الاثنين، 4 يوليو 2011

نصيحة للإخوان المسلمين*

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

تقف جماعة الإخوان المسلمين في مصر وهي أعرق الحركات الإسلامية الحديثة هذه الأيام على أبواب مرحلة جديدة من تاريخها، فهي في وضع انتقال من مرحلة العمل السري والاستضعاف إلى مرحلة العمل العلني وبدء خطوات التمكين، ولهذه المرحلة الجديدة تحدياتها الخطيرة التي تستوجب حسن التخطيط وعمق الرؤية والحذر من أي خطوات استعجالية قد تقود إلى نتائج عكسية.

ولما كان لهذه الحركة ثقلها العظيم الذي لا يستهين به إلا جاحد أو جاهل فإن هذه الحركة في خطوات سيرها ملك الأمة جميعها وليس لمجموعة محدودة من الأفراد، ومن حقها علينا المساهمة في ارتقائها بالأفكار والجهود مهما كانت هذه المساهمة متواضعةً ، وحين نساهم بفكرة أو نصيحة فهذا ليس دليل فضل لنا في علم أو إيمان أو خبرة، لكن اقتضت سنة الله أن يهدي أحياناً المفضول إلى أمر يستفيد منه الفاضل على فضله..

أدخل في النصيحة مباشرةً ودون إطالة في المقدمات وهي أن من الخطأ الجسيم أن تدخل الحركات الإسلامية معترك الحياة السياسية والانتخابات والحكومات بصفتها الحركية، أو حتى بأحزاب تقوم الحركة بإنشائها رسمياً مما يجعل العلاقة بين الجماعة والحزب واضحةً وغير قابلة للنكران، لأن ذلك يقزم الحركة ويحرفها عن هدفها الأساسي الذي وجدت من أجله وهو الدعوة والإصلاح الاجتماعي، فإقحام الحركات الإسلامية نفسها في الانتخابات والترشح ومتطلبات الحياة السياسية والحزبية يسيء إلى نصاعة وجهها المشرق الدعوي ويفرض حولها جداراً عازلاً عن المجتمع ويحولها بدل أن تكون جاذبةً للجماهير إلى طاردة لهم لأن الجمهور لن ينظر إلى جماعة صارت تنافس على المقاعد والكراسي والمناصب -مهما ساقت من مبررات ودلائل، ومهما كانت هذه المبررات منطقيةً- نفس النظرة التي كان ينظر بها حين كانت دعوةً مجردةً ترفع شعار"وما أسألكم عليه من أجر"

ولأن الموضوع بالغ الحساسية فلا بد من وضع النقاط على الحروف حتى لا يحرف الكلم عن مواضعه، فأنا لا أقصد هنا فصلاً بين الدين والسياسة كما تدعو العلمانية، ولا أدعو إلى انسحاب الحركات الإسلامية إلى المساجد والكتاتيب، وترك السياسة لأصحاب الاتجاهات الأخرى، بل أؤكد على ضرورة أن تظل الدعوة الإسلامية دعوةً شاملةً للإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والروحي وكافة مجالات الحياة، وأن يكون للإخوان كلمة وبيان وموقف تجاه كل حدث ومستجد على أي ساحة من الساحات..لكن ما أدعو إليه هو ألا تتورط الجماعة بثقلها وتاريخها بالنزول باسمها في معترك السياسة فتخسر مركزها الروحي وصورتها النقية وتتحول إلى مجرد منافس سياسي للأحزاب والاتجاهات الأخرى..بل تظل جماعةً دعويةً روحيةً تنشر أفكار الخير والسلام والإصلاح في المجتمع دون أن تقحم نفسها في الأمور التنفيذية حتى لا يلعق في ثوبها الطاهر دنس السياسة وأهواء الدنيا..فلا يشارك الإخوان باسمهم وقادتهم في الانتخابات لا في هذه المرحلة ولا في المراحل القادمة، ولكن في نفس الوقت يكون لهم بصمة واضحة في كافة مفاصل المجتمع بفعل الروح التي نجحوا في بثها في أبنائهم وبين الناس..

فلو كان في الإخوان مثلاً مليون أخ انضموا إلى الجماعة بدافع إيماني خالص لا تشوبه شائبة من طلب منصب أو وظيفة أو غرض من أغراض الدنيا فإن دور الجماعة تجاه هؤلاء الإخوان – ولا أقول الأعضاء لنظل بعيدين عن التأطير والقولبة ونحافظ على أنفسنا كدعوة مفتوحة للجميع- هو الارتقاء بهم إيمانياً وفكرياً وتربوياً وبعد ذلك بثهم في المجتمع فينطلقوا مؤثرين في مفاصله يشكلون الهيئات والأحزاب والنقابات ويترشح منهم من يترشح للانتخابات ويمارس كل إنسان دوره من الموقع الذي يجده مناسباً ولكن بصفتهم الاجتماعية وليس بصفتهم التنظيمية فإن نجحوا في هذه المواقع فإن ذلك بتأثير روح وإلهام الدعوة التي آمنوا بها وتربوا في أكنافها، وعاد ذلك بالنفع على الدعوة، وإن أخفق بعضهم، وهذا شيء حادث لا محالة بما أننا نتحدث عن جهود بشرية لم يؤد هذا الإخفاق إلى استنزاف مكانة الدعوة والإساءة إلى صورتها المشرقة..

لكن المهم هنا هو الابتعاد عن المركزية الصارمة، فلا يكون قرار تشكيل حزب أو ترشيح قوائم للانتخابات النقابية أو البرلمانية أو خوض الانتخابات الرئاسية قراراً مركزياً يصدر عن قيادة الجماعة لأنه في هذه الحالة ستحسب هذه التشكيلات على الجماعة وسيؤثر كل إخفاق على رصيد الجماعة الروحي والاجتماعي، فالجماعة من مصلحتها أن تنأى بنفسها عن هذه التفاصيل، وألا تتدخل فيمن يشكل الأحزاب والهيئات، وألا تتدخل في اختيارات أبنائها فيمن يرشحون ومن ينتخبون، ولا ضرر بأن يكون هناك أكثر من حزب وتجمع ينبثق من شباب الإخوان لأنهم في هذه الحالة يقومون بدورهم الاجتماعي وليس بدورهم التنظيمي، والمجتمع هو الذي يفاضل بين البرامج المطروحة ويختار إحداها، وكون الأخ منتمياً إلى الجماعة ما ينبغي أن يؤدي إلى إلغاء شخصيته ولا إلى تحجيم انطلاقته في المجتمع..

حين تنأى الجماعة بنفسها عن الاستغراق في التفاصيل الإجرائية وتظل محلقةً في سماء الروح النقية فإنه سيكون لذلك الأثر الإيجابي على بناء الجماعة الداخلي فلن يكون هناك مكان في الجماعة للصراع على المناصب والنفوذ لأنه لا يوجد مناصب أصلاً، فالجماعة في هذه الحالة ستظل للعطاء وليس للأخذ، ولن ينتمي إليها إلا من كانت نيته معقودةً على العطاء والبذل والتضحية، وبذلك يظل الصف نقياً من الشوائب وتظل النفوس صافية تجاه بعضها، وتصبح الجماعة عامل جذب للمخلصين من الناس، وفي نفس الوقت عامل طرد لأصحاب الأهواء والنفوس المريضة، فهي ستطهر نفسها بنفسها وستضمن المحافظة على دورها الإصلاحي الدعوي وستحصن نفسها ضد انحرافات الطريق..

إن خطورة أن تقحم الحركة الإسلامية نفسها في معترك السياسة هو أنها تضع نفسها في صف معاد للتيارات والجماعات المنافسة، وتضعف من قدرتها الدعوية على إقناع الناس بسمو أهدافها وجذبهم للانضمام إليها، وتفتح الباب على مصراعيه للمغرضين والمشككين، والأخطر من كل ذلك أنها تصير وسيلةً للمتسلقين وأصحاب الأغراض الشخصية، وتفجر الخلافات والشقاقات داخل صفوفها مما يؤدي إلى تمزيق بنائها الداخلي، ومهما كان مقدار التربية الذي يتلقاه الفرد فإن الإنسان لا تؤمن فتنته، والدنيا إذا فتحت أبوابها أفسدت طبائع النفوس، وستضعف بالتأكيد روح الأخوة والانتماء التي كان يشعر بها الإخوة في مرحلة الاضطهاد والاستضعاف، وسيلمس أبناء الدعوة جفافاً وجفاءً في العلاقات الأخوية لم تكن لتكون لولا الصراع على المناصب والوظائف وغيرها..

إن ممارسة الحركة الإسلامية لدور الملهم الروحي في المجتمع دون أن تتورط في وحل الممارسات التنفيذية يجعل الحركة أكثر اقتراباً من الأمة ويحطم الحدود العازلة بينها وبين الناس ويجعلها أكثر أهليةً لقيادة المشروع الحضاري للأمة، لأنها لن تكون حينها حزباً يتمحور حول ذاته بل فكرةً عامةً تتشربها النفوس وروحاً تسري بين الناس..

هذه الأفكار تراودني منذ زمن لكن ما دفعني للكتابة فيها الآن هو ما طالعته للمفكر التونسي راشد الغنوشي في كتابه (الحركة الإسلامية ومسألة التغيير) فوجدت عدداً من العلماء والمفكرين قد سبق إلى طرحها فاطمأن قلبي وحمدت ربي أنني وجدت من يعبر عما في نفسي من خواطر، وحتى تتم الفائدة فإنني أقتبس مقتطفات من كتاب الأستاذ الغنوشي أنقلها كما هي ..

ينقل الأستاذ الغنوشي عن حسن البنا رحمه الله قوله "إن الإخوان المسلمين جماعة فوق الأحزاب جميعها وهي أكبر من أي حزب سياسي"، ثم ينقل عن الأستاذ سيد دسوقي قوله "إن الحركة الإسلامية حركة إصلاحية عالمية تصرف أبصار الناس تجاه القبلة الربانية وتضع أيديهم على المصحف ليستخرجوا ما فيه من كنوز القيم في كل مجالات الحياة وليبدعوا حولهم نظم حياتهم وليس حركةً سياسيةً تنفيذية"

ويواصل الغنوشي شرح أفكاره الرائعة: "إن من واجب الحركة الإسلامية أن تضخ في المجتمع خريجيها ممن يملكون ملكات في توجهات أخرى ولا تحبسهم في صفوفها"

إن الحركة الإسلامية في هذا التصور أشبه ما تكون بالمدرسة الحضارية التي تقوم بتخريج أجيال صالحة تنبث في سائر شرايين المجتمع وخلاياه لتقوم بمهمة النهوض الإسلامي ويصبح الحزب السياسي في هذه الحالة كالمؤسسة الاقتصادية والقضائية والعسكرية جزءً من الأمة وتكون الحركة الإسلامية منه بمثابة الروح والعقل والدم والأنفاس.

وفي نفس الاتجاه يورد الغنوشي رأياً للمفكر عبد الحليم أبوشقة رحمه الله يقول فيه "إن قيادة الحركة الإسلامية ينبغي أن تكون ذات طابع روحي وفكري وتوجيهي تربوي توجه كل القطاعات على حد سواء بما تملكه من نفوذ روحي وفكري، فهي أرفع من أن تزاحم حزباً من الأحزاب على موقع أو منصب ويشغلها ذلك عن مهمتها الرئيسية في الدعوة، ودون أن تحصر نفسها وتتحيز إلى حزب محدد"

كما يستشهد الكتاب برأي للمفكر محمد رمضان سعيد البوطي ينتقد فيه دعاة إقحام الحركة الإسلامية في تشكيل الأحزاب وخوض الحياة السياسية فيقول "إن هؤلاء الدعاة يتحولون إلى حزب منافس في نظر الآخرين..وهكذا يجعل الإسلاميون من أنفسهم خصوماً وأنداداً لتلك الأحزاب والفئات الأخرى، فكيف وبأي دافع تتهيأ منهم النفوس للإصغاء لدعوة هؤلاء الإسلاميين الذين ينافسونهم ويسابقونهم إلى عواطف الجماهير سعياً منهم للحكم"..انتهى الاقتباس

إن الدخول في دائرة تشكيل الأحزاب وخوض الانتخابات سيؤدي حتماً إلى جدر عازلة بين الحركة الإسلامية وقطاعات كبيرة من المجتمع، ومهما قيل عن عمق التربية الإيمانية فإن للدنيا بريقها الذي يفتن النفوس، ولن تكون الحركة الإسلامية بعد تورطها في الحكم قادرةً على المحافظة على نفس الدرجة من التماسك الإيماني والجاذبية الروحية الذي كانت تتمتع به في مرحلة الدعوة الخالصة..ومن منطلق وجودي في غزة أستشهد بمثال مشاركة حماس في الانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة، فقد أدت هذه الخطوة إلى نتائج عكسية، وإلى تراجع ملحوظ في شعبية الحركة وفي أدائها المقاوم، ولم تعد قادرةً على الاحتفاظ بالتألق النضالي الذي كانت تتمتع به حين كانت حركةً جهاديةً خالصة..

إن الحركة الإسلامية مطالبة بالتنبه لهذه المزالق وأن تستمسك بعنصر قوتها كحركة دعوية روحية، وألا تتورط في الدخول في متاهات تستنزف تألقها وتسيء إلى نصاعة اسمها، بل تطلق العنان لأبنائها للانطلاق في المجتمع بحرية لخوض غمار المنافسة وترجمة الروح التي تربوا عليها في برامج تنفيذية تنفع الناس..

"والله يقول الحق وهو يهدي السبيل"..

*مقال صحيفة المصريون

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق