أو قومي أو أيديولوجي، وكما قال أحدهم: لو كان تحرير القدس يمر عبر قتل النظام السوري لشعبه فلا خير في تحرير القدس..
نرى مشاهد مروعة للتضحية بالإنسان في بلاد عربية خاصةً في سوريا واليمن، وتظهر مقاطع الفيديو كيف يذبح الشباب والأطفال كما تذبح الخراف، ونسمع كلمة الشرك بواحاً حين يتخذ الزعيم إلهاً من دون الله..كل ذلك إرضاءً لأصنام أيديولوجية وحزبية لا تضر ولا تنفع.
واقع المسلمين اليوم هو أنهم أحيوا الطقوس والمظاهر بينما قتلوا الروح التي من أجلها كانت الشعائر والمناسك، فبينما تجد إظهاراً لورع كاذب بالإكثار من السؤال حول الشروط الواجب توفرها في الأضحية، فيما يذكر بأسئلة بني إسرائيل عن البقرة، تجد غفلةً عن المعنى العميق الذي شرعت الأضحية من أجله، والقرآن يتطرق إلى هذا الموضوع تحديداً بشكل صريح حين يقول "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم"، فقيمة الشعائر هي بما يترتب عليها من آثار نفسية واجتماعية، وليس بمظاهرها..
المعنى العميق للأضحى ليس أن يشتري أحدنا أضحيةً ببضع مئات من الدولارات، فلو كان الأضحى لهذه الغاية فإن في مقدور كثيرين أن يضحوا في العام عشر مرات دون أن يكلفهم شيء من المشقة، لكن درس الأضحى هو أن يضحي كل امرئ بنقطة ضعفه كما ضحى أبونا إبراهيم بنقطة ضعفه الأبرز وهو تعلقه بولده إسماعيل، وكما كان لإبراهيم إسماعيله فإن لكل واحد فينا إسماعيله الخاص المتمثل في نقطة ضعفه حسب تعبير عدنان إبراهيم، فهذا ما يجب أن نضحي به، أن يضحي كل واحد بشهواته وأهوائه ونقاط ضعفه..
إن الذين يذبحون الإنسان في سوريا واليمن لم يفقهوا درس الأضحية حتى وإن أحيوا ظاهرها بذبح الأنعام..
لكن رغم هذا المخاض الأليم، ورغم التضحيات الهائلة فإن الله عز وجل وعد بأن يتم نوره ولو كره الكافرون، والتاريخ البشري يسير في اتجاه تقدمي، ففي أوروبا قدمت أرواح عشرات الملايين من الأنام قرابين بشرية من أجل لا شيء في حربين عالميتين طاحنتين، وبعد أن ذهبت السكرة وجاءت الفكرة اقتنع الناس هناك بأن طريق الحرب والعنف هي طريق مسدود لا تقود إلا للهلاك فأسسوا الاتحاد الأوروبي على أساس الشراكة والمساواة والحلول السلمية والبعد عن الاحتكام للسلاح، وسيكبر نموذج الاتحاد الأوروبي حتى يشمل العالم كله، لأن تقدم الأيام يرسخ أكثر فأكثر القناعة بعبثية خيار الحرب وسفك الدماء، وما نراه من ثورات عربية مباركة يبعث الأمل بغد أفضل يحترم فيه الإنسان وتعود له قداسته وكرامته..
بالتزامن مع عيد الأضحى يجتمع في كل عام ملايين الناس من مختلف الثقافات والألسنة في تظاهرة سلمية كبيرة يلبسون ثوباً أبيض وتتجسد بينهم قيمة المساواة الإنسانية، ويحرم على أحدهم أي شكل من أشكال العنف سواءً بحق الإنسان أو الحيوان أو الطبيعة، وهذا الدرس السنوي المكثف هو نموذج للبشرية حتى تستلهم منه درس السلام لتغدو الأرض كلها كعبةً كبيرةً ينعم فيها الناس بالأمن والسلام..
"ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق