أحب الحرية والانطلاق..أبغض التأطير والتحديد والتقييد، فهو مناف للطبيعة البشرية التي نفخ الله فيها من روحه..لا أعترف بالطوائف والمذاهب والأحزاب والأيديولوجيات الجامدة..أنا إنسان مؤمن القلب وكفى
الجمعة، 26 نوفمبر 2010
فلسفة العيد كما أفهمها
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
الدرس الأهم الذي أفهمه من العيد هو أن الإنسان يتعبد ربه حتى باللهو واللعب، وفي هذا دلالة فلسفية عميقة، فأن تكون الفرحة عبادة كما أن الصلاة والصوم والتعب عبادة في مواضع أخرى فهذا هو مفهوم التوحيد والوسطية.
التوحيد يعني أن يتحرر الإنسان من الخضوع لأي شيء من دون الله سواءً كان هذا الشيء مادياً أو معنوياً. فلا يخضع لحجر أو شجر أو بشر، وكذلك لا يخضع للهيئات والأحوال فتكون هي الغاية من دون الله..لأن الخضوع للشيء هو نوع من عبادته وهو بداية الإشرك مع الله..
ربما يكون واضحاً كيف يخضع الإنسان لهواه الظاهر من مال أو شهوة أو سلطان، ولكن كيف نفهم خضوع الإنسان للهوى الخفي فتتحول صور العبادة التي افترضها الله عليه من كونها عبادةً وقربى إلى كونها اتباعاً للهوى؟
يحدث ذلك إذا تحولت من كونها مجرد وسيلة إلى الله إلى غاية مقصودة بذاتها.مثلاً الصوم هو خضوع لله ونحن نفهم كيف أن الإفطار في رمضان هو مخالفة لأمر الله. ولكن كيف نفهم التشديد على ضرورة التعجيل في الإفطار حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم إن الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطور..
ما هي كل هذه الأهمية لتعجيل الفطور حتى يجعله النبي مؤشراً على خيرية الأمة؟
الجواب والله أعلم أن التعجيل بالفطور يعني أن الإنسان ملتزم بالإسلام من طرفيه فهو في حالة التوازن والوسطية، ملتزم بالصوم أولاً، لكن هذا الالتزام مقيد بالحد والمدى الذي شرعه الله له، فالصوم ليس غايةً تقصد لذاتها ولو كانت مرضاة الله في الأكل آناء الليل وأطراف النهار لما تردد في فعل ذلك، وهذا يعني أنه متحرر من أي هوى ظاهرياً أو باطنياً، وأنه لم يعد متبعاً لحظوظ نفسه وميولها إلى أي اتجاه كان هذا الميل..
يفهم المرء كيف يكون إفطار رمضان اتباعاً للهوى، ولكن كيف يكون تأخير الإفطار كذلك، مع أن هذا التأخير في ظاهره دلالة تقوى وإيمان فهو يسبب للإنسان مزيداً من الجوع والعطش؟
والجواب يأتي من فهم عميق لسيكولوجية الإنسان فهو يملك قدرة هائلةً على التأقلم والتعويض، فإذا حرم من شيء فإنه مع مرور الوقت يألف هذا الحرمان فيصير مصدر استمتاع وتلذذ له..
وهذا ما نراه في واقعنا في حالة الفقراء مثلاً فمن يألف الفقر فإنه يصبح جزءً من كينونته النفسية، فإذا جاءته فرصة للغنى فإنه يزهد بها، وإن سعى إليها فليس سعياً جاداً لأن هناك دافعاً عميقاً لا شعورياً في داخله باللذة والاستمتاع بكونه فقيراً، وهنا نفهم العدالة الإلهية في تقسيم الناس إلى أغنياء وفقراء، فهذه تقسيمات ظاهرية لكن التأمل العميق يظهر أن كلا الفريقين منسجم نفسياً مع مستوى معيشته "يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر".
بهذا المنطق فإنه مع تعود الإنسان على الصيام فترات طويلة لا يظل الطعام هواه الرئيسي، ولكن يتحول هواه إلى البقاء على هذه الحالة من الجوع والعطش لفترات طويلة..فهو يتحرر من هوىً ليتبع لوناً آخر من الهوى
والإسلام يريد أن يحرر الإنسان تحريراً كاملاً فكما أنه يسعى لتحريره من أن يكون عبداً لهواه الظاهر، فهو يريد أن يحرره أيضاً من هواه الخفي..لذلك فإن خير الأمور الوسط ، والوسطية هي خاصية الدين حتى يظل الإنسان متوازناً بعيداً عن الإفراط أو التفريط..
نستطيع أن نقرب معنى الهوى الخفي باستحضار أمثلة أخرى.. مثلاً في الصلاة فكما أن الإنسان يتبع هواه ويتكاسل عن أداء الصلاة، لكنه إذا تغلب على هذا الهوى وصارت الصلاة جزءً من كيانه، فإنه يدخل إلى ميدان جديد للابتلاء فربما يتسلط عليه نوع من هوى آخر، وهو الرهبانية المتواصلة دون انقطاع، لذلك كان لا بد من جرعة توازنية فكانت هناك أوقات ثلاث تكره فيها الصلاة، وكان المنهج النبوي بأنه يصلي ويفتر، فكما أن المرء يتعبد الله بالصلاة فإن هناك أوقاتاً يتعبده بها بعدم الصلاة، وهذه الأوقات وإن كانت استثنائية وليست هي الأصل إلا أنها كافية لتحرير المؤمن من الخضوع لهيئة معينة وتحويلها إلى غاية في ذاتها، وضمان بقائه عبداً لله وحده، ونحن ندعو بعد كل أذان اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة لنتذكر أن الصلاة مجرد وسيلة وأن لها رباً نعبده ولا نعبدها.
مثال ثالث في الزواج فالعفة خلق حميد إلا أن الانقطاع الكامل عن الزواج فيه خروج عن شرع الله، وكما لذلك يتقرب الإنسان إلى الله بالتعفف فإنه يتقرب إليه أيضاً بقضاء شهوته..
وربما تكون هذه خاصيةً مميزةً لجميع شرائع الدين بأن كل عبادة هناك من جنسها ما يقابلها لإبقاء الإنسان في حالة التوازن والوسطية وحتى لا يميل كل الميل في أي اتجاه سواءً كان اتجاه التفريط والتحلل أو اتجاه الرهبانية والتبتل..فلا يكون الإنسان عبداً للملذات المادية، وفي ذات الوقت لا يكون عبداً للأهواء الخفية التي تتولد مع الإلف وطول العهد فتصير الأشياء التي ظاهرها تعب ومجاهدة هي مصدر تلذذ، وبذلك تتحول العبادة والتعفف والرهبانية من كونها مجاهدةً للهوى إلى هوى جديد..
فكما أن الأصل هو الإطالة والخشوع في الصلاة إلا أن هناك حقنةً توازنيةً نجدها في حث النبي على التخفيف في ركعتي الفجر النافلة، وكذلك التخفيف في حالة الإمامة بالمصلين، وكذلك تجوزه في الصلاة حين سمع بكاء أم الصبي..
ومثال آخر وهو قضية القتال فكما أن القتال بطبعه تكرهه النفس، إلا أن المقاتل مع طول الإلف فإنه يشعر بشهوة تدفعه إلى مواصلة القتال، وتحيّن فرصه، وهنا تكون مجاهدته لنفسه ليست في أن يقاتل ولكن في ألا يقاتل حين لا يكون القتال ضرورياً لإحقاق الحق والعدل..
إذاً التحرر الحقيقي ليس في ترك القتال كليةً ولا في اعتماده كليةً، ولكنه في تجرد النفس من أي هوى وتعاليها فإذا اقتضى الأمر قتالاً قاتل الإنسان وإذا اقتضى سلماً سالم دون أن تستهويه حالة فيخضع لها.
في ضوء هذه الفلسفة نفهم موقع العيد ضمن النسق الكامل فهو بمثابة الجرعة التي تعيد الإنسان إلى حالة التوازن وتضمن عدم انحرافه عن الطريق القويم.فإذا كان الإنسان طوال العام مجتهداً في الزهد في الحياة والتخفف من المباحات، فإن الإسلام يقول له في يوم العيد كما أنك تتقرب إلى الله طوال العام بالتخفف من المباحات فإن تقربك إلى الله في هذا اليوم هو باللهو واللعب وبالتوسع في المباحات وكما في الحديث عن أيام التشريق بأنها أيام أكل وشرب وذكر الله، فإن زعم إنسان أنه لا رغبة له بهذه الأمور وأنه يريد أن يظل في يوم العيد على ذات النمط المألوف من الزهد والانقطاع والاعتكاف فإننا نقول له:إنك لست صادقاً في عبادة الله، ولكنك تعبد إلفك ومعهودك، وحين يختار إحياء الأحزان وزيارة المقابر يوم العيد فهذا ليس بدافع التقوى، ولكن اتباعاً لشهوة خفية، لأن التقرب إلى الله في هذا اليوم هو بالأكل والشرب واللهو المباح..
أرأيتم كم هو ديننا عظيم!!
والله أعلى وأعلم..
الثلاثاء، 16 نوفمبر 2010
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر عن ثواب الحاج بأنه يرجع كما ولدته أمه فهذا يقتضي تحولاً نوعياً في مسار حياته، وانطلاقةً جديدةً إلى حياة ملؤها الصلاح والتقوى والسلام مع البشر، لكن واقع الحال على النقيض من ذلك فالحجاج إلا قليلاً منهم يعودون بعد حجهم إلى سابق عهدهم دون أن يتغير شيء، وهذا يعني أنهم كانوا يؤدون طقوساً شكليةً دون أن تتشرب قلوبهم معاني الحج وأسراره، والله لا ينظر إلى الصور ولكنه ينظر إلى السرائر..
الحج ليس سوى مثال واحد على أمة لم يعد نصيبها من دينها سوى الصور والشعائر الظاهرية الفارغة من أي مضمون روحي واجتماعي. فالمظاهر الإسلامية تطغى على حياتنا وعلاقاتنا الاجتماعية من المهد إلى اللحد حيث يستقبل المولود بالأذان والتحنيك والعتيقة، ويودع حين يغادر الحياة بالتغسيل والتكفين والصلاة عليه، وما بين هذين الحدين تزدهر الطقوس الاجتماعية، فيحيي الناس الأعياد والمناسبات الدينية، ويأكلون التمر والكعك في رمضان، ويتسابقون إلى الحج والعمرة كل عام، ويشيدون المساجد والمراكز الدينية، وعلى أبواب عيد الأضحى يحرصون على شراء الأضحية، ويظهر الورع في غير محله بتكرار نفس الأسئلة في كل عام عن حكم الأضحية الخرساء أو العرجاء أو العوراء فيما يذكر بأسئلة بني إسرائيل عن البقرة.
هذا الحرص على إحياء المظاهر الإسلامية ليس موضع انتقاد لو أنها كانت منسجمةً مع المعاني العميقة للعبادة، لكن ما يحدث أن هذه الصور تخفي في باطنها خواءً في المعنى وخبواً للروح التي من أجلها جاء الدين، فتجد فريقاً ممن يحرص على أداء العمرة في كل رمضان يغتصب حقوق أخواته في الميراث، أو يغش في تجارته، وتجد من يبني المساجد ويبالغ في زخرفتها هو ذاته من يأكل أموال الناس بالباطل، ومن يحرص على تقدم الصفوف في صلاة العيد والجمعة فاسداً في موقعه الإداري قد خان الأمانة، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل.
ونحن لا نعمم الحكم حتى لا نظلم ولكن هذه النماذج السلبية موجودة بكثرة.
لقد تنبه المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله إلى العلاقة بين الصورة والمعنى فبين كيف أن الحضارة في أوج قوتها وصعودها تزدهر فيها الفكرة والمعنى، فإذا جرت عليها سنة التاريخ وبدأت منحدر الهبوط واقتربت ساعة أفولها زاد اهتمام الناس بالصور والمظاهر والطقوس بينما خمدت حرارة الإيمان في الصدور..
إن مؤشر قوة الأمة هو قوة المعنى، أما ازدهار الصور والأشكال فهو دلالة ضعف وانحطاط
إن من يبالغ في إحياء الصورة بعد أن يميت المعنى، ويطلي نفسه بمظهر خادع من الطقوس والمظاهر فإنما يفعل ذلك بدافع نفسي ليملأ نقصه الداخلي ويحسم الصراع العنيف داخله بين القيم العليا التي ينبغي أن يكون عليها المجتمع وبين الواقع البائس المتراجع.
هذا التناقض بين الصورة والمعنى لا يخص أمة دون الأمم ولكنه مرض عام يصيب الجميع..فالحضارات في أوج صعودها وحيويتها يكون الإيمان فيها بالمبدأ عميقاً والنفوس مستعدة لبذل النفس والنفيس من أجل أن تحيى الفكرة، وهذه النخبة المبدعة هي التي تنهض بالفكرة وتنتصر لها حتى يمكن لها في الأرض.
فإذا مكن للفكرة في الأرض ودخل الناس فيها أفواجاً خلف من بعدهم خلف يؤثر الراحة والكسل، فهو قد وجد ثماراً يانعةً قطفها دون عناء، فيصبح جيلاً يستهلك ولا ينتج، ويقلد ولا يبدع فيخبو المعنى وتبقى الصورة، وحين يبقي الناس على الطقوس والمظاهر فذلك لإشعار أنفسهم بأنهم امتداد للحضارة العظيمة، ولكنهم يجمدون على ما وجدوا عليهم آباءهم وأسلافهم ويتوقفون عن الإبداع فتنتج أشكال ميتة جامدة يقدسونها ويعكفون لها، وهنا نفهم فكرة الوثن في القرآن الكريم، فالوثن هو تجسيم وتعلق بالصورة على حساب الفكرة "ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون".
يضرب لنا القرآن مثلاً عن ازدهار الصور في قصة آلهة قوم نوح وهم ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، فمبدأ هؤلاء الخمسة أنهم كانوا رجالاً صالحين، ولكن مع طول الأمد وتعاقب الأجيال خبا المعنى وبقيت الصورة، فاتخذوا أصناماً تعبد من دون الله، وتذرع بهم قوم نوح ليصدوا دعوته مع أنها امتداد لذات الدعوة الإصلاحية التي كان عليها هؤلاء الخمسة
نبقى مع القرآن وقصة أصحاب الكهف حيث تبرز فكرة المعنى والصورة، ففي مرحلة انطلاق الدعوة حيث حيوية الفتية ونشاطهم كما في مبدأ أي فكرة كان المعنى حاضراً قوياً:"إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً"، لكن حين دار الزمان دورته بعد ثلاثمائة سنة خفت المعنى في قلوب الناس واهتزت الفكرة فصاروا في شك من اليوم الآخر حتى اقتضى الأمر تذكيراً جديداً: "وكذلك بعثناهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة آتية"، رغم أنهم حافظوا على ازدهار الصورة والمظهر "لنتخذن عليهم مسجداً"..
إن إبقاء الصورة لا يتطلب جهداً كبيراً، ولا إقلاعاً ضد الجاذبية، لذلك تزدهر الصورة في فترات التراجع لسهولتها على النفس فهي أقرب إلى الجانب الاحتفالي منها إلى الالتزام والانضباط ولا تتطلب ذات الجهد والتكلفة التي يتطلبها إحياء المعنى والفكرة..
ولأن الصورة لا تتطلب مشقةً كبيرةً على النفس فلا غرابة أن نجد طواغيت الأرض يحتفون كثيراً بالمظاهر، فينشئون المساجد والمراكز الدينية، ويقيمون الاحتفالات في الأعياد والمناسبات، ويتقدمون الناس في الصلاة أمام الكاميرات، فيكبرون الله بألسنتهم بينما هم مؤمنون في قرارة أنفسهم أنه لا يوجد من هو أكبر منهم، ويكرمون حفظة القرآن، وربما يطبعون ملايين النسخ من المصحف الشريف، فيحسب الجاهل أن هذه الشكليات دليلاً على صلاح الحاكم، بينما يتخذ منها الحاكم وسيلةً لإسكات الناس، وليتركوا له الساحة فيطلق العنان لأهوائه، ويعم في عهده الظلم والفساد والرشوة، والتخلف..
"أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون"..
ولأننا في عصر ازدهار الصورة وأفول المعنى لم يعد مستغرباً أن نرى الفساد والواسطات والمحسوبيات وتدخل المعارف وأصحاب النفوذ تطال حتى العبادات التي يفترض أن يتقرب بها المرء إلى الله، فمن يملك واسطةً أو نفوذاً يستغله ليقدم اسمه على غيره في أسماء الحجاج..وفي هذا تناقض مريع فمن يبتغي رضا الله فإنه لا يمكن أن يدركه إلا بوسائل شريفة، ولكن ماذا نفعل ولم يعد حظنا من العبادة سوى صورتها..
إن الجمود على صورة الدين بعد قتل روحه قد جلب على البشرية كوارث عظيمة، فتحول أتباع الأنبياء إلى أعداء الأنبياء بعد أن طال عليهم الأمد، فرأينا المسيحي يبيد الشعوب باسم المسيح وتحت راية الصليب، ورأينا المسلم يفجر نفسه في أخيه المسلم بزعم الانتصار لدين محمد..ومحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام برءاؤ من ذلك.
لقد بين لنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أن كل الصور لا تغني شيئاً عن المعنى، ولو كانت هذه الصورة هي الكعبة المعظمة ذاتها فحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة، لكن المسلمين لم ينتفعوا كثيراً بهذا الهدي النبوي، فاستحلوا دماء بعضهم البعض لأتفه الأسباب، بينما قدسوا الرسوم والأشكال والأنماط التاريخية المجمدة..
إن الاهتمام بالطقوس دون الاستفادة من معانيها العميقة في الحياة هو تفريغ للدين من محتواه، والإسلام لم يسن الشعائر إلا لتحقيق الإصلاح النفسي والاجتماعي فإن لم تتحقق هذه الغاية فقدت هذه الشعائر فاعليتها، فالصلاة لمنح الإنسان السكينة ولنهيه عن الفحشاء والمنكر، والصيام لعلكم تتقون، والحج لإعطائنا دروساً في السلام والمساواة فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، فإن لم تتحقق هذه المعاني في حياتنا فإن الله غني عن صلاتنا وصيامنا "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"...
إذاً فالشعائر والمناسك ليست سوى وسيلة لتحقيق التطهر الداخلي "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم، وغاية الأنبياء الكبرى هي إقامة العدل في حياة الناس
"ليقوم الناس بالقسط"..
إن إحياء الدين يكون بإحياء معانيه ومقاصده الكبرى بإقامة العدالة الاجتماعية ورد الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلومين ومحاسبة الظالمين وإعمار الأرض التي استخلفنا الله فيها، وكما قال الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: حيثما كان العدل فثم شرع الله..
والله أعلى وأعلم..
أشكرك على طرح هذا التساؤل لأن مثل هذه التساؤلات والاستدراكات هي التي تبين الفكرة وتجليها أكثر..
بالطبع فهذه ليست دعوة لترك الشعائر لأن الله عز وجل يقول "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب..
الالتزام بالشعائر -حتى وإن كانت ظاهرية -هو مؤشر على صلاح الباطن لأن الإنسان حتى يلزم نفسه بأداء الشعائر الظاهرية فلا بد أن يصل الإيمان في داخله إلى درجة من العمق بحيث يتفاعل ويفيض..والإيمان الحقيقي لا يطيق أن يظل حبيس الصدور فيأبى إلا أن يعبر عن نفسه.والتعبير في حده الأدنى يكون بأداء هذه الشعائر..
أما من لا يؤدي الشعائر ويقول بأن قلبه أبيض فإنه كاذب في دعواه..لأنه لو كان إيمانه الداخلي متحققاً لنتج عن ذلك حالة من القلق الداخلي ولما استقر واطمأن إلا بأداء الشعائر..
موضع انتقادنا هو فقط حين لا يتجاوز المرء هذه الشعائر وينفذ إلى معانيها العميقة لأنه بذلك لم يحقق مقصود الله الذي وضحه في كتابه "لعلكم تتقون"..فمن يصوم ولا يحقق التقوى فليس له حظ من نصيبه سوى الجوع والعطش، ومن يصلي ولا ينتهي عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له..
ودعوتنا إلى هذا الصنف ليس بأن يترك الشعائر، بل أن يحافظ عليها ولكن ينميها بأن يفقه معانيها العميقة وأن يرى أثرها في واقع حياته..
هناك علاقة جدلية بين الشعيرة والمعنى فكما أن المعنى يفيض فيعبر عنه بالشعيرة، فكذلك فإن مزيداً من الشعائر في حالة سلامة القلب تؤدي إلى ترسيخ المعنى وتحقيق التقوى
حين يكون الأفراد والمجتمعات يفيضون بالمعنى فحينها يأتي دور المظهر أو الشعيرة أو النسك بأنها التعبير أو التجلي لهذه المعاني، وهي الرمز الذي يمثل القاسم المشترك للمؤمنين، ولا يمكن تصور أمة بدون مناسك. فالمناسك تمثل مظهر الوحدة العضوية والنفسية للأمة..
الرموز لها وظيفة حيوية في حياة الأمم ونحن لا ندعو للتخلي عنها ولكننا ندعو إلى أن تكون في موقعها الصحيح كتعبير عن معنى موجود وليس تعويضاً عن الخواء الداخلي.
مثلاُ في حالتنا الإسلامية صلاة الجمعة تعطي شعوراً اجتماعياً رائعاً، ومشهد الحجيج يعطي دفعةً روحيةً هائلةً، وهذه المظاهر التي يجمع عليها المسلمون ولا يمكن أن يجمعوا على أي مظهر آخر بنفس المقدار، لأن هذه الشعائر إلهية المصدر، لا يمكن أن نلغيها مهما حقق المسلمون من معان عميقة..لأن هذه الشعائر في ذاتها لها معنى فريد ومتميز..
والسلام عليكم..
الخميس، 11 نوفمبر 2010
في حياتنا تزدهر الطقوس والصور الإسلامية إلى حد كبير، فالناس يحيون الأعياد والمناسبات الدينية، ويقيمون الاحتفالات ويؤدون الطقوس والشعائر من صوم وصلاة، ويتسابقون إلى الحج والعمرة كل عام، ولكن الصورة لا تمضي على هذا النحو الإيجابي بعيداً، فتجد بعضاً ممن يحج إلى بيت الله الحرام ويؤدي العمرة في رمضان، ويسابق لشراء الأضحية ويهتم بزخرفة المساجد ويبالغ في الإنفاق عليها، ويقيم الاحتفالات ويوزع الحلوى في ذكرى المولد والهجرة تجد هذا البعض هو ذاته من يجمع أمواله بالحرام، وقد أثقل كاهله بحقوق الناس ومظالمهم، ويماطل في أداء الديون ورد الأمانات، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، فقرب أقاربه، وخان الأمانة التي اؤتمن عليها.
إن الاهتمام بالطقوس الظاهرية دون الاستفادة من معانيها العميقة في الحياة هو تفريغ للدين من محتواه، فالله عز وجل لم يفرض علينا الشعائر والمناسك إلا لتستقيم حياتنا النفسية والاجتماعية العميقة "لعلكم تتقون"، "ليقوم الناس بالقسط"، وما لم نحيي معاني هذه الشعائر في حياتنا تصبح بلا مفعول أو قيمة "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"..
حالة الازدهار في المظاهر والأشكال يمكن تعليلها بسهولتها على النفس فهي أقرب إلى الجانب الاحتفالي منها إلى الالتزام والانضباط ولا تتطلب ذات الجهد والتكلفة التي يتطلبها إحياء المعنى والفكرة..
لذلك لا غرابة أن نجد أصحاب السلطان في أي مجتمع يقيمون هذه الطقوس الظاهرية، بينما في سلوكهم الاجتماعي والسياسي هم أبعد ما يكونون عن روح الإسلام، فتجد الرئيس أو الوزير يؤدي صلاة الجمعة والعيد، ويقيم الاحتفالات الدينية، ويحج عاماً بعد عام، بينما هو مقصر في أداء أمانة الحكم وقد انتشر الظلم في عهده وعم الفساد وشاعت الواسطات والمحسوبيات..
حين يقوم المسئول بأداء الشعائر امتثالاً لفريضة افترضها الله عليه فإنه لا يسع أي مؤمن إلا أن يثني على ذلك ويدعو له بالقبول..
لكن الكارثة تكون حين تؤدى هذه الشعائر على حساب العدل الذي من أجله قامت السموات الأرض وعلى حساب حقوق الناس
في هذه الأيام مثلاً حيث الحج إلى بيت الله الحرام ترى بعض المسئولين يسارعون إلى مزاحمة الحجيج في قوافلهم إلى بيت الله الحرام، وقد أدى حجة الإسلام التي افترضها الله عليه من قبل، وربما تكون هذه المرة الثالثة أوالرابعة، مع أن هناك من الناس يتشوقون إلى الحج للمرة الأولى منذ سنوات ولم يخرج اسمه، وهناك من يتجاوز عمرهم الخامسة والستين أو السبعين ترى أعينهم تفيض من الدمع خوفاً أن يفوتهم قطار العمر دون أن يحجوا، وهم يشاركون في الاقتراع مرةً بعد مرة دون أن تخرج أسماؤهم..
ومما يزيد الأمر كارثية أن تكون تكاليف حج بعض هؤلاء المسئولين مقتطعةً من المال العام أو من أموال الحجاج، فيشكلون عبئاً إضافياً على الحجاج وعلى شعوبهم التي يقتطعون الأموال منهم، فصارت الشعوب في خدمة المسئول ورفاهيته، ولم يعد المسئول مسئولاً ومحاسباً من قبل الشعب..
وتكتمل قتامة المشهد حين يكون المسئول الذاهب إلى الحج مقصراً في وزارته أو مؤسسته ومفرطاً في الأمانة العامة، وربما تسبب تقصيره وأخطاؤه في إزهاق أرواح ، وقد علم أن الله لم يفترض عليه الحج أكثر من مرة، وربما أسقطت عنه هذه المرة إن لم يستطع إلى ذلك سبيلاً، بينما افترض عليه أن يؤدي أمانته وأن يحكم بين الناس بالعدل وألا يأكل أموال الناس بالباطل، وأن يتقن عمله، ولن يشفع له أن يحج عشرات المرات دون أن يعيد الحقوق إلى أهلها ويحارب الفساد من مؤسسته ويحاسب الظالم على ظلمه، فالحج صورة الدين بينما إقامة العدل هو حقيقته وغايته، وكما قال ابن القيم رحمه الله : أينما كان العدل فثم شرع الله..
إن وظيفة المسئول ليست في حج أو صيام أو قيام نافلة، بل إن وظيفته الأولى هي أن يقيم العدل بين الناس، ويقضي حوائجهم ويقيل عثراتهم ويدخل السرور على قلوبهم، فإذا أتم هذه الواجبات بإتقان نال رضا الله حتى وإن كان حظه من النوافل قليلاً..
إن تحقيق شرع الله يكون بتحقيق العدالة الاجتماعية ورد الحقوق إلى أهلها وإنصاف المظلومين ومحاسبة الظالمين، قبل أن يكون بإحياء الصور والطقوس والاحتفالات..
إن تولي المسئولية العامة لا يمنح صاحبها تفويضاً إلهياً بأن يزاحم الناس، وأن يقدّم على غيره فيخرج اسمه إلى الحج وهو جالس في بيته دون مشقة أو سعي، بينما غيره يجهد نفسه سنوات طوال وهو يسعى إلى الحج، وإن كان المسئول مصمماً على الحج ولا بد، فعليه ما على أي إنسان من سعي ومشقة وأن يكون هناك تكافؤ في الفرص بين الجميع فيدخل اسمه في القرعة مثله مثل أي واحد من المسلمين، ويجري الاختيار بشكل حر ونزيه فإما قدر له أن يحج، وإما انتظر كما ينتظر غيره في الأعوام القادمة..
إنه لمن التناقض أن يعلن إنسان أنه يقصد من حجه مرضاة الله بينما لا يتحرز من اغتصاب حق غيره للحج، ولو أنه ظل في بيته وقدم على نفسه رجلاً طاعناً من المسلمين ممن يخشى ألا يدركه موسم الحج القادم لكان خيراً له عند الله.
ولا يشفع للمسئول أن يعلن بأنه سيحج هذا العام عن أسير، والعام القادم عن شهيد، والعام الذي يليه عن أبيه أو جده، وبذلك يبرر لنفسه أن يزاحم المسلمين كل عام، فإعطاء الفرصة للأحياء ليحجوا بأنفسهم أولى، ومثل هذه المواقف أمام وسائل الإعلام يخشى أن يتسرب فيها إلى النفوس شيء من حب السمعة..
أختم مقالتي بهذه القصة لعله يكون فيها عبرة لأولي الألباب:
جاء رجل إلى بشر بن الحارث رحمه الله وهو من ربانيي الأمة وقال له يا أبا نصر إني أردت الحج فهل توصيني بشيء؟ قال له: كم أعددت من النفقة للحج؟ قال: ألفي درهم، فقال له: هل تريد الحج تزهُّداً أو اشتياقاً إلى البيت أم ابتغاء مرضاة الله؟ قال: والله ابتغاء مرضاة الله، قال: هل أدلُّك على ما تحقِّق به مرضاة الله وأنت في منزلك؟ إذا دللتك على شيء من هذا تفعل؟ قال: أفعل، قال: تذهب تعطي هذا المبلغ عشرة أنفس، فقير ترمِّم فقره، ويتيم تقضي حاجته ومدين تقضي عنه دَينه، ومُعيل تخفِّف عنه أعباء عياله،..، فقال له: يا أبا نصر السفر في قلبي أقوى، فقال له: إن المال إذا جُمِع من وسخ التجارات والشبهات أبت النفس إلا أن تقضيه في شهوتها..
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في الدين وأن يهدينا إلى سواء السبيل..
والله أعلى وأعلم..
الاثنين، 8 نوفمبر 2010
الاثنين، 1 نوفمبر 2010
التحرر من ضغط الثقافة..
بقلم أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
كل مولود يولد على الفطرة، وحين تتفتح عيناه على الحياة يكون متحفزاً للتفكير والإبداع، لكن ضغط المجتمع والثقافة السائدة سرعان ما يطفئ هذا النور الفطري، ويجهض أشواقه للاستكشاف والمعرفة، ويضعه في قوالب جامدة لا روح فيها، فيتأطر الفرد وفق ما يريد له المجتمع من تقاليد وأنماط صارمة..
يكبر الفرد ويكبر معه تمسكه بهذه الأنماط التي وجد آباءه عليها، حتى تغدو جزءً راسخاً من كينونته لا يستطيع الفكاك منها، وهي التي توجه سيره وتحدد سلوكه بطريقة لا شعورية، فهو لا يستطيع أن يفكر إلا في دائرة المحددات الثقافية، حتى وإن ظن نفسه حراً في التفكير فليس هذا الظن سوى وهماً كبيراً مثله في ذلك كمثل الكائن الحي في محمية طبيعية فهو ينطلق فيها بأقصى سرعته ويذرعها مجيئاً وإياباً ويظن أنه يمتلك الحرية للانطلاق حيثما شاء دون أن يدرك أنه لا يستطيع ذلك إلا في الحدود التي يسمح بها حراس المحمية، وهو لن يدرك أن حركته مقيدة إلا إذا وقف على حدود المحمية واستشرف العالم الخارجي، حينها فقط سيدرك أن هناك عالماً أوسع وأنه ليس حراً بالقدر الكافي، ونفس الشيء مع الإنسان فهو لا يدرك المقيدات الثقافية والاجتماعية التي تحول دون انطلاق تفكيره إلا إذا اعتزل صخب المجتمع وضوضاءه، وفكر خارج الإطار السائد..
إن الإنسان في غمرة استغراقه في المجتمع وثقافته لا يتصور أن هناك حقيقة خارج الأطر التي رسمها له المجتمع، فالقيم والعادات والتقاليد هي الطريقة المثلى حسب تعبير فرعون "ويذهبا بطريفتكم المثلى"، وليس بالإمكان أبدع مما كان ولو كان خيراً لسبقونا إليه، ويبين لنا القرآن إلى أي مدى يصل الإنسان في استغراقه في الأفكار التقليدية ورفضه لأي جديد حتى تصبح الحقيقة الواضحة موضع استهجان لا لشيء إلا لأنها ليست ضمن الأطر القديمة:"أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب"، هذا في الجانب الفكري أما في الجانب العملي السلوكي فنجد قوم لوط حين استغرقوا في حياة النجاسة صارت الطهارة في مقياسهم تهمةً تستحق الإدانة: "أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"..
إن القرآن الكريم أعطى اهتماماً كبيراً لضرورة تحرير عقل الإنسان من الأطر السائدة والقوالب الجامدة، ومن يتأمل القرآن بموضوعية وتجرد يدرك أن رسالة القرآن الأساسية هي إيجاد الإنسان المفكر المتحرر "لعلهم يتفكرون"..
إن المجتمع يمثل قوة ضغط هائلة على الفرد تمنعه من التفكير الحر المتجرد من الرؤى المسبقة، والإنسان الفرد حين يخلو مع نفسه ويتجرد من الهوى والقيود الاجتماعية فإنه سيهتدي إلى الحق، لكنه حين يعود بعد ذلك إلى ضوضاء المجتمع وصخبه فإنه سرعان ما ينتكس على رأسه ويجرفه التيار الاجتماعي .لأن مسايرة المجتمع أسهل على النفس من مخالفته، وبذلك فإن الإنسان بين دافعين دافع عقلي وآخر انفعالي، فهو حين يخلو بنفسه ويتجرد للحق فإنه يفكر بعقله لكنه حين ينتكس إلى التقليد الأعمى للمجتمع، فإنما يفعل ذلك بدافع عاطفي انفعالي، ولعل هذا ما دفع القرآن إلى استعمال التعابير الانفعالية في حديثه عن المجتمعات "غمرتهم"، "سكرتهم"، "كل حزب بما لديهم فرحون"..فلم يقل مؤمنون ولا مقتنعون، ولكن فرحون وهذه التعبيرات تدل على سلوك انفعالي..
إن التحرر من هذا الضغط الاجتماعي الهائل لا يكون إلا بالخلوة مع الذات واعتزال تماثيل المجتمع التي هم لها عاكفون:"قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا"..ويتساءل المرء:ما سر تخصيص العدد باثنين أو واحد، والإجابة نفهمها في ضوء ما تقدم أن الإنسان حتى يتفكر تفكراً موضوعياً فإنه يجب عليه أولاً أن يتحرر من هيمنة المجتمع وقوالبه الجامدة، ويعيد الاعتبار للعقل الذي كرمه الله به، وهذا لا يصلح أن يكون في تجمعات كبيرة لأنه إذا اجتمع عدد كبير فإن اجتماعهم سيصبغ بالسمات المميزة للمجتمع، فلا يزيد الأمر عن كونه إعادة نسخ لقوالب ميتة، و سيعزز اجتماعهم النمط السائد بدل أن يتحرر منه، كدأب قوم إبراهيم حين نكسوا على رءوسهم بعدما تبين لهم الحق فقالوا حرقوه وانصروا آلهتكم..
لذا لا غرابة لمن يتأمل حياة الأنبياء والفلاسفة والمصلحين أن يجد أن الخطوة الأولى في مسيرتهم الإصلاحية هي الاختلاء مع الذات وتأمل الطبيعة والبعد عن صخب المجتمع ولغوه، نجد هذا عند موسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعند بوذا وغيرهم كثيرون..
إن القرآن الكريم يكرر أكثر من أربعين مرةً ذمه لاتباع الأقوام السابقة الأعمى لما وجدوا عليه آباءهم "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"..والآباء هم رمز للهيمنة الاجتماعية، فالإنسان حين ينشأ فإنما يقلد أباه وأقرب الناس إليه ثم المجتمع بمجمله..ومثل هذه القصص القرآنية لا ينبغي أن نسقطها على قريش وعاد وثمود وحسب، بل إن لنا نصيباً من الوقوع في هذه الأمراض فهي أمراض إنسانية عامة، وحال المسلمين كحال غيرهم في مواجهة دعوات التجديد والإصلاح هي قولهم:إنا وجدنا آباءنا على أمة، أو ما يقاربها من ألفاظ كقولهم:حسبنا ما ألفينا عليه السلف الصالح، والعيب ليس في اتباع السلف والآباء من حيث المبدأ، ولكن العيب هو في تعطيل الملكة النقدية والتفكير، واستبدال التقليد الأعمى للسلف بها، لذلك فإن القرآن كان يرد على دعوى الآبائية بالقول:"أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم"..فإن وجدنا هدىً في المجتمع والثقافة أخذنا به وعززناه، ولكن إن وجدنا طريقةً أهدى وجب علينا أن نترك ما كان عليه آباؤنا وأن نتبع الحق..وحتى نكون قادرين على التمييز بين ما نأخذه وما نرده من إرث المجتمع، فإن ذلك لا يكون إلا بالتحرر الفكري، والانعتاق من قيود الثقافة وضغط الأنماط السائدة، والنظر النقدي إلى المنظومة الاجتماعية وإعادة فحص المسلمات وليس تقديسها..
إن قال قائل إننا نحن المسلمين حالة خاصة لأن بين ظهرانينا القرآن الذي لا ينطق عن الهوى فإننا نرد عليه بالقول: صحيح أن القرآن مقدس ويجب أن نأخذه كوحدة واحدة، ولكن تفاعلنا مع القرآن وتفسيرنا له ليس مقدساً، والمسلمون ليسوا ترجمةً دقيقةً لآيات القرآن، ولكنهم خليط من الصواب والخطأ، لذلك فإنه يصيبهم ما يصيب الأقوام والمجتمعات الأخرى من مرض الجمود والانغلاق، والقرآن نفسه هو الذي يلح علينا دائماً بضرورة التفكر والتدبر والتعقل والتحرر من ضغط الآباء..
إن التحرر من ضغط المجتمع يتطلب قوةً هائلةً للانعتاق من الجاذبية، ولا يقدر عليه إلا آحاد الناس من الذين أوتوا العلم والإيمان فيرفعهم الله درجات، وعبر التاريخ فإن أكثر الناس مقلدون ، وقليل هم الذين ينجحون في السباحة ضد التيار الجارف، لذلك فقد خلدهم القرآن بأنهم "السابقون السابقون أولئك المقربون"..لكن هؤلاء القليل هم الذين يغيرون وجه التاريخ دائماً وهم الذين يرتقون بالواقع الإنساني، ولولا هؤلاء القلة لبقي الواقع البشري جامداً معطلاً عن الإبداع متقهقراً إلى الوراء، ولأدى ذلك إلى الانغلاق والتقوقع والموت..
إن النهوض من واقعنا البئيس لا يكون باعادة إنتاج نفس الأنماط التقليدية السائدة والأفكار الميتة فهي علة تخلفنا، ولكن إنتاج واقع جديد يتطلب فكراً جديداً ورؤيةً جديدة، وتحرراً من التقليد والجمود.
إن طريق النهضة لا يكون إلا عبر التجديد وإطلاق العنان للتفكير المتحرر من أية ضغوط وإكراهات..
طوبى للمجددين السابقين الصادقين..فهم الذين يصنعون التاريخ في الدنيا، وهم المقربون في الآخرة..
والله أعلى وأعلم..