المبادرة الفردية قوة للمجتمع
أحمد أبورتيمةيوم الثلاثاء الماضي 21-2-2012 خرجت مع مئات الفلسطينيين في غزة للتظاهر نصرةً للشعب السوري في وجه الجرائم الممارسة ضده، وخرجت تظاهرة أخرى في الضفة لذات الهدف. وكانت التظاهرتان تعبيراً عن موقف أخلاقي مبدئي بعيداً عن أي حسابات سياسية أو حزبية.
لكن هاتين التظاهرتين بالإضافة إلى الهدف المباشر والمتمثل بالاستجابة لنداء الفطرة الإنسانية، وتلبية الواجب الأخلاقي والديني بنصرة المظلومين في كل مكان استطاعتا تحقيق فائدة أخرى لا تقل أهميةً عن الهدف المباشر..
هذه الفائدة الأخرى تمثلت في كسر حالة الجمود، والاستقطاب الحزبي في الساحة الفلسطينية، والتي عطلت العمل الشعبي الحر، ورهنت أي تحرك على الأرض بقرار من أحد التنظيمات ، فالمنتمون إلى الأحزاب المختلفة لا يتحركون إلا بقرار تنظيمي، فلا ينظرون إلى طبيعة النشاط ورسالته، بل ينظرون إلى الجهة الداعية إليه.
التظاهرتان جاءتا مخالفتين لهذا النمط السائد إذ إنهما كانتا بعيدتين عن أي اعتبارات تنظيمية، وكان المبادرون للدعوة والتحشيد لهما مجموعة من الشباب الذين حرروا أنفسهم من القيود التنظيمية والحسابات السياسية، ولم يكن تحركهم إلا بدافع أخلاقي وإنساني خالص.
ليس من الشائع في الساحة الفلسطينية القيام بمبادرات شعبية حرة إذ أن هيمنة الاستقطاب التنظيمي في هذه الساحة قد أضعف كثيراً من مثل هذه المبادرات وأعطى التنظيمات وحدها فرصة احتكار المشهد وتصدر الواجهة وقيادة الأنشطة.
أدى هذا الاستقطاب الحزبي الحاد إلى نتائج وخيمة، فعطل الطاقات الفاعلة في المجتمع، وأمات حيويته، وأفقد أبناءه روح المبادرة، فلم يعد الإنسان في ظل هذه الأجواء الحزبية حراً في تفكيره ومبادرته، بل ألغى شخصيته وأغمض عينيه وسلم عقله لأحد التنظيمات ليفكر بالنيابة عنه، فهو في انتظار توجيه من التنظيم حول ماذا يفعل وماذا لا يفعل..
هذا الواقع أضعف المجتمع وألحق ضرراً فادحاً به لأنه حرمه من إمكانيات أبنائه وأفكارهم، وحصره في حدود حزبية ضيقة، فلم يعد مجتمعاً ثرياً بالأفكار نابضاً بالحياة، يشيع فيه تبادل الآراء وتلاقح الأفكار، ويستطيع فيه المبدعون تحقيق أنفسهم، إنما تحول إلى مجتمع راكد أشبه بالأموات يقتله الروتين والتكرار، وتطغى عليه الأساليب التقليدية دون إبداع أو ابتكار، ويسير فيه الناس في اتجاه واحد سيراً أعمى في ظل غياب الروح النقدية التجديدية.
لم يكن الضرر الناتج عن الاستقطاب الحزبي قاصراً على أفراد المجتمع وحسب بل إنه طال حتى التنظيمات ذاتها، لأنه أضعف قدرتها على المناورة السياسية، فطبيعة التنظيمات تحتم عليها أن تكون محكومةً بقيود وحسابات كثيرة فتكون حركتها بطيئةً ثقيلةً..على خلاف الأفراد الذين لا يقيدهم ما يقيد الجماعات فحركة الأفراد أسرع وأكثر مرونةً وأقرب إلى العفوية والتلقائية من حركة الجماعات والدول، فهناك مساحة يستطيع الأفراد أن ينجزوا فيها ما لا تستطيع الجماعات الكبيرة بكل إمكانياتها وعناصرها أن تنجزه.
لقد تفطنت الثقافة الغربية بذكائها إلى هذه الميزة التي يتمتع بها الأفراد فعملت على تعزيز المبادرة الفردية، وتشجيع الأفراد على الإبداع والخروج عن التقليد مما يعود في نهاية المطاف بالنفع على عموم المجتمع، لذلك نرى أن الحراك الاجتماعي في المجتمعات الغربية أكثر مرونةً من مثيله في المجتمعات الشرقية، وأنها تتقدم بخطىً أوسع لأن أي فرد مبدع يمتلك فكرةً يستطيع في ظل أجواء الحرية والتقدير التي يتمتع بها أن يدعو لفكرته ويحشد لها الأنصار حتى تتحول إلى تيار اجتماعي واسع فتترسخ هذه الفكرة في المجتمع وتتحول إلى قرار سياسي..
إن قدرة الأفراد على التحرك في المساحة التي تتقيد فيها التنظيمات يمنح التنظيمات ذاتها-لو أنها أوتيت مرونةً في التفكير وخروجاً من القالب الجامد الذي حشرت نفسها فيه- القدرة على استثمار هذه المبادرات الفردية إيجابياً فتستفيد منها بإيجاد هامش للمناورة، ولا تنظر للأفراد بأنهم أعداء للتنظيم إن أعلنوا عن شخصيتهم ورفضوا الذوبان في قالبه.
إن على التنظيمات أن تحرر نفسها من الجمود، وأن تخرج من عباءتها الضيقة فتعلم أن المجتمع أكبر من أي تنظيم مهما علا شأنه، وأن المجتمعات تستعصي على كل محاولات التذويب والاحتواء، وقيمة المجتمعات ليست في أحاديتها، بل في تنوعها وصخبها الفكري والسياسي، فالتنوع قوة للمجتمع لأنه يجعله مجتمعاً نابضاً بالحياة مرناً يدرك التغيرات سريعاً ويؤقلم نفسه معها.
العلاقة بين المبادرة الفردية والعمل التنظيمي هي علاقة تكاملية لا تصادميةً. والأحزاب في وطننا العربي مطالبة بإدراك طبيعة هذه العلاقة، فكون الفرد منتمياً لإحدى الأحزاب لا يلغي شخصيته فلا يتحرك إلا بقرار تنظيمي، ولا يحوله إلى آلة صماء يتبع الحزب على غير بصيرة، ويتبنى كل أفكاره دفعةً واحدةً دون نقد ومراجعة، بل يظل له تميزه الفردي وشخصيته المبدعة، ومساهمته على أرض الواقع التي يتقدم بها المجتمع ويتطور مما ينعكس على التنظيم ذاته بالنفع على المدى البعيد.
قيمة تظاهرة الثلاثاء أنها تعتبر من المرات القليلة في الساحة الفلسطينية التي تنظم فيها تظاهرة خارج عباءة التنظيمات حيث كان المبادر إلى هذه الدعوة نشطاء شباب تحركوا بدوافعهم الإنسانية الخالصة واستعانوا بالمواقع الالكترونية التفاعلية في الحشد، ودفعوا من جيوبهم الخاصة لتمويل هذه الفعالية، فلم يسع أبناء التنظيمات وكوادرها إلا أن يحترموا هذه المبادرة ويشاركوا فيها، مما يشكل انقلاباً في المعادلة فلم تعد التنظيمات بحساباتها المعقدة وحركتها البطيئة وحدها هي التي تقود الأفراد بل صار بإمكان الأفراد أيضاً بمرونتهم وقربهم من نبض الجماهير أن يبادروا فيحدثوا تقدماً في مسار التنظيم، دون أن تعيب هذه الأسبقية للأفراد التنظيم، فما التنظيم إلا نتاج عقول أبنائه، وكلما كانت حرية التفكير لأبنائه أوسع كلما انعكس ذلك على تقدم التنظيم.
إن تشجيع المبادرات الفردية فيه قوة للمجتمعات وتفجير لطاقاته الشبابية وتحرير له من حالة الجمود والاستقطاب.
والله أعلم..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق