الزيف الضارب في مجتمعاتنا
أحمد أبورتيمة
حين يغيب الصدق والوضوح من حياة الناس تطغى المجاملات الرخيصة والنفاق، وحين يكون الجوهر فارغاً والعمل الحضاري الفاعل معدوماً يرتدي الإنسان أردية الزيف والتكلف في محاولة لتعويض نقصه الداخلي..
هكذا هو حال كثير من أفراد مجتمعاتنا..يعيشون حياة الزيف والمظاهر الكاذبة، ويغيب عنهم الصدق والمكاشفة والجدية.
مواقف كثيرة نلمسها تكشف حقيقة هذا الصنف من الناس، هذه المواقف وإن كنا نحسبها هينةً ونرى أنها لا تستحق التعليق إلا أنها مؤشر على طبيعة مكونات شخصيات أصحابها..
لعلنا جميعاً تعرضنا لهذا الموقف حين نستقل سيارة أجرة، يتفق أن يعرف السائق أحد الركاب، وربما تبدأ المعرفة للتوّ في السيارة أثناء تداول الحديث في الشأن العام، وبعد أن يشبعا قضايا الأمة تعليقاً وتحليلاً يحين موعد دفع الأجرة فيمد الراكب يده بالأجرة، وبدلاً من أن يتعامل السائق مع الأمر ببساطة ويأخذ الأجرة التي هي مصدر رزقه فإنه يصر على ارتداء ثوب من التكلف المقيت والادعاء الزائف فيقول للراكب:خلّي علينا، ولأن الراكب بدوره يعلم أن طلب السائق هزل وما هو بالجد فإنه يجاري السائق فيقسم بالله عليه أن يأخذ أجرته، ويحلف السائق بالطلاق من امرأته أن يخلي الراكب الأجرة عليه..وبعد سلسلة من الأيمان المغلظة والأخذ والرد تنتهي المسرحية المملة كما هو مرسوم لها ويأخذ السائق أجرته ويرجع الفكة.وينزل الراكب لتبدأ المسرحية مع أشخاص آخرين في دورة لا تنتهي من الزيف والتمثيل.
واللافت أن نفس السائق الذي يظهر كرماً في غير موضعه هو الذي يزاحم السائقين بعد قليل وربما تسبب في حادث مروري من أجل أن يسبقهم إلى راكب واحد من على الطريق مما يؤكد أن ادعاء الكرم كاذب.
ولو حصل افتراضاً أن الراكب صدق دعوة السائق وأخذ بظاهر النص وأعاد النقود إلى جيبه لظل السائق طوال الطريق وصدره يغلي غيظاً وغضباً ويؤنب نفسه على هذه الصفقة الخاسرة وهو يعلم أن أحداً لم يجبره على هذا التصنع.
وهكذا فإن ارتداء الإنسان للباس مصطنع غير لباسه وبعده عن التلقائية يدخله في تناقض وصراع ويجعل صدره ضيقاً حرجاً.
أحياناً حين أتعرض لمثل هذا الموقف أتعمد إحراج السائق لأنني أعلم بأنه لا يعني ما يقول فأقول له مبتسماً إذاً لماذا تعمل في هذه المهنة ما دمت لا تريد أن تأخذ الأجرة.
ونحن لم نذكر السيارة إلا على سبيل المثال، لأن نفس السلوك تجده في مختلف التعاملات التجارية في الأسواق والمحلات التجارية، فالجميع يتصنع ويتكلف، والوضوح والبساطة لا تجدها إلا قليلاً.
من أمثلة الزيف والتكلف أيضاً أن يعزم أحدهم صديقه إلى بيته أثناء سيرهما في الطريق ويقسم عليه أن يتناول الطعام عنده، وهو يعلم في قرارة نفسه أن وقته غير مناسب لهذه الدعوة الحاتمية، فربما كان متأخراً عن عمله وربما كان مرهقاً بحاجة إلى قسط من الراحة، فلو حل صديقه ضيفاً عليه لكان من ذلك في حرج، ولضاق صدره بصديقه،وكان الأولى به إن كان صادقاً أن يشيعه بكلمة طيبة وابتسامة صادقة ولا مانع أن يدعوه إلى وقت أفضل..ويبلغ التصنع ببعضهم أن يدعو صاحبه إلى بيته أثناء الانصراف من صلاة الفجر أو في وقت متأخر من الليل وهي أوقات لا تصلح فيها زيارات المجاملة.
ولأن الزيف شاع وانتشر فقد تشوهت علاقاتنا الاجتماعية وتحولت إلى علاقات صورية باهتة نزعت منها روح الحياة، فهي أقرب لتأدية طقوس روتينية منها إلى استشعار الروح، وهذا ما نراه جلياً في ولائم الأفراح التي يكثر فيها البذخ والترف ويثقل صاحب الوليمة كاهله بالاستدانة حتى يقال جواد كريم، مع أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وكان يكفيه أن يولم بشاة دون حرج، وتبدأ الجموع الغفيرة بالتوافد لأداء الطقوس، ويقف أمامهم شخص يمسك في يده كراساً وقلماً، أما وظيفته فهي أن يسجل اسم كل واحد من الحاضرين وأمامه نوع الهدية التي أحضرها ولا يخجل إن تعذر عليه معرفة أحدهم أن يبادر إليه ليسأله عن اسمه، بل إن الحاضرين وهم يشاركون في إخراج المسرحية يتعمدون إظهار أنفسهم أمام هذا الشخص حتى يسجل أسماءهم ولا يضيع مسعاهم سدىً، فإذا انقضت الوليمة حفظ السجل في مكان أمين ليرد لكل صاحب هدية هديته بالضبط في المستقبل، فهي في حقيقتها لم تعد هدايا للمحبة ولكنه دَين واجب الأداء، فحتى لو كنت فقيراً معدماً لا تجد قوت يومك فإنك يجب أن تستدين لتعيد للغني هديته التي أهداها إياك، وإلا فإنك لا تعرف في الأصول والذوق، وربما تسبب عدم رد الهدية بخصومة وكراهية مع أن العدل هو أن يعطي كل إنسان حسب استطاعته فالقضية ليست سداد دين، وإن لم يستطع فما عليه من حرج "لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله".
بالتأكيد فإن ما تقدم ليس دعوةً للبخل، ولكن أن يكون الكرم نابعاً من إحساس داخلي ورغبة ذاتية لا أن يكون متكلفاً مصطنعاً وخالياً من الروح.
ولأننا نتحدث عن الزيف والشيء بالشيء يذكر فقد شهدت موقفاً ينصح فيه رجل رجلاً بأن يلتزم دوره في الطابور فما كان من ذلك الرجل ومن باب التخجيل الذي يتقنه الزائفون إلا أن عرض على ذلك الناصح أن يأخذ دوره في الطابور معقباً بمجاملة رخيصة بأن أكثر ما يهمه هو رضا ذلك الرجل (وإنه ما يطلعش زعلان)، وهذا إسفاف بالقيم، فالقضية ليست شخصيةً حتى يهمه رضا ذلك الشخص أو غضبه، ولكنها قضية مبدأ ينبغي أن يحترمه الإنسان رضي عنه من رضي وسخط من سخط.
رب قائل يقول:لماذا التركيز على هذه الأمور البسيطة، لماذا التعقيد والتحبيك (خذوا الأمر ببساطة)، ولكنني أقول إن هذه السلوكيات البسيطة تدل على ما هو أكبر، فهي تكشف عن خلل في بناء المجتمع، ومن يتربى على المجاملات الكاذبة والتكلف في مواقف صغيرة فإن حياته كلها ستصير زيفاً ونفاقاً.وخطورة الزيف أنه يصنع شخصيةً زائفةً لا تحترم نفسها ولا تزن كلمتها، والصدق الذي أمرنا الإسلام به عميق فهو يبدأ بالصدق مع النفس قبل الصدق مع الناس، والصدق مع النفس يعني أن يكون ظاهر الإنسان كباطنه لا يخفي في قلبه البغضاء بينما يظهر الابتسامة الكاذبة والمجاملة الرخيصة للناس..
وحين تطغى في حياتنا المجاملات الشخصية فإن ذلك يكون على حساب الحقيقة ومصلحة المجتمع، فيرى الإنسان الخطأ أمامه ويظل أخرس لا يتكلم لأنه لا يريد أن يخسر صديقه، بل يجامله كذباً ونفاقاً ويؤيده في موقفه تجاه خصمه، ولو قلبت الأدوار وكان صديقه في موقف الخصم لجامله أيضاً، ونحن نستطيع أن نكون بين ذلك قواماً فلا نخسر أصدقاءنا، وفي ذات الوقت لا نخسر مبادئنا وهو الأهم، فننقد أخطاءهم بالقول اللين أو بالتلميح، وأضعف الإيمان إن لم نقل خيراً أن نصمت ولا نجامل نفاقاً..
إن حل المشكلات يتطلب مواجهةً صريحةً بعيدةً عن المجاملات الشخصية، وما لم نغلب المصلحة العامة ونعتمد الأسلوب الموضوعي المتجرد فإن أحوالنا ستظل في تأخر وتراجع مستمر..
أما المجاملات السخيفة فهي تعزز المشكلات بدل مواجهتها وحلِّها وبذلك يمضي المجتمع قدماً نحو الهلاك.
إن الزيف والتكلف يفسد الفطرة السليمة ويخلق ازدواجيةً في الشخصية وتناقضاً بين الظاهر والباطن مما يولد اضطراباً وتشويشاً داخلياً ينسي الفرد هويته ويفقده ذاتيته.
إن التلقائية في الأقوال والأفعال والتعبير عن الذات بطريقة مباشرة سهلة هو الذي يهدي الإنسان إلى الإيمان إذ أن صدقه مع نفسه سيدفعه إلى التسليم بالآيات والبراهين حين يتبين له أنه الحق، كما أن التلقائية تكشف الإبداع الكامن في النفوس وتنميه، ولا يمكن لإنسان أن يكون متصنعاً متكلفاً، ويكون في ذات الوقت مبدعاً مجدداً، لأن الإبداع هو التعبير عن الجوهر، والتكلف يلبس الإنسان أقنعةً تمنعه من التعبير عن نفسه.
ما أحوجنا إلى أن نربي أنفسنا على الصدق والصراحة والمباشرة والتلقائية في كل معاملاتنا صغيرةً أو كبيرة، وأن يكون الإنسان نفسه، وأن نجاهد أنفسنا ليكون ظاهرنا كباطننا، وألا نقول ما لا نفعل "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"، وألا نقول إلا حقاً وإن كنا مازحين.فإن الصدق يشرح الصدر فيشعر الإنسان بالتوافق الداخلي والانسجام مع ذاته ويتحرر من التناقض والتكلف ويخلع رداء الزيف والنفاق، وبذلك يتقدم ويرتقي ويركب طبقاً عن طبق صعوداً إلى ربه ، وتتفتح أمامه أبواب الإبداع والتفوق ويكون على خلق النبي صلى الله عليه وسلم "وما أنا من المتكلفين".
والله أعلى وأعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق