الثلاثاء، 5 أكتوبر 2010

غير المسلمين..هل هم كفار دائماً؟
أحمد أبورتيمة
هل هي ثنائية حتمية إما كفار وإما مسلمون..وهل كل من ليس معنا فهو علينا بالضرورة..هذه النظرة الحدية في التعامل مع الآخر بحاجة إلى مراجعة وتدقيق خاصةً في عصر يكثر فيه الحديث عن قيم التعايش والتسامح والتنوع الثقافي، ولا نقصد بالمراجعة أن نأتي بدين جديد يتناسب مع العصر، ولكن أن ننفض عن الدين ركام العصور وأن نرجع إلى المنهج القرآني الصافي لنقارن بين تعاليمه المجردة وبين تصوراتنا الذهنية المتراكمة عبر التاريخ والتي هي خليط من الصواب والخطأ.
لا أقصد في هذا المقال إصدار فتوى أو حكم قاطع في المسألة فالمسألة أكبر من تحسمها مقالة متواضعة، ولكن غاية ما أرجوه هو أن أنجح في إعطاء إشارات تحرك العقل وتلفت نظره إلى أبعاد جديدة، وتحرره من قيود النظرات المسبقة، والقوالب الجامدة.
لو تدبرنا القرآن لفهم معنى الكفر والكافر الذي يقصده الإسلام فإن كلمة الكفر ومشتقاتها تجيء في سياق الحديث عن تكذيب الإنسان بالآيات البينات والأدلة الواضحة واستكباره ومعاندته، ومن هنا جاءت عبارة (الكفر عناد)، وحتى في المعنى اللغوي فإن فعل (كفر) معناه التغطية والدفن، لأن الكافر يقوم بدفن الحق الذي يعلمه ويؤثر إتباع هواه والمعاندة، لذلك فالكفر هو سلوك غير عقلاني يقوم به الإنسان وليس قناعةً عقليةً، فلا نسمي المختلف معنا في قناعة توصل إليها بالتفكير الموضوعي المتجرد من الهوى بأنه كافر وهذا المعنى أستدل عليه من القرآن فالقرآن دائماً يذم الكفار بأنهم لا يتفكرون ولا يعقلون، فالمشكلة ليست في التفكير ولكنها في عدم التفكير ويوم القيامة يقولون "لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير"، ..فلو كان الكفر في الدنيا ثمرةً لاجتهاد عقلي لما قالوا هذه العبارة، ولكنهم قالوها لأنهم كانوا يتصرفون خلاف قناعاتهم العقلية التي كانوا يخفونها في قرارة أنفسهم:"بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل"، وتبرز حقيقة معنى الكفر في حديث القرآن عن آل فرعون الذين كانوا يعلمون الحق ولكنهم يجحدون به:"وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً"..
بهذا الفهم فإن الكفر والإيمان لا يتحددان إلا حين يتبين للإنسان الحق وتأتيه الآيات البينات فإذا سلم بها كان مؤمناً وإن أصر على الضلال وعاند واستكبر كان كافراً.
الكفر يكون بعد معرفة "فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" أما من لم تبلغه الأدلة بعد فلم أجد في القرآن وصفاً له بأنه كافر، ربما تكون التسمية الأكثر دقةً له هي أنه ضال أو مشرك.فالشرك يمكن أن يكون نتيجة جهل، لذلك فإن القرآن يضع احتمالاً لهداية المشرك حين يتخلص من جهله فيقول "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون"، ولا ينطبق نفس الشيء على الكافر لأنه قد عرف الحق فعلاً من قبل فجحد به ودفنه، ولذلك سمي كافراً.
ولأن الكفر لا يكون إلا بعد معرفة، فهذا يقتضي أن تكون هناك إشراقة عقلية في بادئ الأمر حين تتضح الأدلة الساطعة فيقتنع بها الإنسان اقتناعاً لحظياً لكنه ينتكس ويطفئ نور فطرته ويختار البقاء على الضلال. وهذا الاقتناع اللحظي يقيم الحجة على الإنسان لأنه عرف الحق، ولم تعد المشكلة لديه في نقص الأدلة، ولكنها في معاندته واستكباره..
ومثال هذه الومضة الإيمانية التي يطفئها الكافر نراها في قصة إبراهيم مع قومه حين أقام عليهم الحجة العقلية ببطلان أصنامهم.لنتأمل هذا المشهد التصويري: "فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ*ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ*"..إنها لحظة الصفاء والإشراق العقلي التي يعلم فيها الإنسان الحق، ولكنه ينكس بعدها على رأسه فتحق عليه الضلالة..
وجميع الأقوام التي يقص علينا القرآن خبر كفرها فإنه يصفها بالكفر بعد مجيء الأنبياء لهم بالآيات والدلائل، وليس قبل ذلك، أما قبل أن يأتيهم الأنبياء فقد كان الناس أمةً واحدة.
وقوم قريش مثلاً سموا كفاراً بعد أن استبانت أمامهم الطريق، ولم يسعهم في إحدى المرات حين سمعوا سورة النجم ووصل النبي إلى آخرها "فاسجدوا لله واعبدوا" إلا أن يخروا سجداً، وبذلك أقيمت عليهم الحجة في أنفسهم..
والقرآن يستعمل تعبير البلاغ المبين وهذه هي مهمة الأنبياء التي يجب أن يؤدوها قبل أن يحق على أممهم العذاب، والبلاغ المبين يعني أن يشرح لقومه الحقائق شرحاً مفصلاً لا تبقى معه شبهة إلا أزالها ولا حجة إلا ذكرها، فهو بلاغ بين واضح وضوح الشمس لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
والقرآن يقرر بوضوح أن الحساب والعذاب مشروطان بإرسال الرسل، فالله العدل لا يعذب إنساناً إلا بعد أن يتبين له الحق فيرفضه "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً"
إذاً فالمؤشر الدقيق الذي يعتمده القرآن لإطلاق كلمة الكفر هو التكذيب بالآيات البينات والدلائل الساطعة بعد مجيئها "بل كذبوا بالحق لما جاءهم" فإن لم يأتهم الحق أصلاً، فعلى أي أساس نسميهم كفاراً..
هذه الإضاءات القرآنية تفيدنا في التعامل مع واقع البشرية المعاصر، فهناك المليارات من غير المسلمين على وجه الأرض هل نعتبرهم جميعاً كفاراً لمجرد أنهم غير مسلمين..إذا افترضنا أن نسبةً منهم قلت أو كثرت قد عرفوا الحق ولكنهم لم يتبعوه عناداً واستكباراً، فماذا نقول في مليارات آخرين إما أنهم لم يعرفوا أن هناك إسلاماً أصلاً، أو أنهم سمعوا عنه بصورة محرفة مشوهة، فهو في نظرهم دين الإرهاب والفوضى والتخلف الحضاري فكيف يؤمنون بدين هذا ما بلغهم عنه..وعلى أي أساس نصفهم بأنهم كفار وهم لم تأتهم الآيات البينات بعد، ولم نقم بالبلاغ المبين تجاههم؟ وبأي مقياس نعتبر عجوزاً تقطن في أدغال أفريقيا أو مجاهل الهند كافرةً وهي لا تدري عن الإسلام أو القرآن شيئاً.
في إحدى المرات قال لي أحدهم مبرراً تكفيره للبشرية: لماذا لم يبحثوا عن الإسلام ويفهموا حقيقته؟ قلت له: وهل فكرت أنت مثلاً في يوم ما أن تقرأ في معتقدات الهنود، فكيف تطالب عجوزاً بالبحث عن الإسلام، ولا تسأل نفسك وأنت متعلم لماذا لم تفكر يوماً في البحث والقراءة للآخرين.قال: لأن ديني هو الدين الحق فلا حاجة لي في البحث في المعتقدات الضالة.قلت له صحيح أن ديننا هو الدين الحق، ولكن تلك المرأة العجوز تظن أن دينها هو الحق فلا ترى حاجةً للبحث عن دين آخر..
وحتى لا يكون نقاشنا جدلياً فإن ما يهمنا في هذا الموضوع هو الجانب العملي الإيجابي، والسؤال الإيجابي ليس هو لماذا لم يبحثوا عن الإسلام، ولكن لماذا نحن لم نذهب إليهم ونقوم بواجب البلاغ المبين، فنبين لهم حقائق الإسلام وأنه دين الرحمة للعالمين، ودين الحق والعدل والسلام..
إننا نحن الملومون والمحاسبون تجاه هذه الأمم التي لا تعرف حقيقة الإسلام، فبدل أن نكفرهم علينا أن نخطئ أنفسنا لأننا أعرضنا عن الآيات البينات التي تأمرنا بالدعوة وبالبلاغ المبين تجاههم..
كثيراً ما نسمع عن أناس من غير المسلمين يعتنقون الإسلام، وننشر هذه الأخبار بفرح وسرور، ولكنني سأستدل من هذه المسألة على شيء آخر، فهذا الذي يدخل الإسلام بعد أن يكون كافراً في نظرنا فإن إسلامه يعني أنه كان يملك القابلية للإيمان، وأن المشكلة لم تكن عناداً وكبراً، ولكن لأن الحق لم يكن قد تبين له فلما تبين له الحق أسلم له واتبعه..وإذا كان هذا الإنسان قد أسلم فور تبين الحق له فما الذي يمنع أن يكون مثله في قومه كثيرون يمتلكون هذه القابلية للإيمان وهم بحاجة إلى من يقوم تجاههم بواجب البلاغ المبين ليصيروا مؤمنين بالفعل..وهل يعقل أن نسمي من يمتلك قابليةً للإيمان كافراً..
إن هذا الفهم لقضية الكفر هو أكثر إنسانيةً وأنسب لخطابنا الحضاري في هذا العصر، فهو يحررنا من الشعور بالتناقض حين نتحدث إلى العالم عن التعايش والسلام ونبذ الكراهية والمساواة الإنسانية بينما نخفي في صدورنا أن هؤلاء كفار وأنهم أقل منا شأناً وأنهم إلى النار خالدين فيها وبئس المصير..أما حين نفهم الكفر فهماً إنسانياً خالياً من التعصب والانغلاق فإننا لن نكون في حرج، ولن يكون عندنا ما نخفيه عن الناس، فإذا سألنا أحدهم لماذا تكفرون الناس قلنا له إن الكفر في ديننا هو المعاندة والاستكبار والجمود الفكري، وهذه المعاني مذمومة إنسانياً لا يقبلها صاحب فطرة سليمة، حتى وإن كان غير مسلم ..
لعل ما شجعني على تناول هذه القضية هو استئناسي بآراء عدد من العلماء تنبهت منهم إلى هذا الفهم هم العالم السوداني الفاضل جعفر شيخ إدريس، والداعية الفاضل أحمد بن عبد العزيز بن باز والذين دعوا إلى مراجعة تعريف الكافر في ضوء هذه المعاني القرآنية.
لكنني رغم قوة الأدلة التي أجدها في هذه المسألة، ولأنني أتناول أمراً يخالف نظرةً شائعةً بين الناس فإن الأسلم هو الابتعاد عن أسلوب القطع فيه، لذلك لا أدعو إلى الأخذ بهذا الرأي بيقين ولكنني أعطي إشارات لتحرك العقل ولتنبه إلى إمكانية فهم جديد..ولعله كان مريحاً لي أن أصمت ولا أتناول مثل هذه المسائل، ولكن ماذا أفعل: لئن أبين فأخطئ أهون علي من أن أسكت فأكتم.
والله أعلى وأعلم..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق