الإعلام الشعبي..خطوة في طريق التقدم الإنساني
أحمد أبورتيمة
abu-rtema@hotmail.com
لم يعد شرطاً أن يمتلك الإنسان ميزانيةً بضخامة ميزانية دولة قطر ليكون قادراً على التأثير في الرأي العام، أو أن يكون صاحب ثقل سياسي، فقط ما يحتاجه اليوم هو أن يكون صاحب فكرة وأن يثابر في العمل من أجل فكرته حتى تنتشر وتملأ الآفاق.
لقد مثل ظهور الإعلام الشعبي أو الإعلام الجديد خطوةً مهمةً في مسار التقدم الإنساني إذ كسر احتكار فئة قليلة من أصحاب المال والنفوذ السياسي لعملية توجيه تفكير الناس، ووزع حق إسماع الصوت على الناس جميعاً بشكل متساو، فلم يعد الإعلام الرسمي هو النافذة الوحيدة التي لا يمكننا رؤية العالم إلا من خلالها، يوجهنا كيفما يشاء.
لا أقصد بالإعلام الرسمي فقط ذلك النوع من الإعلام الحكومي الخشبي الذي كل الدهر عليه وشرب، والقائم على أخبار استقبل سيادته وودع فخامته وأشاد سموه، فهذا نوع من الإعلام الساذج تجاوزته الجماهير منذ زمن، ولكن أقصد بوصف الإعلام الرسمي أي نوع من وسائل الإعلام الممولة من أي جهة كانت، فهذا الوصف يشمل أي فضائية وأي صحيفة وأي إذاعة، مهما كانت دعاوى استقلاليتها ومهنيتها. صحيح أنهم ليسوا سواءً وليس من العدل أن نضع الجميع في سلة واحدة، فهناك فضائيات فيها هوامش للرأي أوسع من غيرها بما لا يجوز مقارنتها معها، ولكن ما يجمع بين كل الفضائيات أنها ممولة من جهة ما، ومن يمتلك المال يمتلك القرار، فمهما كانت مساحة الحرية الممنوحة لأي وسيلة إعلام فإن هناك سقفاً لا يمكنها أن تتجاوزه، ولا يمكن أن يأتي يوم تنتقد فيه وسيلة إعلامية الجهة الممولة لها.
وإذا كانت خرافة حياد الإعلام الممول ظهرت في اختلاف تعامل قناة الجزيرة مع الثورة في كل من مصر وسوريا، فإنها ستسقط سقوطاً مدوياً فيما لو حدث أن شهدت قطر يوماً ما تظاهرات ضد نظامها ، حينها لن يظل هناك متسع لأي شعار حول المهنية والرأي الآخر والله أعلم.
بالطبع لا نقلل من حجم الإضافة النوعية التي قدمتها قناة الجزيرة للإعلام العربي، ولا من حجم هوامش الحرية التي أفادتنا كثيراً، ولا يسعنا إلا أن نشكرها على ذلك، وربما يكون من حقها أن تستفيد من هذا الذكاء الإعلامي في تحقيق أهداف سياسية ولا نلومها. ولكن في ذات الوقت فإن العشق الكامن في نفوس البشر للحرية والانطلاق يأبى أن يظل مرتهناً لسقوف محددة ترسمها له أي جهة كانت، وأن تملي عليه هذه الجهة اتجاه تفكيره، وترتيب أولوياته.
من هنا تأتي أهمية الإعلام الشعبي الذي يديره الناس أنفسهم دون ترسيم أو تحديد أو تزويق، ويعبرون فيه عن كل ما يخطر ببالهم من أفكار بطريقة عفوية تلقائية متحررة من مقص الرقيب، هذا اللون الجديد من الإعلام أتاحه ظهور الانترنت خاصةً مواقعه التفاعلية مثل المنتديات والمدونات واليوتيوب والفيس بوك وغيرها، فلم يعد المواطن في موضع المتلقي السلبي، بل تحول إلى موقع المبادرة والإيجابية، والفعل.
لم يعد دور المواطن مقتصراً على تناول وجبة جاهزة من المادة الإعلامية تطبخها له هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك، بل صار ناقداً ومشاركاً، يحلل ويوازن، ويشارك بالأفكار والأخبار، وبذلك أسقط الإعلام الشعبي أسلوب التلقين الماسخ لشخصية الإنسان وكرامته، وصار الإنسان متفاعلاً ومبادراً.
هذه التفاعلية التي ميزت الإعلام الشعبي فتحت الطريق أمام الفاعلية، فالناس في الإعلام الشعبي لا يقتصر هدف مشاركتهم على التسلية والمطالعة السلبية للأخبار والبرامج كما هو الحال في متابعتهم للفضائيات والصحف، لكن محور الإعلام الشعبي هو العمل، فالناس لا يختارون من المواضيع إلا ما كان وثيق الصلة بحياتهم الاجتماعية والسياسية والدينية، وما يحدد حجم تفاعلهم مع القضايا المطروحة هو مدى ارتباط هذه القضية بواقعهم المعاش، وحين يطالع الإنسان خبراً يهمه في الإعلام التفاعلي، فإنه لا يتصرف كما يتصرف في الإعلام الممول فيقلب صفحة الجريدة، أو يغير على المحطة، أو يذهب لينام، بل إنه يسارع لإبداء رأيه ولاقتراح الأفكار العملية، ويساهم في عملية التحشيد وراء هذه الأفكار حتى تتحول إلى قوة شعبية ضاغطة قادرة على صناعة التغيير.
إن الميزة الأهم للإعلام الشعبي هي أنه حرر الأفكار من احتكار أصحاب القوة والنفوذ، فبمقدار ما تمتلك من أفكار إبداعية بمقدار ما يكون لك تأثير، وهذا يعني أننا نتوجه نحو عالم أكثر عدالةً، يكون فيه تكافؤ فرص حقيقية ليعبر كل إنسان عن رأيه دون وصاية من أحد عليه، فليس من الحق أو العدل أن يسمع الآخر صوته للعالم، ويظل صوتي حبيس صدري، لا لشيء إلا لأنه تصادف أنه يملك مالاً ونفوذاً أكثر مني، فهذه ليست مقاييس تفاضل حقيقية بين البشر، وما يفاضل بين البشر حقيقةً هو ما يملكونه من أفكار.فإذا تكافأت فرص الجميع في نشر أفكارهم، بما في ذلك أصحاب الأفكار الفاسدة والمنحرفة فستكون العاقبة حتماً لأفكار الخير والحق والعدل التي تنفع الناس وترتقي بحضارتهم وفق القانون القرآني "فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض".
إن البشر بما في داخلهم من أشواق روحية إلهية يستعصون على كل ترسيم وتقييد وخنق لحقهم المقدس في التفكير بحرية والتعبير عن أفكارهم، وإن الإعلام الشعبي قد بدأ بسحب البساط من تحت أقدام الإعلام الموجه المرسم، ونحن على يقين بأن المستقبل سيشهد المزيد في هذا الاتجاه، وحتى الإعلام الشعبي ذاته سيتطور، وإذا كان موقع الفيس بوك بكل ما أتاحه من مساحات واسعة للحرية قد وضع سقفاً لا يسمح بتجاوزه خاصةً حين يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن الناس سيتجاوزونه بدوره، وسيبدعون من الوسائل ما هو أكثر حريةً وأرحب فضاءً ما لم يراجع نفسه، وما سينقذ وسائل الإعلام الحالية من الاندثار هي أن تسارع إلى إدراك هذه التطورات فتعزز الإعلام التفاعلي في داخلها وتصبح أكثر مرونةً واستجابةً لأشواق الجماهير المخبوءة في الصدور حتى قبل أن تخرج هذه الأشواق إلى العلن لأن خروجها سيكون مباغتاً ومدمراً، وسيطيح بكل الحدود والسدود.
إن تاريخ البشرية يسير في اتجاه تقدمي لتحقيق غاية إلهية عظيمة، وهي تجلية النفخة الروحية التي كرم الله بها الإنسان، وانتصارها على ملابسات الطين والغرائز، وهذا هو وعد الله للملائكة "إني أعلم ما لا تعلمون"، فكل الإنجازات التي ينجزها البشر تصب في صالح إظهار ما هو روحي في الإنسان، وتحييد ما هو أرضي، وبهذا المنطق فإن المال والنفوذ التي يتفاوت فيها البشر ويتفاضلون هي أمور أرضية لا تمثل تفاضلاً حقيقياً، بينما الفكر هو أمر إلهي في الإنسان، لذلك فإن الغلبة للفكر دائماً، وفلسفة الإعلام الشعبي أنه يمثل تقدماً وانتصاراً لما هو إلهي، وهو الفكر، فهو الذي يجعل من الإنسان إنساناً، وهو الذي يقوده إلى طريق الحق والعدل..
"ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق