إذا أردت قتل فكرة.. كررها برتابة
أحمد أبورتيمة
أفضل وسيلة لقتل فكرة ناجحة ليس أن تحاربها، بل أن تدعها تتكرر برتابة دون تجديد..
محاربة الفكرة يستفز المخزون الإيماني لدى أتباعها للدفاع عنها فتقوى، لكن تكرارها برتابة يفقدها روحها، ويفقد أتباعها الإيمان بها فتموت.
تكون الفكرة قويةً وناجحةً ومبدعةً فيغري نجاحها الآخرين بتقليدها، لكنهم حين يفعلون ذلك لا ينتبهون إلى أن سر نجاحها لا يكمن في ذاتها بقدر ما يكمن في كونها جديدةً فيفاجئون بأن هذه الفكرة التي كانت براقةً وجذابةً باتت باهتةً ومملةً وعاجزةً عن تحقيق أهدافها، ولو فطنوا إلى سنن الكون لعلموا أن الجديد لا يظل جديداً بل يصير قديماً وبالياً، وأن ما تحقق أول مرة لن يتحقق بعد ذلك إلا بالتجديد والتطوير.
ثمة شواهد عديدة أغلبها من واقعنا الفلسطيني هي التي دفعتني لإثارة هذه الفكرة من أجل خلق ثقافة تؤمن بالإبداع المتواصل وتتحرر من أسلوب النسخ واللصق الذي بات هو ديدن الأكثرين دون أن يتفطنوا إلى أن هذه الثقافة هي سبب تأخر واقعنا وعجزنا عن تحقيق أهدافنا رغم ما نبذله من جهود مضنية..
من أمثلة ذلك قوافل كسر الحصار عن غزة..فحين بدأت هذه الفكرة في أول سنوات الحصار كانت فكرةً قويةً واستطاعت خلق أصداء إعلامية هائلة خدمت القضية الفلسطينية، وحين دخلت قافلة شريان الحياة الأولى إلى قطاع غزة كانت كل وسائل الإعلام تركز أنظارها تجاه الحدث وتفرد له مساحات واسعةً من التغطية..لكن الواقع اليوم هو أن أحداً لم يعد يهتم بمثل هذه القوافل رغم نبل الغاية التي تنظم من أجلها، فبتنا نسمع عن قوافل تاسعة وعاشرة دون أن نجد في هذا الحدث ما يجذبنا، حتى سكان غزة أنفسهم وهم المقصودون بهذا الدعم لم يعودوا يهتموا بهذا الحدث، وربما تدخل القوافل وتخرج دون أن يعلم بذلك أكثر سكان غزة، والسبب في ذلك كما هو واضح أن الفكرة باتت تقليديةً روتينيةً مفتقدةً إلى الجاذبية، والحاجة باتت ملحةً للبحث في وسائل إبداعية جديدة لتحقيق أهداف هذه القوافل، أو على الأقل تطوير الفكرة القائمة وإخراجها عن نمطها التقليدي..
مثال آخر هو المهرجانات التي تنظمها الفصائل في ذكرى انطلاقتها. أتذكر قبل عشرة أعوام من الآن حين كانت تحين ذكرى انطلاقات الفصائل كان أعضاؤها وأنصارها ينظرون إلى تلك المناسبة وكأنه يوم عيد، ويتلهفون للمشاركة والاحتفال، لكن مهرجانات اليوم فقدت تلك الجاذبية التي كانت تتمتع بها.صحيح أنها لا تزال محافظةً على مستوىً جيد من الحضور، لكن مرد هذا الحضور هو الانتماء الحزبي لعناصر الحركة أكثر من كونه جاذبية الفكرة، وهو حضور مهدد إن ظلت الفكرة دون تجديد وإبداع...
مثال ثالث هو إضراب الأسير خضر عدنان عن الطعام فقد كانت خطوةً شجاعةً وإبداعيةً نجح الأسير من خلالها في فرض إرادته على المحتل الصهيوني، ونجح في لفت أنظار العالم إلى قضية الأسرى العادلة، لكن الأسيرة هناء شلبي -جزاها الله خيراً على جهادها العظيم- لم تنجح بنفس القدر في إضرابها عن الطعام، وما ذلك إلا لأنها أعادت إنتاج نفس الفكرة دون تجديد، وهذا التكرار الحرفي يستفز الطرف المقابل إلى الحيطة والحذر من تقديم تنازل آخر، فليس من المتوقع أن يعطيك الاحتلال دائماً ما تريده وهو يعلم أن هذا النجاح المتكرر سيغري المزيد باتباع نفس الخطوة مما سيشكل تهديداً لقدرته الردعية..
مثال رابع هو الثورات العربية، فنجاح الشعبين التونسي والمصري في إسقاط رئيسيهما في أقل من شهر لا يعني أن نفس التجربة ستتكرر بنفس الحرفية في أي بلد آخر، فلكل بلد اعتباراته وخصوصياته، وحين تتوقع الشعوب الأخرى أن ما حدث في تونس سيتكرر بحرفيته عندها فإن الواقع سيصيبها بالإحباط وربما الفشل حين يتبين لها خلاف ذلك..
وقد بلغت سطحية التفكير بفريق من الناس أن يقولوا إن كلاً من بن علي ومبارك رحلوا بعد إلقاء ثلاثة خطابات، وهذا يعني أن بشار الأسد سيرحل بعد ثلاثة خطابات، وكان قد ألقى حينها خطابين، وهذا تبسيط مخل وساذج لطبيعة الحياة، فكل ثورة هي نسيج وحدها، وكل مجتمع له من الظروف والاعتبارات ما لا يمكن تكراره بنفس الحرفية في أي مجتمع آخر.
مثال أخير من مسيرة العودة التي نظمها اللاجئون الفلسطينيون في الخامس عشر من أيار من العام الماضي، فقد كانت فكرةً جديدةً وغير مسبوقة وقويةً مما أدى إلى إنجاحها، لكن هذا النجاح الذي حققته لا يعني أنه سيتكرر في المرة القادمة إن لم تشهد تعديلاً وتطويراً، ففي مسيرة القدس الدولية رغم أنها كانت مختلفةً بعض الشيء عن مسيرة العودة إلا أن تشابه أسلوب المسيرتين جعلنا نشعر ببدء تململ في صفوف الناس، وبدأنا نسمع من يتساءل عن جدوى التوجه إلى الحدود كل مرة ثم العودة..هذه التساؤلات تفرض علينا تحدياً بضرورة تطوير الفكرة والبحث في أفكار جديدة لتغذيتها حتى لا تموت، لأن هذا التكرار يبث الإحباط في نفوس الجماهير ويفقدهم الإيمان بجدواها.
إذا كانت فكرة مسيرة العودة التي نظمت العام الماضي قائمةً على التظاهر على حدود فلسطين فإنها يجب أن يضاف إليها هذا العام الاعتصام ونصب الخيام والتدرج بالتصعيد في خطة شاملة وواعية وصولاً إلى فرض حالة حصار حقيقي على الكيان الصهيوني من قبل اللاجئين الفلسطينيين من كافة الجهات..
إن طبيعة الحياة التي نعيشها تفرض علينا الاستنفار والكدح الدائم والبحث عن أفكار جديدة لتظل هذه الحياة في حالة تقدم متواصل..
والله أعلم..
المصدر موقع global voice hall
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق